ليلى نقولا الرحباني *
6 شباط 2006 تاريخ مفصلي في الحياة السياسية اللبنانية، تاريخ وقّع فيه حزبان لبنانيان أساسيان تفاهماً سياسياً مهماً كان له الأثر الكبير في الاصطفافات الحزبية والانقسامات السياسية والطائفية، إذ كان واضحاً خلال سنة مضت أن مرحلة ما بعد توقيع وثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله والانقسامات السياسية الداخلية اختلفت كثيراً عن مرحلة ما قبل هذا التفاهم. اليوم، ولمناسبة مرور سنة على توقيع هذه الوثيقة، نأتي لنراقب فنحدد ما الذي استطاعت أن تقدمه، أين نجحت وأين أخفقت؟
أولاً: أتى توقيع هذه الوثيقة في اليوم التالي لتظاهرة «5 شباط الشهيرة» التي بدأت احتجاجاً على نشر الرسوم المسيئة للنبي فتحولت أعمال شغب في الأشرفية واعتداءً على الكنائس الموجودة هناك. وعلى الرغم من أن موعد التوقيع كان مقرراً مسبقاً، إذ أخذت الوثيقة أشهراً من المفاوضات بين الطرفين، إلا أن «الصدفة» سمحت للطرفين الموقّعين بإظهار نفسيهما دعاة سلام ووئام بين اللبنانيين مقابل أصحاب السواطير ومثيري الشغب والفتن الطائفية من الأطراف السياسيين الآخرين، وهذا إنجاز سياسي مهم استطاعت الوثيقة أن تقدمه لموقّعيها منذ اليوم الأول.
ثانياً: لقد قوّضت هذه الوثيقة إمكانية حصول فتنة طائفية بين المسيحيين والمسلمين حاول البعض الدفع في اتجاهها من خلال «غزو الأشرفية»، فقد أخرج التيار الوطني الحر، من خلال توقيعه ورقة التفاهم، المسيحيين من معادلة التجييش الطائفي والمذهبي، بصفته ممثلاً للغالبية المطلقة منهم.
ثم ما لبث أن تحول الانقسام في لبنان انقساماً سياسياً بامتياز، ولم يعد انقساماً عمودياً بين أديان وطوائف، فنلاحظ مثلاً ان المعارضة تتألف من جميع الطوائف، والموالاة كذلك، وهكذا أُسقط في يد دعاة التقسيم الطائفي، ودعاة الاقتتال المسيحي الاسلامي، ما جعل دعاة التفجير والفتنة في لبنان يحاولون اللعب على وتر الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، أو إعادة تجربة الاقتتال المسيحي الداخلي.
ثالثاً: إن المتابعين على الأرض يلاحظون أن هذا التفاهم قد أدخل «السلام والطمأنينة» الى قلوب الكثير من المواطنين، وخاصة مواطني ما كان يُعرف بـ«خطوط التماس» سابقاً، وبين مسيحيي الجنوب والبقاع ومسلميه، أو بكلام أوضح بين المسيحيين والمسلمين الشيعة في جميع المناطق. ثم لا يمكن إنكار ما كان لهذه الوثيقة من تأثيرات ايجابية في النازحين الهاربين من العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز الفائت، واستقبالهم في المناطق التي يعرف فيها التيار الوطني الحر نفوذاً كبيراً، إذ لاحظنا ان نظرة مناصري التيار الوطني الحر ومؤيديه ومعاملتهم لهؤلاء اختلفت عن نظرة بقية السكان المنتمين الى أحزاب سياسية أخرى، إذ اعتبر العونيون هؤلاء «ضيوفاً» يجب إكرامهم واحتضانهم، بينما أشاع الآخرون الخوف من التمدد الشيعي الى المناطق المسيحية.
رابعاً: يمكن اعتبار ان توقيع هذا التفاهم كان محطة حاسمة في التعايش الحضاري والثقافي والطائفي اللبناني، إذ أتى بمثابة خطوة تأسيسية لبناء لبنان «الذي تطمئن طوائفه بعضها إلى بعض»، وهذا بالضبط ما جعل المسيحيين في المعارضة مطمئنين وواثقين من أن سلاح المقاومة لن يُوجّه الى الداخل، كما صرح ويصرح قادة حزب الله دائماً.
هذا على الصعيد العام، أما في الخاص فقد أحدثت هذه الوثيقة تطوراً في المسار السياسي لحزب الله، فقد انطلق الحزب عام 1982 حركةً إسلاميةً بأبعاد وطنية وقومية، وانتهى في السنوات الأخيرة حركةً وطنيةً بأبعاد إسلامية وقومية. وكان البيان الذي عبّر عنه حركةً إسلاميةً بأبعاد وطنية وقومية هو الرسالة المفتوحة عام 1985 التي غلب عليها الطابع العقائدي مع مراعاة الخصوصية اللبنانية، أما الرسالة الثانية التي تعبّر عن هذا التطور في السنوات الأخيرة، أي عن الحركة الوطنية بأبعاد قومية وإسلامية، فهي بالضبط وثيقة التفاهم مع التيّار الوطني الحرّ بما تضمنته من مواقف سياسية وفكرية ــ سياسية. أما من الناحية المسيحية، فإنه وللمرة الأولى بعد وثيقة التفاهم وبعد الموقف الذي اتخذه التيار الوطني الحر في الوقوف الى جانب المقاومة خلال عدوان تموز، لم يعد يُنظر إليهم كـ«أهل ذمة» في هذا المحيط العربي، وأسقطت عنهم تهمة العمالة لإسرائيل التي استمر «دعاة الوطنية» يرددونها، ويأخذون طائفة بأكملها بجريرة مجموعة صغيرة من المسيحيين إبان الحرب الأهلية.
في النهاية، لا بد من أن نسجل أن هذه الوثيقة أحدثت فرزاً سياسياً لا يُستهان به على الساحة الداخلية، عوض من أن ترخي بظلالها «التفاهمية» على الأطراف الداخليين الآخرين، وتجمع حولها تأييداً من القوى الأخرى، على الرغم من أن البنود التي أجمع عليها القادة اللبنانيون في «مؤتمر الحوار» كانت متطابقة تماماً مع بنود «ورقة التفاهم». وهنا نستطيع القول إن القادة الموقّعين على وثيقة التفاهم أخفقوا في إدخال الآخرين إليها، على الرغم من أنهم كانوا قد أعلنوا مراراً ان هذه الورقة ليست موجهة ضد أحد والجميع مدعوون للدخول أطرافاً فيها سواء بنصوصها الحالية أو مع إدخال بعض التعديلات. هل يتحمل طرفا الوثيقة مسؤولية هذا الإخفاق أم هي مسؤولية الأطراف الأخرى؟ هذا سؤال لسنا بصدد الإجابة عنه هنا.
ولا ننسى الإخفاق في ما يختص بالبنود الإصلاحية، لكننا، من باب الإنصاف، لا نستطيع تحميل الطرفين الموقّعين وزر عدم تطبيق البنود الإصلاحية الواردة في ما خص أمور الدولة والقانون والمؤسسات والقضاء والإدارة والأمن ومكافحة الفساد وقانون الانتخاب... بسبب عدم وجودهما في مواقع السلطة، بالإضافة الى ان الظروف السياسية والأمنية والإقليمية حالت دون بتّ قضية المعتقلين في السجون السورية وحلّ قضية المبعدين الى اسرائيل.
كان توقيع هذه الوثيقة بين الطرفين مهماً جداً إذ إنها جاءت لتجمع بين تنظيمين حزبيين يختلفان عن بعضهما اختلافاً جوهرياً في الخطاب السياسي وفي الأدبيات وفي البيئة المجتمعية والثقافية التي ينبثق منها الطرفان، إلا أنهما يتقاطعان في نقطتين مهمتين: أولاهما، العمل المقاوم، مع اختلاف أساليبه بين الطرفين، إذ قاوم العونيون السوريين مقاومة سلمية لاعنفية بينما استعمل حزب الله المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، والنقطة الثانية تتجلى في عدم اشتراك أي من الطرفين في الفساد ونهب المال العام. لا شك في ان لهذه الوثيقة أهميتها على الرغم من كل ما تردد عنها من شكوك في النيات والأهداف، إذ انها شكّلت نقطة التقاء التيار السيادي مع التيار التحريري، فقد أثبت التيّار الوطني الحرّ من خلال تاريخه وأدبياته وسلوكه، أنه تيار سيادي بامتياز، تيار غير مرتهن بأي إرادة خارجية من أية جهة كانت. كذلك ما من أحد يستطيع ان ينكر أن حزب الله هو تيار تحريري بامتياز.
لذا، لا بد من إعطاء فرصة لوثيقة التفاهم هذه كي تحقق ما وعدت به، وهي من دون شك لو استطاعت توفير الإجماع عليها لأسست شراكة وطنية حقيقية، تبني الوطن على أسس ثابتة متينة.
* باحثة لبنانية