اتجاه المنطقة يتوقف إلى حدّ بعيد على مآل تسوية الملف النووي الإيراني. إنجازه يُهدّد إسرائيل عميقاً، حتماً، ويطاول لهبه السياسي المملكة السعودية من دون شك، إلّا أنه تبقى الفرصة قائمة لإنجاز التسوية بل وتزداد، فإيران – نووية - ستكون على أريحية سياسية أكبر– كما ينظّر كينيث والتز رائد مدرسة الواقعية البنيوية - ما يعزز إمكانيات التفاوض والتعاطي الأمرن مع ساحات الصراع الملتهبة... وإذا فشلت فحتماً سنكون إزاء تضييع تلو آخر لبصيص أمل في آخر النفق، وآنئذٍ لتتحضر المنطقة الأكبر لصراعات إضافية تغيب فيها حدود الاشتباك وقواعده المعروفة حتى اليوم، فهل ينتظرنا الحريق الكبير؟
تُعيد المرحلة بتعقّدها وتشابك دوائرها وأبعادها والتشظي الذي ولّدته الأذهان، إلى لحظات التاريخ الاستثنائية وتحولاته الكبرى وتمفصلاته، لحظات الأسئلة حول النظام العالمي القائم وتلك الإقليمية المبثقة عنه.
المنطقة تتجه إلى سياسة حافة الهاوية مع ما تحمله من مخاطر بتدخل الأصيل بعد تراجع البديل

تفرض الاستحقاقات الداهمة والمقبلة أجندتها، فتخرج الوضعية السياسية القائمة من حالة «إدارة الأزمة» إلى حدود تعميقها (كما تفعل الولايات المتحدة حتى اللحظة) إلى ضرورة الحسم والمبادرة وأخذ الخيارات في مختلف القضايا المهمة أو المنخفضة التوتر، وما من شك في أن أداء الأطراف الإقليمية سيكون حاسماً في السير إلى الانفراج أو الانفجار الكبير.
التحالفات «الموضوعية» التي كانت سمة مرحلة الغموض تلك، والصراعات غير المباشرة بين القوى الكبرى، من سوريا إلى العراق فالبحرين واليمن ومصر وأوكرانيا، وفشل القوى العظمى في توقع الأحداث ومساراتها ونطاق تشظيها، فضلاً عن سؤال «التقدير» في قراءة دينامية القوة وفاعليتها، وتغليب المواقف التكتية والمناورات الاستكشافية، كلها وصلت إلى نهاياتها، ما يُحتّم على كل القوى خصوصاً الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين حسم الخيارات والاعتمادات على غير صعيد.
ثبات محور المقاومة واستعادته للمبادرة بل والاندفاع بخطوات ميدانية سريعة ومؤثرة، لا سيما سورياً وعراقياً ويمنياً، يبدو عنصراً مهماً في تعجيل حسم الخيارات. تزامن ذلك مع انكشاف ورقة الإرهاب على لسان الغربيين أنفسهم. ورقة أحرجت مشّغليها بل وهددّتهم، بكلمة أخرى فقدت زخمها وفاعليتها بخلاف ما كان يتوقع لها - عقد أو عقدان بحسب تصريح الرئيس الأميركي بارك أوباما -. وهذا ما دفع مشغليها لمحاولة استبدالها بنسخة جديدة معدّلة، تكون حصان طروادة السياسي الجديد، لإعادة الاعتبار والحضور الفاعل بعد نكسة التراجع الأخير.
وكما كان متوقعاً دهم الإرهاب أوروبا فأوجد تهديداً مزدوجاً، داخلياً (فأغلب مقاتلي داعش الأجانب هم من المواطنين الغربيين بحسب التقارير)، وآخر عبر شاطئ بحيرة المتوسط المقابل.
تبيّن أنّ الأداة الإسرائيلية أعجز أن تقوم بدور فعّال ومحوري كما في الملف السوري، رغم تأييدها ودعمها قوى المعارضة المقاتلة، فانكفأت للترقب على وقع إرباك كبير في القرار وهواجس تتنامى. وراحت بضغط الهواجس والتهديدات، وغياب القيادة السياسية، إلى تهديد أمنها الاستراتيجي الذي يقوم على هيبة أميركا وسطوتها العالمية، فأقدمت على سابقة التحدي الأكبر لهيبة أميركا في العالم وحضورها، كما على رئيسها ومختصر قيَمها كما يفترض، وهو ما ستتبدى آثاره وانعكاساته ولو بعد حين على بنية المجتمع الأميركي الداخلية، كما على نظرته إلى إسرائيل بما يشبه التحول الذي حدث في المجتمع الأوروبي تجاه إسرائيل.
الأزمة الأوكرانية، أيضاً، أفرزت إرهاصات تباين حاد برز أخيراً إلى العلن عند أقطاب الناتو (ألمانيا – أميركا) بوجه الاتحاد الروسي، ما دّل على المدى الأميركي المستطاع لتوظيف الناتو لمشروعه وتطلعاته، فثبت أنّ الأخير نجح بوضع أجندة الـ«لا» ويؤكد فشله في إنجاز أجندة الـ «نعم». أتت أزمة اليونان المفاجئة بانعاكاستها، لتزيد إرباك صانع القرار الاقتصادي والسياسي الأوروبي تحديداً.
ولعّل التحدي العالمي الخطير على وقع «التطهير الثقافي والديني» للمسيحيين العرب، خصوصاً بأداة الإرهاب، وبغطاء إن لم نقل تواطؤ السلطة الزمنية في الغرب، فتح الباب أمام سؤال المستقبل: سؤال التنوع وعلاقة الديانتين كفرصة تلاقي، وحوار لطالما ارتكز إليهما المسار الإنساني في رؤيته للحضارة ولتحقيق الأمل بالأمن والسلم المنشودين.
وشهدت المرحلة بداية تحول جدّي ومتصاعد في نظرة «المجتمعات الغربية» للمنطق المفروض للصراع، وطبيعته وكيفية إدارة حكوماتها له، فلم يعد بإمكان المجتمعات تقديم سياسات قوى المصالح والضغط العميقة على مصالحها واستقرارها فالـ«ثقافة» يجب أن تعود لقيادة القاطرة، والمجتمع هو هدف السياسة، بهذا الفهم يمكن قراءة طلائع البعثات الأوروبية السياسية وغيرها إلى سوريا، لفتح خطوط التواصل المباشر، والنقاش المتفاعل داخل المجتمعات الغربية والصوت المجتمعي المسروق أو المُجهّل. وتأخر النتائج السياسية لهذا الحراك الأوروبي، طبيعي، لكنه سيبدأ بالتبلور قريباً وبشكل تدريجي.
يضاف إلى المقولات الآنفة، استحقاق «الملف النووي الإيراني». مع مجموعة 5+1 ستتصدر حُكم مختلف القضايا والتحديات المطروحة، وتُشكل إمارة المرحلة المقبلة ومحدِّداً رئيساً لوجهة السير فيها.
ترى أميركا في إنجاز التسوية مصلحة استراتيجية لاعتبارات كثيرة؛ فبعد ثلاثة عقود ونيّف - وكما تؤكد المعلومات آخرها في السنوات القليلة الأخيرة - أنها فشلت في استمالة إيران، فضلاً عن استيعابها. وفشلت في الحد من تخصيب اليورانيوم وفي تغيير سلوك النظام باعتماد القوتين الناعمة والنصف خشنة (الحصار الاقتصادي)، وفشلت في إضعاف حضور إيران في المنطقة، بل خرجت إيران من كل هذه المواجهات أقوى، بل الأقوى في المنطقة والأكثر نفوذاً، فهل ستترك أميركا المنطقة لعدّوها الرابح -المقتدر؟
يجب أن لا يشكل الاعتراف النووي اعترافاً سياسياً بقدرتها ونفوذها السياسي، المطلوب تطويقه وخنقه وشلّه سياسياً حال حصوله. لا يجب أن يعبر الانتقال النووي، بإيران إلى نظام إقليمي جديد.
لذلك تتطلع أولاً لتطويق إيران سياسياً، ثم لاستنزافها من خلال القوى الإقليمية، بما يثبّت وجودها ويُكرّس التوازن الهّش الذي يجعلها حاجة دائمة للجميع.
يتطلب ذلك وبالتنسيق مع حلفائها أو خلفائها (من يخلفها في المنطقة - كالبريطانيين –أولاً) رزمة سياسات وخطوات عسكرية وسياسية تتبدى ملامحها كالآتي:
أولاً: تغيير أو تعديل المقاربة الأميركية التي اعتمدتها بداية حكم أوباما، من قبيل تجنب التدخل العسكري والأخذ بالمشاركة والتسويات في القضايا الدولية.
أ. ميدانياً: تعزيز الحضور والدعم لحلفائها الإقليميين في المناطق الأسخن عبر:
مسارعة أميركا لإعلان التدخل الميداني المباشر في الموصل لمحاربة «داعش».
المسارعة لإنجاز الاتفاق الأميركي - التركي على تدريب المعارضة السورية «المعتدلة»! وما يفيده ذلك في مجريات المعركة إن أمكن، أو في الثمن السياسي حال التسوية في الملف السوري، بما يشبه أو يعيد تكرار تجربة بريمر في العراق.
تعزيز نوعية السلاح للمعارضة السورية بما يساعد في تحقيق إنجازات عملية.
إعلانها الإبقاء على عشرة آلاف عسكري في أفغانستان بما يخالف تعهدات الإدارة المعلنة سابقاً.
إنشاء وتعزيز قواعد عسكرية لحليفتها بريطانيا بشكل رئيس كما في البحرين، الإمارات والخليج عموماً... وهذا يفسر إلى حدّ ما المنافسة الفرنسية التقليدية على النفوذ في المنطقة، والذي يظهر كأنه معاكس لأميركا في بعض التوجهات.
إعادة الدخول على خط الأزمة اليمنية بتبنٍ واضح لسياسة السعودية ورؤيتها في مواجهة الحوثيين.
تحريك الملف السوري وإمكانية التدخل العسكري المحدود أو المباشر منها أو من أحد حلفائها (تركيا وإسرائيل)، أو إنشاء مناطق حظر جوي على أجزاء من الأراضي السورية .
إنجاز صفقات التسليح الضرورية – لضمان حلفائها خصوصاً السعودية وإسرائيل.
ب. سياسياً:
وهو الأهّم والأخطر ومحّط النظر، مسعاها السياسي لإنشاء حزام أو طوق طائفي لمحاصرة إيران من خلال تقارب إخواني – سعودي وحتى باكستاني إن أمكن، تكون إسرائيل ظهيره. وقد يلازم الصفقة مخطط إجهاز على المقاومة الفلسطينية باليد المصرية إن أمكن، أو بتأمين الغطاء (كورقة اعتماد لأميركا للاعتراف الفعلي بالحكم المصري) وربما على حساب الأردن، فالخطوة أكثر من ضرورية للتخلص من النفوذ الإيراني في فلسطين بحسبهم... (وهذا ما يجب أن تتنبّه إليه فصائل المقاومة خصوصاً «حماس» وتبادر لنزع فتيل الأزمة مع الحكم في مصر وتجري المصالحة وحتى الاعتذار المطلوب).
إنّ هذه المقاربة تؤكد استمرار اعتماد أميركا للإخوان كحليف على طريقة النموذج التركي، وعدم تبديل رهانها عليهم حتى اللحظة.
أميركا وحلفاؤها يسابقون الزمن ويجدّون الخطى لخلق الواقع الجديد. إنّه آخر الخيارات الضرورية الممكنة لتعديل كفة المنطقة لمصلحة حلفاء واشنطن، أو لإحداث التوازن قبل أن يتمكن محور المقاومة من تثمير خطوات التقدم التي حصّلها حتى اليوم.
في المقابل، يعتبر محور المقاومة أن أقوى قوته وسِّر تمايزه يبدآن أولاً في وضوح الرؤية عند منظومته مقابل الطرف الآخر، وبالتالي ثباته هو المطلوب لإسقاط أهداف عدوه وخصمه؛ فمحور المقاومة أقدر من وجهة نظره على التوفيق بين «القوة والقدرة». ورؤيته لتفسير الصراع تسود تباعاً. وهو إلى ذلك، يستكمل الإفادة من أوراق قوته ويسعى إلى استخراج بل واستيلاد أوراق قوة جديدة وتعيين خطوات المواجهة المقبلة، فمرحلة الذروة في المواجهة قد انقضت بفهمه، وما قامت به أميركا وحلفاؤها أقصى ما يمكن من أوكرانيا... إلى سوريا، ولذلك يسير بخطين متوازيين سياسياً وعسكرياً:
أ. عسكرياً
يسابق الزمن لتثبيت إنجازاته العسكرية واستعداده لحسم معركتي العراق (صلاح الدين والموصل) وسوريا (حلب ودرعا) وكذلك لتدعيم جبهة اليمن (القوة الكامنة)، وإبقاء ملفات أخرى في الخليج وغيره على درجة سخونة منخفضة.
يُصّر على مد يد التفاوض والتسوية سياسية ابتداء من السعودية، فخطاب حتمية الحل السياسي – والتفاوض الوطني المباشر- هو المدخل الوحيد لمعالجة أزمات المنطقة، ويعطيه هذا المنطق أفضلية كبيرة لا سيّما بعد أن انتقل إلى المبادرة والفعل، إنه يمّد اليد من موقع القوي.
التحضر والتأهب للفعل العسكري المباشر وفق قواعد تأخذ بالمحددات التالية:
القضية الفلسطينية ومقاومتها خط أحمر قبل وبعد الاتفاق النووي، التدخل الإسرائيلي المباشر أو الغربي المباشر المؤثر خط أحمر، والاقتراب إلى الداخل الإيراني كذلك.
تسريع العمل للاقتراب من الحدود الإسرائيلية عبر بوابة الجنوب السوري، وتدعيم مقاومة غزة والسعي الحثيث لإنتاج مقاومة في الضفة الغربية.
يسارع لتفعيل العلاقات العسكرية الروسية – الإيرانية خصوصاً منظومات صواريخ أرض-جو.
التصعيد النوعي في الميدان تكتيكاً وتسليحاً ربطاً بأداء الطرف الآخر الميداني وداعميه.
يحضّر لتفعيل ورقة الاقتصاد (الغاز إيران) كأحد أوراق الصراع غير المفّعلة إلى اليوم.
ب. سياسياً:
تجيير الثغرة الكبيرة التي ستتولد جراء الاستدارة التركية للتحالف مع أميركا والسعودية في محاربة «داعش»، بما يفضح السياسة التركية وبراغماتيتها المفرطة، فليس تنظيم «داعش» إلّا ورقة سياسية في ساحة المصالح والنفوذ، فضلاً عمّا يمكن أن يحدثه التقارب التركي - السعودي المتوقع على مصر العروبة.
يرى في المشهد الأوسع تباعداً سيتنامى ويُمكن العمل على توسيعه في مواقف الدول الغربية، بلحاظ رؤية كل دولة لمصالحها والتهديدات الماثلة أمامها. ويفرض ذلك على أوروبا ومسعى كل دولة فيها لحجز دور رئيس لها إزاء حالة الفراغ الاسترتيجي الناشئ، فالمؤشرات ما فتئت تؤكد تذمر بعض دوله الرئيسة كألمانيا وإيطاليا، من استئثار كل من فرنسا وبريطانيا بمواقع النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة.
وينظر بإيجابية لدينامية «تحول» متسارع في المجتمعات الأوروبية التي دخلت مرحلة الاستقطاب الحاد، والعلني على السياسات الخارجية في ظل تحديات اقتصادية، أمنية، ومجتمعية متصاعدة، ما قد يعيد رسم الخريطة الداخلية في أكثر من مجتمع أوروبي للانتخابات المقبلة.
ينظر دائماً إلى مصر ودورها الريادي رغم جراحها بعين الحريص ويتطلع لمساعدتها وإسنادها في مواجهة الإرهاب، وتثبيت وحدتها وحفظ جيشها وعقيدته.
إلا أن الأهّم والأبعد هو طرح إيران الانضمام إلى منظمة شنغهاي (التي كان الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن محكّها الأول) أي الانتقال من دولة مراقبة إلى دولة كاملة العضوية. والأسئلة الكبيرة التي يخلفها هذا المسعى. فهل نسير لبناء منظومة – لن نقول حلفاً – للتصدي للناتو في «الشرق الأوسط الكبير» في المدى المنظور؟ إلى أي مدى تمتلك الخطوة فرص النجاح؟ وهل هي لحظتها المناسبة؟ بماذا ستمتاز هذه التجربة حال النهوض بها؟ وهل سيكون أول استحقاقاتها وقف الحظر الاقتصادي عن إيران والبحث عم مخرج في القانون الدولي لذلك – فيما لو فشل التفاوض – أم تذهب لإفراغ القرار عملياً وبالممارسة من مضمونه.
ضمن هذه الرؤى ومن خلالها يجّد كل محور في سياق صراع الشوط الأخير للدفاع الاستراتيجي أو للهجوم حين تقضي الضرورة. وإزاء كل ذلك، يبدو أن المنطقة تتجه إلى سياسة حافة الهاوية مع ما تحمله من مخاطر بتدخل الأصيل بعد تراجع البديل وانقضاء مرحلة انتظار الرابح المُنهك.
* باحث لبناني