رياض صوما *
مع بداية العام الحالي، تصاعد التوتّر السياسي والعسكري بين الولايات المتحدة وعدد من أخصامها الدوليّين والاقليميّين إلى درجة خطيرة. ولكن ذلك لم يحل دون تواصل الحوارات والتسويات، التي تخلّلها الكثير من السجالات والضغوط، من كوريا الشمالية شرقاً حتى بولونيا وتشيكيا غرباً، مروراً بمختلف أرجاء الشرق الأوسط. كانت المفاوضات السداسية الخاصة بالملف النووي الكوري الشمالي، تترافق مع الضغوط السياسية والاقتصادية على بيونغ يانغ. ووصلت إلى حدّ تجميد حسابات بيونغ يانغ في البنوك الأجنبية، وفرض الحصار الاقتصادي عليها. وكان الحوار مع إدارة بوتين وزيارات المسؤولين الأميركيين المتكرّرة إلى موسكو، تتناقض مع تأكيد قرارات إدارة بوش بشأن الدرع الصاروخية، ومواصلة دعم القوى المعادية للروس في كل المدى السوفياتي السابق. كما كانت اللقاءات بين موفدي واشنطن وممثّلي طهران في بغداد حول أوضاع العراق والمنطقة، تواكب الحشود البحرية الأطلسية المتزايدة في مياه الخليج العربي ـــــ الفارسي، والتهديدات المعلنة والمبطّنة، والسيناريوهات المتنوّعة، بشأن ضربات جوية محتملة ضدّ إيران. وكانت تصريحات روبرت غايتس وزير الدفاع الأميركي المهدّئة، تتعارض مع الضغوط الغربية المتواصلة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، مباشرة وعبر مجلس الأمن، وكذلك مع تحليلات الصحافة حول الحرب القادمة مع إيران، وتهويل جورج بوش باحتمال نشوب حرب عالمية بسبب المشروع النووي الإيراني.
والسباق بين الحوار والمواجهة مستمرّ.
يرى بعض المحلّلين السياسيّين، أنّ رفد التفاوض بالضغوط والحرب النفسية، إحدى القواعد الطبيعية للصراع. ويرى آخرون أنّ هذه الازدواجية في الاداء الأميركي، ما هي سوى انعكاس للتنافس غير المعلن بين أجنحة الادارة الاميركية، وتحديداً جناحي رايس «المعتدلة» وديك تشيني «المتصلّب». بينما يرى المتفائلون من أخصام إدارة جورج بوش، أنّ ما يجري ليس سوى أحد مظاهر تخبّط تلك الادارة المحشورة بين فشل رهاناتها عالمياً وإقليمياً، والسقوط المتوالي لحلفائها من إسبانيا وإيطاليا وصولاً إلى أوستراليا مروراً بلندن من جهة، وصعود الديموقراطيّين في الداخل، واقتراب موعد المعركة الرئاسية المقبلة من جهة أخرى.
وربما كانت الحقيقة مرتبطة بكلّ هذه العوامل مجتمعة. في الواقع، أمام عجزها عن حسم المواجهات التي أثارتها دولياً وإقليمياً، لجأت إدارة بوش إلى البحث عن حلول تلفيقيّة لمصاعبها. فبدت تكتيكاتها مفتقرة إلى التماسك والفاعلية، وخاصة منذ مطلع الصيف الماضي. فنهج الجمع بين الضغط والمساومة، ليس وصفة سحرية بحدّ ذاته لحلّ جميع المشاكل، وخاصة عندما يكون ميزان القوى غير كاف، والمساومة غير مندرجة في سياق رؤية استراتيجية صحيحة ومبتكرة. لذا وجدت وتجد الادارة الأميركية الحالية صعوبة في استعادة زمام المبادرة رغم كثافة تحركاتها. فقد فشلت في الحصول على ضمانات حقيقية لتفكيك المشروع النووي الكوري الشمالي، رغم تراجعها عن الحصار الاقتصادي على بيونغ يانغ. بل على العكس من ذلك، عادت الحرارة إلى العلاقات بين الأخيرة وسيول، بعيداً عن رغبات واشنطن.
وفشلت في وقف تصاعد الاعتراض الروسي على مختلف المستويات والجبهات، من المناورات العسكرية المشتركة التي نفّذتها موسكو وأطراف معاهدة شانغهاي في وسط آسيا، إلى زيارة بوتين لطهران وبدء تزويد مفاعل بوشهر بالوقود النووي رغم اعتراض المسؤولين الأميركيّين، إلى توقيع الرئيس الروسي منذ أيام قليلة، قرار تجميد التزام روسيا بمعاهدة الحد من الاسلحة التقليدية في أوروبا. كما فشلت في الاحتفاظ بالحياد الصيني النسبي حيال سياساتها، وكان آخر تجليات ذلك، رفض الصينيّين تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران. وفشلت أيضاً في إلزام البرادعي ولجنة الطاقة النووية التابعة للأمم المتحدة، بصياغة تقريرمنحاز ضدّ إيران في ما خص ملفها النووي، أو إلزام هذه الأخيرة بتجميد التخصيب، عبر المفاوضات التي أجراها سولانا مع سعيد جليلي خلال الأسبوع المنصرم.
وحتى ما اعتبرته إنجازاً في مؤتمر أنابوليس، بدأ بالتآكل بعد أيام من اختتامه. وكانت أوّل ضربة يتلقّاها من إسرائيل التي عقد من أجلها، إذ رفضت إصدار قرار من مجلس الأمن يثبت توصياته، لأنّها لا تنوي تطبيق أيّ منها. وجاءت الثانية عبر زيارة نائب وزير الخارجية السوري الى طهران التي أكّد خلالها متانة التحالف الإيراني ـــــ السوري. أمّا ثالثة الأثافي، فكانت الحفاوة التي استُقبل بها الرئيس الإيراني في القمة الخليجية الأخيرة، ما يعني أنّ جنوح إدارة بوش أكثرفأكثر، نحو الحوار والتسويات، وتراجعها عن التصعيد العسكري، كما بدا من سلوكها في مؤتمرات بغداد المتكررة، ومؤتمر اسطنبول، ومؤتمر أنابوليس، بات نهجاً غالباً، يفرضه من جهة التعثر العسكري، ومن جهة أخرى المصالح السياسية للإدارة الاميركية وللحزب الجمهوري. ويعزّز هذا الاحتمال، تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأخير الذي رجّح تجميد إيران لنشاطاتها النووية ذات العلاقة بالاستخدام العسكري منذ 2003. حيث إنّ مضمون التقرير يجعل أي عدوان أميركي على إيران مفتقداً للحدّ الأدنى من التبرير.
ومن المستبعد أن يكون إعلان مضمون التقرير في هذا الوقت قد تمّ دون معرفة الادارة. وهذا يرجّح أن إدارة بوش مهتمّة بإيصال رسالة تهدئة الى أخصامها، ورسالة سلمية إلى الشعب الأميركي، تحسّن وضعية الحزب الجمهوري في مطلع العام الانتخابي. كما يفسّر إلى حدّ ما، الانعطافة الحادة لقادة «ثورة الأرز»، من الخطاب التهديدي والتصعيدي إلى الخطاب التوافقي والتصالحي.
مع ذلك، لا ينبغي المبالغة في الاستنتاجات. فلا الاستراتيجية الأميركية قد وصلت إلى حائط مسدود، ولا أخصامها في وضعية من هو قاب قوسين من الانتصار أو أدنى. فالخسائر العسكرية الأميركية في العراق تراجعت الى حد كبير في الأشهر الأخيرة، رغم أن الايرانيين يعتبرون ذلك بادرة حسن نية من بعض أطراف المقاومة، لا تغيراً في المعادلة. و«حماس» وقطاع غزة، في وضع يزداد صعوبة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، رغم صلابة الإرادة السياسية لقيادة «حماس» وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية. والمعارضة اللبنانية قد تتعرّض لضغوط متزايدة من الرأي العام السياسي والشعبي الراغب في الخلاص من وطأة الفراغ السياسي واحتمالات الانهيار الاقتصادي، للقبول بتسوية بتراء. لذا من المرجّح أن تواصل الإدارة الاميركية معركتها ضمن سقف مضبوط، عبر تسويات موضعية، جزئية ومحدودة، ودون تقديم تنازلات جدية. هذا يعني متابعة الصراع بتوتر منخفض، من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية المقبلة. بعدها يجري تعديل الخطط والتكتيكات.
سواء عاد الجمهوريون أو جاء الديموقراطيون الأميركيون، لن تتغير ثوابت الاستراتيجية الأميركية في العالم والمنطقة، دون تغيير أكثر عمقاً في موازين القوى. وهذا لا يبدو في متناول اليد، في المدى القريب، على عكس ما نتمنّاه، ويتمنّاه ضحايا تلك الاستراتيجية.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني