طارق علي
مع الوقت أعيد انتخاب بنازير بوتو عام 1993، وكانت قد تخلّت عن كل أفكار الإصلاح، لكن استعجالها التحرك بدا واضحاً عندما عيّنت زوجها وزير الاستثمارات، ما جعله مسؤولاً عن كل عروض الاستثمارات من داخل البلاد ومن خارجها. ويُزعم بشكل شائع أنّ الثنائي حقّق 1.5 مليار دولار أميركي. تحولت الإدارة العليا في حزب الشعب الباكستاني إلى آلة لجني المال، ولكن من دون أي آلية ليفيد منه صغار المستثمرين والمستهلكين. جسدت هذه المرحلة حقبة الفساد الكامل للحزب. وعندما كنت أطرح أسئلة، كان كل أعضاء الحزب الذين يشعرون بالعار يقولون «الجميع يفعل ذلك في كل أرجاء العالم»، وبالتالي، كانوا يقبلون بأن يكون المال الهم الوحيد الآن. رفضت معاقبة مغامرة عسكرية معادية للهند في كارجيل على منحدرات جبال الهملايا، ولكن للتعويض عن ذلك، كما كتبتُ في لندن ريفيو أوف بوك (15 نيسان/أبريل عام 1999)، دعمت حكومتها استيلاء الطالبان على كابول ـــــــ وما جعل الأمر مثيراً للسخرية بشكل مضاعف أنّ واشنطن ولندن رفعتا من شأنها واعتبرتاها بطلة من أبطال الديموقراطية.
عارض مرتضى بوتو الانتخابات من الخارج، وفاز بمقعد في الهيئة التشريعية في إقليم السند فعاد إلى موطنه، وعبّر عن عدم رضاه عن جدول أعمال أخته، فساد التوتر الاجتماعات العائلية. كان يتصف مرتضى بنقاط ضعف، لكنه لم يكن فاسداً، وعبّر عن تفضيله البيان الرسمي الراديكالي القديم للحزب. لم يخفِ رأيه بزرادري، إذ رأى أنه متطفل لا يهمه إلاّ المال. اقترحت نورسات بوتو أن يُعيَّن مرتضى كبير وزراء إقليم السند: فكان جواب بنازير عزل أمها من منصب رئاسة حزب الشعب الباكستاني. وتحول أي تعاطف ربما أحس به مرتضى حيال أخته إلى اشمئزاز منها. فلم يعد يشعر بأنه مجبر على ضبط لسانه، وراح يهاجم زرداري والنظام الفاسد الذي تترأسه أخته كلما سنحت له الفرصة. ولم يكن تكذيب الوقائع التي يقدمها بالأمر الممكن. وأسند مركز كبير الوزراء في إقليم السند إلى عبد الله شاه، وهو أحد أتباع زرداري. فبدأ بمضايقة مؤيدي مرتضى، فقرر هذا الأخير مواجهة الرأس المدبر بنفسه. فاتصل بزرداري ودعاه لزيارته من دون حراس شخصيين لإجراء دردشة غير رسمية في محاولة لحل المشاكل ضمن العائلة. فوافق زرداري. وعندما كان الرجلان يسيران في الحديقة، ظهر أتباع مرتضى وأمسكوا بزرداري. ثم أحضر أحدهم موسى حلاقة حاداً جداً وقليلاً من الماء الساخن، فحلق مرتضى نصف شاربي زرداري أمام بهجة أتباعه، ثم طلب منه أن يغرب عن وجهه. فأجبر زرداري، الذي يستشيط غضباً، على حلق النصف الآخر من شاربيه، وكان على الأرجح يخشى الأسوأ بكثير. وأُعلمت وسائل الإعلام المذهولة بأنّ الزوج حليق الشاربين قبل بنصيحة ذكية قُدمت إليه مفادها أنّ الشاربين جعلا منه هدفاً يسهل جداً التعرف عليه. ولكن في هذه الحالة، لماذا سمح بأن ينموَا من جديد مباشرة بعد حلقهما؟
بعد انقضاء بضعة أشهر، في أيلول/سبتمبر عام 1996، فيما كان مرتضى ورجاله عائدين من اجتماع سياسي، وقعوا في كمين دبره لهم خارج البيت حوالى سبعين رجل شرطة مسلحاً يرافقهم أربعة ضباط كبار، فيما تموضع عدد من القناصة في الأشجار المحيطة. وكانت أضواء الشارع قد أطفئت. وبدا واضحاً أنّ مرتضى فهم ما كان يجري، فترجل من سيارته رافع اليدين، وأبلغ حراسه الشخصيين بعدم فتح النار. ففتحت الشرطة النار وقُتل سبعة رجال، من بينهم مرتضى، وقد أطلقت الرصاصة القاتلة من مسافة قريبة. نُصب الكمين بعناية، ولكن كما تجري الأمور في باكستان، أظهر بوضوح عدم توخي الحذر في تنفيذ العملية ــــــ تزوير في سجلات الشرطة، وفقدان أدلة، وتوقيف شهود وإرعابهم، وإرسال المسؤول الإقليمي عن حزب الشعب الباكستاني (الذي يعدّ غير جدير بهذا المنصب) إلى مصر من دون بروز حدث موجب، وقتل الشرطة أشخاصاً مخافة فضح الأمور ــــــ أنّ قرار قتل شقيق رئيسة الوزراء اتخذ على مستوى عال جداً.
فيما كان الكمين يُعدّ، قطعت الشرطة الطرق المؤدية إلى بيت مرتضى (وهو البيت الذي خَطف منه والده مغاوير ضياء الحق عام 1978). فشعرت العائلة داخله بأنّ ثمة خللاً ما. في تلك اللحظة، قررت فاطمة بوتو، وهي فتاة هادئة بشكل لافت تبلغ الـ14 من العمر، أن تتصل بمنزل عمتها رئيسة الوزراء. لم يُنشر الحوار الذي تبع الاتصال في المذكرات، لكنها أخبرتني به منذ بضع سنوات. زرداري هو الذي أجاب على اتصالها:
فاطمة: أود التكلم مع عمتي من فضلك.
زردي: هذا غير ممكن.
فاطمة: لماذا؟ (في هذه اللحظة، تقول فاطمة إنها سمعت نحيباً قوياً وما بدا أشبه بتظاهر بالبكاء).
زردي: إنها في حالة هستيريا، ألا تسمعين؟
فاطمة: لماذا؟
زردي: ألا تعرفين؟ قتل والدك.
عرفت فاطمة وغنوة إلى أين نقل مرتضى واندفعتا خارج المنزل. كان الشارع خالياً من أي علامة تشير إلى وقوع حادث ما: نُظفت ساحة الجريمة من كل الأدلة. لم يبدُ أي أثر للدم أو إشارة إلى أي شغب. قادتا سيارتهما مباشرة إلى المستشفى، ولكن الأوان كان قد فات؛ فقد فارق مرتضى الحياة. عرفتا لاحقاً أنه تُرك ينزف في الشارع قرابة ساعة قبل نقله إلى المستشفى حيث لم تتوافر أي نوع من الخدمات للحالات الطارئةعندما وصلت بنازير لحضور مأتم شقيقها في لاركانا، رمت حشود غاضبة سيارة الليموزين التي كانت تقلها بالحجارة. فاضطرت إلى الانسحاب. وفي حادث آخر أُظهرت فيه المشاعر بشكل غير اعتيادي، شجع السكان المحليون أرملة مرتضى على حضور احتفال الدفن الفعلي، ما يمثّل تحدياً للتقاليد الإسلامية. وفقاً لفاطمة، تقدم أحد أتباع بنازير بدعوى قضائية ضد غنوة في محكمة دينية لإخلالها بالشريعة الإسلامية. لم يعد شيء مقدساً.
اعتُقل كل من شهد اغتيال مرتضى؛ ومات أحد الشهود في السجن. وعندما اتصلت فاطمة ببنازير لتسألها لماذا يُعتقل الشهود لا القتلة، قيل لها: «اسمعي، أنت يافعة جداً. لا تفهمين كيف تجري الأمور». وربما لهذا السبب قررت العمة اللطيفة تشجيع أم فاطمة الطبيعية فوزية، التي كانت قد أعلنت في السابق أنها قاتلة تعمل في خدمة الجنرال ضياء الحق، على القدوم إلى باكستان والمطالبة بحضانة فاطمة. ولا يُخفى على أحد من دفع أجرة سفرها من كاليفورنيا. لكن فاطمة وغنوة بوتو قاومتا وفشلت المحاولة. فلجأت عندئذ بنازير إلى مقاربة ألطف، وأصرت على أن ترافقها فاطمة إلى نيويورك، حيث كانت ستلقي كلمة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. فطلبت غنوة بوتو مساعدة أصدقاء في دمشق، وأمّنت خروج ولدَيها من البلاد. واكتشفت فاطمة لاحقاً أنّ فوزية شوهدت بصحبة بنازير في نيويورك.
في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1996، أبعدت بنازير من جديد عن السلطة، وقام بذلك هذه المرة رئيسها، فاروق ليغاري، وهو نصير قوي من أنصار حزب الشعب الباكستاني. وبرّر خطوته بالفساد، لكنه غضب أيضاً من المحاولة الوقحة التي قام بها جهاز الاستخبارات لابتزازه ــــــ فقد التقطت الاستخبارات صوراً لابنة ليغاري وهي تقابل صديقاً لها وهدّدت بنشرها. سقطت بنازير الضعيفة، وقفز كبير وزراء إقليم السند، عبد الله شاه، إلى متن زورق مزود بمحرك، وفرّ من كراتشي قاصداً الخليج ومن ثم الولايات المتحدة.
عينت حكومة بنازير محكمة قضائية للتحقيق في الظروف التي أدت إلى مقتل مرتضى. وبعدما ترأسها قاض من المحكمة العليا، أخذت أدلة مفصلة من كل الفرقاء. واتهم محامو مرتضى زرداري وعبد الله شاه وضابطين رفيعين في الشرطة بالتآمر لارتكاب الجريمة. اعترفت بنازير (وقد أصبحت خارج السلطة الآن) بوجود مؤامرة، لكنها افترضت أنّ «اليد الخفية المسؤولة عن ذلك هي الرئيس فاروق ليغاري»، وقالت: «كانت النية قتل فرد من عائلة بوتو للتخلص من فرد من عائلة بوتو». لم يأخذ أحد كلامها على محمل الجد. فنظراً إلى كل ما جرى، كان ذلك افتراضاً غير قابل للتصديق.
قالت المحكمة إنه لم يتوافر دليل قانوني مقبول يربط زرداري بالحادث، لكنها اعترفت بأنها «قضية اغتيالات خارجة عن اختصاص المحكمة نفذتها الشرطة»، واستنتجت أنّ مثل هذا الحادث لم يكن ممكناً أن يجري من دون موافقة أعلى المراكز. لم يحدث شيء. بعد أحد عشر عاماً، اتهمت فاطمة بوتو علناً زرداري؛ كما أنها ادعت أنّ العديدين من المتورطين بالعملية في ذلك اليوم بدوا كأنهم كوفئوا على عملهم. وفي مقابلة على محطة تلفزيونية مستقلة مباشرة قبل إعلان حالة الطوارئ، طُلب من بنازير أن تشرح كيف حدث أنّ أخاها نزف حتى الموت خارج بيته فيما كانت رئيسة وزراء. فخرجت من الاستوديو. في مقالة لاذعة كتبتها فاطمة في صحيفة لوس أنجلوس تايمز نُشرت في 14 تشرين الثاني/نوفمبر ذكرت الجواب التالي: «ابنة أخي غاضبة مني». حسناً، نعم.
ربما أسقط مشرف تهم الفساد، ولكنّ ثلاث قضايا أخرى لا تزال مرفوعة أمام محاكم في سويسرا وإسبانيا وبريطانيا. في تموز/يوليو عام 2003، وبعد تحقيق استمر بضع سنوات، دان قاض من جنيف، هو دانييل ديفو، السيد والسيدة عاصف علي زرداري غيابياً بتهمة تبييض الأموال. فقد قبلا رشى قيمتها 15 مليون دولار من شركتين سويسريتين هما أس جي أس وكوتيكنا. وحكم على الثنائي بالسجن ستة أشهر، وأمر بإعادة 11.9 مليون إلى حكومة باكستان. وصرّح ديفو لمحطة بي بي سي: «حتماً لا تراودني أي شكوك بشأن الأحكام التي أصدرتها». فاستأنفت بنازير الحكم، ما فرض إجراء تحقيق جديد. في 19 أيلول/سبتمبر عام 2005، مثلت أمام محكمة في جنيف وحاولت فصل نفسها عن سائر العائلة: فقالت إنها لم تتورط، بل «كانت قضية ارتبطت بزوجها وأمها (المصابة بمرض ألزهايمر)». لم تكن تدري بوجود الحسابات. وماذا عن الاتفاق الذي وقّعه عميلها جنز شليغيلميلش، وبموجبه تُقسم أصول شركة بومر للتمويل بالتساوي بين عائلتي زردي وبوتو في حال موتها وموت زرداري؟ لم تكن تدري بهذا الأمر أيضاً. وعن عقد الماس الذي تبلغ قيمته 120000 جنيه الموضوع في خزنة مصرفية يدفع تكاليفها زرداري؟ لقد قُدِّم إليها، لكنها رفضت الهدية باعتبارها «غير ملائمة». ولا تزال القضية مرفوعة. وقد قال مشرف الشهر المنصرم لأوين بينيت جونز من محطة ال «بي بي سي» العالمية إنّ حكومته لن تتدخل في الدعوى القضائية: «إنّها منوطة بالحكومة السويسرية، وهي رهن بها، إنها قضية مرفوعة أمام محاكمها».
في بريطانيا، تتعلق الدعوى القضائية بملكية عقار روكوود في منطقة «سوري»، وتبلغ قيمته 3.4 ملايين دولار، وقد اشترته شركات خارجية من جانب زرداري عام 1995، وجُدّدت وفقاً لذوقه بالذات. فأنكر زرداري امتلاكه. ثم عندما كانت المحكمة بصدد إعلام المسؤولين عن التصفية ببيعه وإعادة الدعوى إلى الحكومة الباكستانية، اعترف زرداري بملكيته له. والسنة الفائتة، أصدر اللورد جوستين كولينز قراراً قضائياً قائلاً إنه فيما لا يعلن «نتائج توصل إليها التحقيق»، إلّا أنّ ثمة «إمكاناً معقولاً» بأن تتمكن الحكومة الباكستانية من إثبات أنّ ملكية روكوود ابتيعت وجُددت بواسطة «ثمار الفساد». وقد أخبرني صديق مقرب من بنازير أنها فعلياً غير متورطة في هذه القضية، بما أنّ زرداري لم يكن يفكر في قضاء الكثير من الوقت معها هناك.
قام دانييل ماركي، الذي كان موظفاً سابقاً في وزارة الخارجية ويشغل الآن منصباً رفيعاً في مجلس العلاقات الخارجية لدول الهند وباكستان وجنوب آسيا، بتقديم شرح عن الأسباب التي دفعت واشنطن إلى إتمام زواج الملاءمة هذا: «إن وجود حزب تقدمي يفكر في الإصلاح ويتمتع بطابع عالمي أكثر يساعد الولايات المتحدة». وكما تظهر أوضاع آل زرداري المالية، إنهم فعلياً يتمتعون بطابع عالمي.
فما الذي ترى واشنطن أنّه على المحك إذاً في باكستان؟ قال أخيراً روبرت غايتس، وزير الدفاع الأميريكي: «ما يقلقني أنه كلما استمرت المشاكل الداخلية وقتاً أطول، زاد تشتت انتباه الجيش والاستخبارات الباكستانية بسبب الوضع الداخلي بدلاً من التركيز على التهديد الإرهابي القائم على المنطقة الحدودية». لكن أحد أسباب الأزمة الداخلية يكمن في اعتماد واشنطن المفرط على مشرف والجيش الباكستاني. فدعم واشنطن وتمويلها له هما ما منحاه الثقة للتصرف على هواه. لكن الاحتلال الغربي الطائش لأفغانستان يؤدّي دوراً أساسياً كما هو واضح، بما أنّ عدم الاستقرار في كابول يتسرب إلى بيشاور والمناطق القبلية بين البلدين. لقد استهدفت حالة الطوارئ الجسم القضائي والسياسيين المعارضين ووسائل الإعلام المستقلة. وكانت المجموعات الثلاث، بأشكال مختلفة، تتحدى التوجه الرسمي المتعلق بأفغانستان و«الحرب على الإرهاب»، واختفاء سجناء سياسيين، وانتشار استخدام التعذيب في السجون الباكستانية. وكانت القضايا تُناقش على محطات التلفزة بشكل علني أكثر بكثير مما يحدث في أي مكان آخر في الغرب، حيث حجب توافق شامل على أفغانستان كل رأي مخالف. وصرح مشرف أنّ المجتمع المدني كان يعوق «الحرب على الإرهاب»، ومن هنا حالة الطوارئ. هذا هراء، طبعاً. فالحرب في المناطق الحدودية هي التي تنشئ الانشقاق داخل الجيش، إذ إن العديدين لا يريدون المحاربة. ولهذا استسلم عشرات الجنود لميليشيات الطالبان. ذاك هو السبب الذي يدفع بالعديد من صغار الضباط إلى التقاعد المبكر.
يقول نقاد غربيون بحماقة إن الإصبع الجهادي قد وُضع على الزناد النووي. هذا ضرب من الخيال الصرف، يعيد إلى الأذهان حملة مشابهة شُنَّت منذ حوالى أربعة عقود، عندما لم يكن التهديد يتمثّل بالجهاديين الذين يحاربون جنباً إلى جنب مع الغرب في أفغانستان، بل بالراديكاليين العسكريين الوطنيين. وقد تمحورت مقالة غلاف مجلة تايم الصادرة في 15 حزيران/يونيو عام 1979 حول باكستان؛ إذ نقل كلام عن دبلوماسي غربي رفيع المستوى مفاده أنّ الخطر الكبير يتمثل بوجود «قذافي آخر هناك، لواء أو عقيد راديكالي في الجيش الباكستاني. فقد نستيقظ ذات صباح لنجده مكان ضياء الحق، وصدقوني أن باكستان لن تكون البلد الوحيد الذي سيهتز فيه الاستقرار». إنّ الجيش الباكستاتي قوي جداً. فمجساته مغروزة في كل مكان: في الأراضي والصناعة والخدمات العامة وإلى ما هنالك. ويلزم هذا الجيش زلزال عنيف (اجتياح أو احتلال أميركي مثلاً) لكي يشعر بأنّ ثورة جهادية تتهدده. ويوحِّد الضباط الكبار اعتباران هما: وحدة المؤسسة وقطع الطريق على السياسيين. ويتمثل أحد الأسباب الأخرى في خوفهم من فقدان وسائل الراحة والامتيازات التي اكتسبوها بعد عقود من الحكم؛ كما يشعرون بكره عميق للديموقراطية، وهو شعور يُعدّ الصفة المميزة لمعظم الجيوش. فهم الذين لم يعتادوا المحاسبة على الأعمال ضمن صفوفهم الخاصة، يصعب عليهم تقبلها في المجتمع بشكل أوسع.
مع وقوع جنوب أفغانستان في الفوضى، وفيما يستبد فيها الفساد والتضخم الكبير، ينضم إلى حركة طالبان المزيد والمزيد من المجندين. والجنرالات الذين أقنعوا بنازير بأن السيطرة على كابول عبر حركة طالبان ستمنحهم «عُمقاً استراتيجياً» ربما تقاعدوا، ولكن خلفاءهم يعرفون أن الأفغان لن يسمحوا باحتلال غربي طويل الأمد. يأملون عودة حركة طالبان مبرّأة من كل تهمة. وبدل أن تقوم الولايات المتحدة بتشجيع حل مناطقي يشمل الهند وإيران وروسيا، تفضل رؤية جيش باكستاني بخدمتها دائماً في كابول. لن ينجح ذلك. ففي باكستان نفسها، يتواصل الليل الطويل مع بدء الدورة من جديد: قيادة عسكرية تعد بالإصلاح تتحول إلى حكم استبدادي، وسياسيون يعدون بتقديم دعم اجتماعي للشعب يتحولون إلى مؤيدين لحكومة القلة. وبما أنه من غير المحتمل أن يتدخل جار تسير أموره بشكل أفضل، ستتأرجح باكستان بين شكلَي الحكم هذين في المدى المنظور. وسيعود الشعب، الذي يشعر بأنه جرب كل الأساليب وفشل، إلى حالة نصف نوم، إلا إذا أيقظه مجدداً حدث غير متوقع. وهذا ممكن دوماً.
قبل ست ساعات من تنفيذ حكم الإعدام بماري ملكة اسكتلندا، كتبت إلى هنري الثالث، ملك فرنسا وأخ زوجها الأول قائلة: «أمّا بالنسبة إلى ابني، فأوصيك به بقدر ما يستحق، لأنني لا أستطيع أن أكفله». كان ذلك عام 1587. في 30 كانون الأول/ديسمبر من عام 2007، عقد متسلّطون إقطاعيون اجتماعاً عائلياً في بيت المغدورة بنازير بوتو لسماع وصيتها الأخيرة التي قُرئت بصوت عال وأعلن مضمونها لاحقاً لوسائل الإعلام العالمية. ففيما لم تكن ماري واثقة تماماً بابنها، لم تترك معادلتها العصرية أيّ مجال للشك. إنّها تستطيع طبعاً أن تكفل ابنها. وستتولى ثلاثية مؤلفة من زوجها عاصف زرداري (أحد أفسد السياسيين وأكثرهم افتقاداً للصدقية في البلاد، ولا يزال يواجه تهماً بالفساد في ثلاث محاكم أوروبية) وشخصين غير كفوئين إدارة الحزب إلى أن يبلغ ابن بنازير بيلاوال، وعمره 19 سنة، السن المطلوبة. عندئذ سيتولى رئاسة الحزب لمدى الحياة، ولا شكّ في أنه سينقل هذه الرئاسة إلى أولاده. إنّ تحوّل هذا الواقع إلى حدث رسمي الآن لا يقلّل من بشاعته. فحزب الشعب الباكستاني يُعامل كإرث عائلي، كملكية يتم التصرف بها وفقاً لرغبة قائده.
لا أقل ولا أكثر. مسكينة الباكستان. مساكين مؤيدو حزب الشعب الباكستاني. فالاثنان يستحقان أفضل من هذه المهزلة المقيتة التي تعود إلى القرون الوسطى.
أتى قرار بنازير الأخير على الشكل الاستبدادي نفسه الذي اتصفت به قرارات أسلافها، فكانت مقاربة دفعت ثمنها ــــــ بشكل مأساوي ــــــ حياتها الخاصة. فلو التفتت إلى نصيحة بعض القياديين في الحزب ولم توافق على الصفقة مع برويز مشرف، تلك الصفقة التي أدّت فيها واشنطن دور الوسيط، أو لو قررت، لاحقاً حتى، مقاطعة الانتخابات النيابية التي يجريها مشرف، لبقيت ربما على قيد الحياة. أمّا هديتها الأخيرة إلى البلد، فلا تيمّن بالخير لمستقبله.
(الحلقة الأخيرة)
عن «لندن ريفيو أوف بوكس»
ترجمة جورجيت فرشخ فرنجيّة



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث