أغلب الانتفاضات التي عاشتها تونس منذ خروج الاستعمار الفرنسي عام 1956 كان محرِّكها الرئيس الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي تعانيها الطبقات الشعبية والارتفاع المُطّرد لنسبة البطالة. انتفاضة 17 ديسمبر التي أسقطت سلطة بن علي وغيّرت وجه المنطقة، لم تخرج عن هذه القاعدة. ورغم أنّ كل المُؤشِّرات الاقتصادية والسياسية كانت تُنبِئ بانفجار شعبي كبير، بخاصّة بعد انتفاضة الحوض المنجمي عام 2008، فإنّ السلطة واصلت سياسة الإفقار، فحكمت على نفسها بالإعدام.
اليوم وبعد 4 سنوات على الإطاحة بسلطة «بن علي» المافيوية فإنَّ الظروف القاسية التي كانت تعاني منها الطبقات الشعبية في السابق لم تتغيّر، بل هي في تدهور مستمر وسريع. ولا تزال الأسباب التي أدّت إلى إندلاع الاحتجاجات في 17 ديسمبر 2010 بمحافظة سيدي بوزيد قائمة بوضوح وحدّة، وبالتالي فإن فرضية عودة الناس إلى التمرّد والانتفاض ما زالت قائمة وبقوة.

عن الوضع الاجتماعي في تونس

إذا استمعنا لنبض الناس وابتعدنا عن المُماحكات السياسية التي لا طائل منها، فإنّه لن يصعب علينا اكتشاف حقيقة الوضع الذي تعانيه الجماهير الشعبية من دون تزوير أو تضليل. ففي كلّ زاوية من هذا الوطن هناك من يتذمر، رُكاب الحافلات والقطارات وروّاد المقاهي والعمال في مصانعهم والطلبة في جامعاتهم... الغالبية الساحقة غير راضية عن وضعها الاقتصادي والاجتماعي.
حتى الطبقة الوسطى
اهترأت والتحقت برَكب المُتَأفِّفين من «صعوبة الحياة»
وحتى الطبقة الوسطى اهترأت بشكل غير مسبوق والتحقت برَكب المُتَأفِّفين من «صعوبة الحياة»، ولم تعُد قادرة على مواجهة التكاليف الباهظة في شتى مناحي الحياة. وتؤكِّد الأرقام الرسمية وغير الرسمية هذه الوضعية المأساوية، حيث أنّ رُبع الشعب التونسي هم من الفقراء (بلغت نسبة الفقر حسب وزارة الشؤون الاجماعية 24% عام 2014). أمّا البطالة فهي السرطان الذي ينخُر جسد البلاد وقد أصبحت الجامعة التونسية التي من المفترض أن تكون مصنعاً للكوادر والأدمغة، فضاء لتخريج العاطلين من العمل (وصلت نسبة البطالة إلى 23 % وفق تقديرات الاتحاد العام التونسي للشغل). ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل إنَّ هذه الفئات والطبقات إضافة إلى أنّها في رحلة بحث متواصل عن العمل ولهث مستمر وراء لقمة العيش، فإنّها مُهدَّدة دائماً بأن تجد نفسها في الشارع بلا مأوى، ذلك أنّ 30% من التونسيين ليست لديهم الإمكانات للحصول على مسكن (وفق دراسة قام بها مختصّون في الاقتصاد بتكليف من وزارة التجهيز عام 2014).
هذه لمحة بسيطة عن المُنْحدر الذي تتدحرج فيه البلاد وإذا واصلنا تعداد المشاكل قد لا نتوقف. ومن الطبيعي جداً إزاء هذه الأرقام والمعطيات أن تتفاقم الأمراض الاجتماعية من إدمان وعنف ورشوة، وأن تنتشر الجريمة التي بلغت نسبتها 350 جريمة يومياً (إحصائيات وزارة الداخلية لعام 2014). ومن المنطقي أيضاً أن تُعشِّش فكرة «الحلم الأوروبي» في رؤوس الشباب الذين يروْن أمامهم مستقبلاً بِلا أمل. فيكونون ضحايا لقوارب الموت أو للتنظيمات الإرهابية التي تحوّلهم لأدوات تخوض من خلالهم حرباً بالوكالة في الوطن العربي.
إنّ تونس تتألّم والأمراض تنخُر جسدها في كلّ موضع، والجسد إذا مرض تردّ خلاياه الفعل وتدافع عن وجودها. تونس ستقاوم أمراضها فالنتيجة واضحة: لن يستسلم الفقراء لفقرهم.

الحكومة الجديدة... حكومة يمينية رجعية

الوضعية الكارثية التي تلمَّسْنا بعض ملامحها في الفقرة السابقة لم تكن من أولويات رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الصِّيد حين كان بصدد البحث عن طاقم حكومي يمكن له أن ينال ثقة مجلس النواب. حيث لم يكن هناك نقاش برامج وتصورات حلول ممكنة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بل كانت المفاوضات التي قادها مع مُختلف الأحزاب عبارة عن تسويات وترضيات وصفقات مشبوهة. وبعد أخذ وردّ توصّل الرجل لتشكيل حكومة تضُمّ 41 وزيراً وكاتب دولة من بينهم أسماء من حزب التجمع الدستوري المُنحل وأخرى مرفوعة ضدّهم قضايا في المحاكم! وقدّم رئيس الحكومة المُكلّف لمجلس النواب برنامج حكومته الذي كان عبارة عن خطوط عامة دون تفصيل، وليس من قبيل المبالغة حين نُوصِّف هذا البرنامج بـ «المهزلة».
تتكوّن حكومة الصيد من خمسة أحزاب: حزب آفاق تونس وحزب الاتحاد الوطني الحر وحركة النهضة وحزب نداء تونس وحزب الحركة الوطنية. وقد صوَّت نواب هذه الأحزاب دون استثناء لصالح قانون المالية والميزانية لعام 2015 الذي تضمّن إجراءات عدة غير شعبية، فعلى سبيل المثال بقيت موارد الجباية في هذا القانون بحسب دراسة أجراها الاتحاد العام التونسي للشغل مرتكزة إلى الأجراء وصغار الفلّاحين والمهن الحرّة مقابل 31% للشركات التونسيّة و18% للشركات البتروليّة (وهي شركات أجنبيّة وشركات شراكة)، كما تضمّنت الميزانيّة خفض نفقات دعم المواد الأساسية. إنّ الأحزاب المكوِّنة للحكومة تشترك في تبنّي خيار الليبيراليّة الاقتصادية والارتهان لإملاءات المؤسسات المالية والدولية. وهي ترى أنّ تكيّف تونس مع النظام الرأسمالي العالمي وإصلاح بعض الأخطاء في النمط الاقتصادي الحالي هما الحل للأزمة الاقتصادية. يُعبّر حزب «آفاق تونس» عن هذا التوجه في إحدى وثائقه على موقعه الرسمي بعنوان «من أجل تونس منفتحة على العالم»، قائلاً: «إنّ مسار العولمة الذي يؤثّر في تونس وفي بلدان أخرى لا زالت في طور النموّ ما يفرض على بلادنا التكيف معه لتجنب تدهور وضعها الاقتصادي والأمني». إنّ هذه الرؤية هي تعبير عن ما يسميه المفكر سمير أمين بهدف «اللّحاق» وهو هدف وهمي، لأنّه يُغفل التناقض بين المراكز الإمبريالية وعملائها من ناحية والجماهير الشعبية في بلدان الأطراف من ناحية أخرى. فالحلول الاقتصادية لا يمكن أن تكون في إطار التكيّف مع الشروط الحاليّة التي تفرضها الدول الإمبريالية على دول الجنوب (آسيا، أفريقيا، أميركا اللاتينية).
إنّ المطلوب هو تجاوز النمط الاقتصادي السائد في البلاد منذ عقود لأنه نمط منتج للأزمات بطبيعته وموجَّهٌ للخارج أكثر ممّا هو موجّه للداخل. والخيار، وهو في الحقيقة ليس خياراً بل ضرورة تاريخيّة، هو فتح آفاق جديدة نحو اقتصاد وطني مستقل وتنمية متمركزة على الذات في قطيعة مع مشروع التبعية الذي تمثّله هذه الحكومة ومكوناتها اليمينية والرجعية.

المقاومة وتنظيمها

إنَّ المعضلة الأساسية في أغلب الحركات الاحتجاجية والانتفاضات السابقة هي طابعها العفوي وغياب الأُطر والتنظيمات التي تعبّر عنها (باستثناء بعض التحركات والإضرابات التي قادتها المنظمة النقابية). فسُرعان ما تنطفئ جذوة الانتفاضة وتعود الأمور إلى سابق عهدها لأنّها تفتقر لقيادات ثورية مُعبِّرة عن مطالبها، ولأدوات تنظّم نضالات الجماهير وترتقي بها من مستوى إلى مستوى آخر أعلى وأكثر جذرية. ليست مُهمّة تنظيم الجماهير سهلة بل هي عملية معقّدة ومسار شاقّ وصعب، ولكنّها ليست مُستحيلة. فلقد أثبت التاريخ أنّ للشعب التونسي قدرة هائلة على التضحية، وأنّه يزخر بالطاقات التي يجب توجيهها وتزويدها ببرنامج عمل واضح الأهداف والمقاصد.
في كتابه «حدود اليسار الثوري» يُشير نديم البيطار إلى ضرورة الإبداع في اجتراح الحلول لتناقضات الواقع واستيعاب تشعُّباته كالآتي: «اليسار الثوري يستطيع أن يكون ناجحاً وفعّالاً عندما يستطيع تحديد الوسائل التي تتلاءم مع كل مرحلة من مراحل الصراع الثوري، وتنسجم مع منعطفاته الأساسية، فلا تتقلّص في مُجاراة الأحداث ولا تتسرّع فتسبقها بشكل يقطع علاقتها الديالكتيكية بها».
وأمام الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية وعجز النظام السياسي في تونس عن حل هذه المشاكل، ووقوفه عقبة أمام مشروع التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، فإنّ من المُحتمل اندلاع انتفاضات واحتجاجات واسعة النطاق. وعلى القوى الوطنية الديمقراطية الاستعداد لتلك اللحظة من خلال الانطلاق في بناء حركة جماهيرية واسعة، تستقطب العمال والفلاحين والمثقفين وفئات من البورجوازية الصغيرة وموظفي الدولة، وتنقاد ببرنامج ملموس ترى فيه الجماهير قابلية للتطبيق حتى تلتفّ حوله. فالأهداف الاستراتيجية الثورية مهما كانت نقية وسامية ليست كافية لوحدها لتحقيق إجماع حولها وللتصدي لقوى اليمين المُناوئة للثورة.
المقاومة هي عنوان المرحلة لكنّها إذا لم تكن مرتبطة بآلام الناس وحركة الواقع فستبقى مجرّد عنوان أجوف.
* كاتب تونسي