نظام مارديني *لا يمكن تقديم قراءة طبيعية للمواجهات التي جرت بين الجيش التركي وعناصر حزب العمّال الكردستاني المتحصّنين في جبال قنديل في شمال العراق، بمعزل عن إبراز موقع تركيا الجيو ـــ استراتيجي، ودورها المستقبلي في النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تكوينه. فهي ليست فقط جسراً جغرافياً بين الثقافات الغربية والشرقية، أو جسراً لإمدادات النفط والغاز من بحر قزوين، وإيران والعراق إلى شواطئ البحر المتوسط، بل أيضاً نموذج للإسلام الذي يجمع بين التديّن والعلمنة، وبين الحداثة والتراث في منطقة تعيش مأزق الهوية والمواطنة.
هواجس الدرع الصاروخية
قد يكون هناك نقاش وتساؤل بشأن علاقة المواجهات الدموية بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني، وهذا الربط بين موقع تركيا ودورها في المستقبل. فالنقاش والتساؤل حقّ مشروع في شرق أوسط متفجّر، منذ بدأت الولايات المتحدة تكثّف وجودها العسكري المباشر في منطقة مضيق هرمز وشواطئ الخليج عشية حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في عام 1980، وكرّست وجودها عبر احتلال أفغانستان والعراق بهدف استراتيجي، وهو ترتيب الشرق الأوسط بصيغ تتجاوز سايكس ـــ بيكو، إلى تفتيت الدول القائمة إلى فدراليات وكونفدراليات عرقية ومذهبية، وهو ما وضع تركيا في قائمة الدول التي تعمل لتحصين كيانها المكوَّن من جماعات متعدّدة مذهبياً وإثنياً. فهي، بعد اعتراضاتها على السياسة الأميركية في المنطقة، وفي العراق بشكل خاص، تعود وتتماهى مع المشروع الأميركي، وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى واشنطن في الخريف الماضي، نقطة تحوّل في العلاقات التركية ـــ الأميركية التي كان اجتياح الجيش التركي لشمال العراق، في شباط الماضي، أحد مظاهرها الفاقعة.
ولكن يبقى أن الواقع التركي لا يمكن تشريحه بموضوعية من دون النظر إلى شبكة العلاقات القائمة بين أنقرة وواشنطن، ومن دون قراءة واقعية لزيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني إلى تركيا و«أجندتها» السرية وإن كانت عناوينها تتلخّص بدور تركيا المحوري في الشرق الأوسط الجديد في المنطقة، بالإضافة إلى الموقف من سوريا وإيران، ودراسة إمكان نشر الدرع الصاروخية الأميركية في تركيا، قرب الحدود الإيرانية للتصدي لأي صواريخ باليستية موجّهة من إيران وروسيا، لا سيما بعد حديث رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية الجنرال يوري بالويفسكي، في كلمة ألقاها في مؤتمر علمي عقد يوم 19/1/2008، عن أنّ اللجوء إلى استخدام القوّات المسلَّحة لحماية سيادة روسيا وحلفائها أمر ضروري، بما في ذلك إمكان استخدام السلاح النووي الروسي كإجراء وقائي لحماية سيادة الدولة الروسية ووحدة أراضيها وحلفائها في الحالات المنصوص عليها في الوثائق الأساسية الروسية. وكانت موسكو قد أعربت عن غضبها بعد أن بات الحلف الأطلسي على أبوابها الخلفية، وما زاد في قلقها هو تحرّك واشنطن لإقامة الدرع الصاروخية في بولندا وتشيكيا بهدف حماية أوروبا من الصواريخ الإيرانية، التي تعدّها روسيا موجهة إلى أمنها القومي. هذا لا يلغي الحوار الجاري بين موسكو وواشنطن، وقد أثمر توجهاً إلى إقرار وثيقة تضع إطاراً استراتيجياً للعلاقات الروسية الأميركية، بعد المحادثات التي جرت بين وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في موسكو في التاسع عشر من الشهر الماضي، وهي المحادثات التي فشلت في التوصل إلى حل المسائل الخلافية بينهما، ورُفعهت إلى لقاء القمة بين فلاديمير بوتين وجورج بوش في رومانيا على هامش قمة الأطلسي في الأول من هذا الشهر.
ويأتي هذا اللقاء بعد التحذير الذي وجهه المندوب الروسي في الحلف الأطلسي ديمتري روغوزين إلى الأميركيين من مغبة انضمام جورجيا إلى الحلف الأطلسي، لأنّ ذلك سيدفع إلى انشقاق أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.
في ضوء ذلك، مثّل رفض أنقرة الطلب الأميركي لنشر الدرع الصاروخية على أراضيها، استكمالاً لرفضها إرسال قوات إضافية تركية إلى أفغانستان بغية تعزيز مواقع الحلف الأطلسي، بحجّة وضعها الأمني القائم حالياً في جنوب شرق تركيا وفي شمال العراق، حيث المواجهة القائمة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وما يمثّله هذا الصراع على الأمن القومي التركي. وقد أُضيف إلى هذا الوضع الأمني، قرار ذو دلالة عميقة في الوضع التركي الداخلي، وهو قرار قبول المحكمة الدستورية شكوى حظر حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بقيادة رئيسي الجمهورية والحكومة.
ولعلّ في تأكيد دول الخليج التي زارها تشيني رفض أي حرب جديدة في المنطقة، ما يشير أيضاً إلى طبيعة المباحثات مع المسؤول الأميركي في هذا الجانب، الأمر الذي يؤكد سعي الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، من دون أن تكتفي بالعقوبات الاقتصادية، قبل خطبة الوداع للرئيس الأميركي في البيت الأبيض نهاية هذا العام.
تركيا والدور الإقليمي
تدرك تركيا أنّ لموقعها الجغرافي بصماته على سياستها الخارجية، وخصوصاً في المجالين الإقليمي والدولي، وهو ما دفعها إلى التحرك سياسياً وفق أطر تحرص على التعامل ضمنها مجتمعة في آن، بسبب تداخلها مع الأهداف التركية التي تتموقع في عناوينها الأساسية: أمنها القومي، ومصالحها القومية، وهو ما يتلخّص في العلاقة مع الشرق الأوسط وطموحات ودورها المؤثّر فيه، إن لم يكن التوسع الإقليمي في بعض أجزائه، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي لحماية أمنها، والرغبة في الاندماج فيه. لذا اتسمت السياسة الخارجية التركية في كونها تعبيراً عن محاولة مستمرة للتوفيق بين انتمائها الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وتحالفها الدولي مع الولايات المتحدة الأميركية خاصة، وأوروبا عامة، بمعنى أنّها سياسة ذات محاور متعدّدة فرضتها الأطر المختلفة التي حاولت التوفيق في ما بينها وتكييف تحركها السياسي وفقاً لها
وهي:
1ـــ إطار سياسي ـــ أمني دولي بحكم علاقتها مع واشنطن، وعضويتها في حلف شمال الأطلسي.
2ـــ إطار اقتصادي ـــ أوروبي بحكم رغبتها وسعيها للاندماج بالمجموعة الأوروبية وسوقها المشتركة.
3ـــ إطار سياسي ـــ أمني إقليمي انطلاقاً من انتمائها الشرق أوسطي، وتطلّعها إلى النفوذ ولعب دور إقليمي متميّز، ما لبثت أن عزّزته في محاولتها لأن يشتمل على دور اقتصادي إقليمي منذ بداية الألفية الثالثة.
رؤى استراتيجية
مهما يكن، ليس هناك من أحد لا يرى أن صورة جديدة في الشرق الأوسط تتشكّل. ومن أبرز ملامحها التحالف القوي بين تركيا وسوريا، والتحالف الكبير بين إيران وروسيا بعد زيارة بوتين إلى طهران في منتصف تشرين الأول / أوكتوبر 2007.
إذا كانت مسألة حزب العمال الكردستاني هي شرارة التوتر الحالي بين تركيا وكل من العراق والولايات المتحدة الأميركية، فإن في جوهر كلّ هذه الحركة الشرق أوسطية قوى مثل سوريا وتركيا وإيران، ومن خلفهما روسيا، ولا ننسى قوى المقاومة في العراق ولبنان، رسالة اعتراض قوية على السياسات الخاطئة والعدوانية للولايات المتحدة التي تضرب عرض الحائط، في ما يشبه الإهانة، بمصالح المنطقة ودولها وحساسياتها وشعوبها، ودائماً من أجل المزيد من الأمن للكيان العبري، عبر تقسيم إضافي للكيانات القائمة، وتدرك تركيا أنها أحد المستهدفين الرئيسيين منه. وهذا وراء دخول تركيا اللعبة الآن من باب حزب العمال الكردستاني، فيما الهدف الأساسي هو المشاركة في صوغ مستقبل الشرق التي هي في القلب منه.
ويُفهم من كل ذلك أن في الأفق خلافات عميقة بين أميركا وتركيا، بشأن مسائل عديدة، منها: العراق وهويته، وتقرير الكونغرس الأميركي تقسيمه إلى أقاليم، وسوريا وإيران ودورهما في المنطقة، والإرهاب وأهمية الحرب عليه، وحزب العمال الكردستاني ومستقبله، والمسألة الأرمنية، في حين يتوقّع أن توضح الأسابيع المقبلة نتيجة «المباراة» الدائرة بين «الحليفين»، ويبقى ممكناً استنباط نتيجتين:
أولاهما، أنّ السياسة تعكس دائماً قانون الوحدة والصراع الذي صكّه الفيلسوف الألماني هيغل، بمعنى أنّ التحالف بين شريكين لا يمنع من وجود صراعات بينهما لتحقيق أقصى المصالح تحت سقف هذا التحالف. أمّا النتيجة الثانية، فمفادها أن الأكراد عادوا من جديد ليكونوا ورقة تستخدم من أحد الأطراف كأداة للمناورة السياسية في المنطقة، وهو التقليد التاريخي الذي ظل الأكراد يدفعون بموجبه ثمناً عالياً على الدوام. وقد بدا هذا جلياً من أن الإدارة الأميركية أبقت الوجود العسكري لحزب العمال الكردستاني في العراق كورقة تستخدمها عند الضرورة للضغط على تركيا، كما أنّ واشنطن لن تفرّط في ورقة الحزب التي تستخدمها فعلاً ضدّ إيران عبر منظمة تابعة للحزب اسمها «بيجاك»، تشن عمليات داخل الأراضي الإيرانية.
أهمية موقع تركيا
من خلال هذه القراءة، فإنّ الموقع الجغرافي لتركيا سيبقى يتمتّع بأهمية استراتيجية من الناحيتين السياسية والعسكرية لكلا المحورين المتصارعين. المحور الأول: ويضم روسيا وإيران وسوريا من جهة، والمحور الثاني: وتقوده كل من الولايات المتحدة والغرب وبعض دول «الاعتدال العربي» من جهة ثانية، لا سيما بعدما أدت نهاية الحرب الباردة إلى إزالة التمييز الاستراتيجي بين محيط أوروبا ومركزها، حيث الصراع كان يدور على امتداد الخط الحدودي الداخلي الذي كان يفصل بين الألمان، لتقوم التحدّيات الجديدة على امتداد «قوسي الأزمات»:
1ـــ القوس الشرقي: حيث منطقة عدم الاستقرار الدائرة بين تركيا والقوقاز من آسيا الصغرى التي خلف تفكك الاتحاد السوفياتي فيها قوات وقدرات عسكرية، تقليدية ونووية، مهمة وغير متوازنة في دول لم تستقرّ أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد.
2ـــ القوس الجنوبي: الممتدّ عبر شمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط إلى الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا، حيث عدم الاستقرار أيضاً، بسبب سياسات الهيمنة الغربية والصهيونية والغزو الاقتصادي والثقافي وموجة العداء الغربي للعرب والمسلمين بشكل عام.
وفي كلا القوسين، تظهر الحاجة إلى الموقع التركي المتوسط لمناطق تعدّ الولايات المتحدة الأميركية بقاء الوضع الذي يخدم مصالحها فيها مهماً وضرورياً، وهو ما يجعل من تركيا دولة مهمّة، ويجعلها تحتفظ بوضعها كحليف مهم تعمل الولايات المتحدة الأميركية على الاحتفاظ به، سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو في إطار حلف شمال
الأطلسي.
* كاتب سوري