هيفاء زنكنة *في لقاء بين رئيس جمهورية الاحتلال في العراق جلال الطالباني، وعضو مجلس العموم البريطاني والمبعوثة الخاصة للحكومة البريطانية لشؤون حقوق الإنسان آن كلويد، يوم 21 نيسان / أبريل، تبادل الاثنان تهنئة النفس وهما يتحدّثان عن حقوق الإنسان في العراق المحتل، حيث أكّد الطالباني أن «احترام حقوق الإنسان من أهمّ ركائز بناء العراق الجديد ويحظى باهتمام خاص»، بينما عبّرت آن كلويد عن سرورها بالتطوّرات التي حصلت على طريق الوحدة الوطنية وتوفير الأمن والاستقرار والتطور الاقتصادي والاجتماعي في البلد.
ولكي نفهم سبب تهنئة الذات من جانب الاثنين على «احترام حقوق الإنسان في العراق الجديد»، يجدر بنا إلقاء نظرة سريعة على تاريخهما وحاضرهما وما حقّقاه من نجاحات في هذا المجال. ولنبدأ بالسيدة آن كلويد التي يطلق عليها لقب «أم المفرمة» من جانب بعض الصحافيّين البريطانيّين. إنها النائبة التي عيّنها رئيس الوزراء المستقيل طوني بلير كمبعوثة له لحقوق الإنسان في العراق إثر غزوه.
وجاء التعيين مكافأة لها على موقفها المؤيد له، حتى النَفس الأخير، لشن الحرب على العراق، حيث كان أداؤها المؤثّر في البرلمان البريطاني يوم 18 شباط / فبراير 2003، وما سبقه من نشر مقالة لها عن «آلة ضخمة Shredder يملكها صدام حسين ويشرف على استخدامها ابنه قصي لتمزيق أجساد العراقيين إلى نتف صغيرة»، مثل تمزيق الورق، قد أدّيا دوراً في حسم تردد بعض النواب البريطانيين بشأن التصويت لمصلحة مساهمة بريطانيا في غزو
العراق.
وفيما بعد، أثبت تحقيق الصحافة البريطانية في صحة قصة وجود الآلة واستخدامها، أنها مختلقة، وأنها استُخدمت بشكل دعائي لخداع الرأي العام، فارتبطت كذبة المفرمة باسم كلويد، وإن هي ألقت اللوم، تبريراً، على إساءة فهم الصحافة لمغزى القصة، ووجود «شاهد عراقي» يؤكدها.
لم تتعرّض السيدة النائبة للمساءلة برلمانياً أو بأي شكل ديموقراطي آخر، رغم كشف حقيقة الكذبة التي نسجها عضو في البرلمان البريطاني، (الذي يبدو أن لا أحد يشكك في ديموقراطيته)، ورغم وقوع الضرر الناتج من الكذبة، أي تعريض الشعب العراقي للغزو وما سيترتب عليه من نتائج وخيمة، بل قام رئيس الوزراء بمكافأتها لتستمر في لعبة التضليل الإعلامي بعد «التحرير» ولتدعم أكاذيب مستخدمي حكومتها والإدارة الأميركيّة من العراقيين، في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان بالتحديد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلويد كانت قد تلقّت «منحة» مادية من الإدارة الأميركيّة في التسعينات، للعمل مع أحزاب «المعارضة العراقية» في واشنطن ولندن، لتوثيق انتهاكات النظام السابق ضدّ حقوق الإنسان. فلنقارن ذلك بما فعلته ومعها كادر «المعارضة العراقية»، من الطالباني والبرزاني والحكيم والجلبي وعلاوي والباجه جي وغيرهم، عندما أكملوا «تحرير» العراق وبدأوا مسيرة احترام حقوق الإنسان.
ولنرَ كيف تعاملت مع فضيحة نشر صور التعذيب المروّعة والمهينة في أبو غريب. أقول نشر الصور وليس حوادث الاعتقال والتعذيب والقتل في المعتقلات نفسها، لأنها كانت معروفة لدى مسؤولي الاحتلال منذ البداية، واختاروا جميعاً التعامي عنها. إلّا أنهم لم يستطيعوا الاستمرار في التعامي عندما نُشرت الصور وظهرت أشرطة الفيديو واعترافات المحقّقين. ولأنّ «الديموقراطية»، خلافاً لسرية وتكتّم الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، تتطلّب «الشفافية»، أخبرنا الطالباني ضاحكاً وبروح النكتة المعهودة لديه، أن هذه مسألة عادية كثيراً ما حدثت في العراق، وإنّ تعذيب النظام السابق كان أسوأ.
ويدلّ تصريح الطالباني حينئذ، على سذاجة في التعبير السياسي (تجاوزها في السنوات التالية)، وقسوة ذكية في التعامل اليومي (لا يزال محافظاً عليها)، لا تجعله يختلف كثيراً في طبيعة تعامله مع حقوق الإنسان العراقي عن النظام السابق. إذ دلّ تصريحه على أنّه نسي أنّه مسؤول في حكومة تدّعي الديموقراطية، ليدخل في سباق مع النظام السابق للفوز بلقب من هو الأكثر قسوة في تعذيب المواطنين. إلا أنّنا لا نستطيع لوم المسكين كثيراً، لعدة أسباب من بينها أنه كان حديث العهد بشفافية الديموقراطية وكيفية التعامل مع الأحداث إعلامياً، ولا بد أنّه اعتقد بأنّ في الإمكان استخلاص الدروس من «الديموقراطية» البريطانية.
ومن هو الأكثر «ديموقراطية» من آن كلويد، التي كثيراً ما طالبت بالعمل على تغيير النظام السابق لأنّه ارتكب جرائم ضدّ حقوق الإنسان
العراقي؟
لذلك كرّر الطالباني، في ما يخصّ التعذيب والاغتصاب والقتل في أبو غريب، ما قالته آن كلويد، فوزير القوم لا يعمل من غير إشارة، حسب قصيدة للرصافي، وإن كانت هي أكثر ذكاءً في استنكار ما حدث وطالبت بإجراء تحقيق، غير أنّ الحقيقة سرعان ما انكشفت عندما كشف عضو البرلمان البريطاني آدم برايس بأنّ كلويد كانت تعرف بحوادث التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان المريعة في أبو غريب قبل اندلاع الفضيحة، وأنها تحدّثت مع طوني بلير عن الجرائم في 15 أكتوبر / تشرين الأول 2003، أي قبل نشر الصور بخمسة شهور تقريباً، ولم يقم الاثنان باتخاذ أي إجراءات بصددها ربما أملاً في إبقائها طي الكتمان.
وكان وزير حقوق الإنسان عبد الباسط تركي، الذي استقال إثر الفضيحة، قد أثار القضية مراراً وتكراراً مع مسؤولي الاحتلال ومن بينهم في لقاء خاص مع آن كلويد في بغداد، في أيلول / سبتمبر 2003، ومع بول بريمر شخصياً، دون جدوى. وهو الوقت الذي سبق ارتكاب أسوأ الجرائم بحق المعتقلين في أبو غريب، وكان بإمكان الحكومة البريطانية ممثلةً بشخص مفوضة حقوق الإنسان ورئيس الوزراء وضع حدّ لانتهاكات حقوق الإنسان لو أرادت، حسب خطاب النائب آدم برايس، إلا أنّهما اختارا الصمت. وتلا ذلك تعامٍ متعمّد تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في مدن العراق المختلفة من البصرة والنجف إلى بغداد والفلوجة وسامراء وكركوك وأربيل والسليمانية، ومجازر حديثة والاسحاقي، ومجزرة قتل مدنيين في المجر الكبير، في جنوب العراق، من جانب القوات البريطانية بعد تعذيبهم وقلع عيون عدد منهم وقطع أعضائهم الجنسية.
هذا غيض من فيض. وتواصل آن كلويد مع مستخدَمي الاحتلال تبادل التهاني والضحكات سروراً بالدفاع عن «ركائز الديموقراطية»، وهي الركائز التي تبدّت في يوم زيارتها للصديق الطالباني بشكل قصف وقتل واعتقالات جماعية.
ففي يوم اللقاء والتصريحات الاحتفائية عن «حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية»، أي يوم الأربعاء 21 نيسان / ابريل، ومن بين المآسي والجرائم الكثيرة سأذكر ما يلي: أطلقت مروحية أميركية توفّر الحماية لرتل أميركي، النار على سيارة كانت متوقّفة في الطريق الخدمي قرب قرية المزرعة في قضاء بيجي في شمال العراق، ما أدى إلى استشهاد ثمانية مدنيين يبنهم سبعة من عائلة واحدة، ضمنهم طفلان ومُزارع كان بالقرب من السيارة. وبرّرت قوات الاحتلال الجريمة النكراء بأن عجلات الرتل اشتبهت بالسيارة المتوقفة وأوعزت للمروحية بإطلاق النار
عليها.
وفي اليوم ذاته، قتل وسام علي عودة (من مواليد 1976 وخريج كلية الإعلام عام 2002) مصور قناة «آفاق» الفضائية بنيران قناص أميركي في طريق عودته إلى منزله في منطقة العبيدي. في اليوم ذاته طالبت منظمة العفو الدولية قوات الاحتلال بالسماح لمحامين عن مئات الفتيان العراقيين المعتقلين في سجون القوات الأميركية بزيارتهم. وذكرت المنظمة أن الجانب الأميركي اعتقل 1400 طفل منذ عام 2003 بينهم من لا يتجاوز عمره 10 سنوات لدواع أمنية! وفي اليوم نفسه أيضاً وأيضاً، أعلن قائد قوات الاحتلال في شمال العراق أن عدد من أُلقي القبض عليهم في مدينة الموصل من «الإرهابيين» هو 1200 شخص!
إن حكومة الاحتلال بجميع وزرائها ومسؤوليها وأحزابها قد تجاوزت مرحلة خداع الناس بالتلاعب اللفظي والتزويق الإعلامي، باعتبار أنّ السياسة هي «فنّ الممكن»، وشعار الليبراليين الجدد، ومن ضمنهم الحزب الشيوعي في قبول الأمر الواقع و«النضال السياسي ضدّ الاحتلال»!
ولأنّنا نعيش حالة تكرار التاريخ الاستعماري لنفسه، مع بعض التغييرات الطفيفة، يصحّ على الحكومة والطالباني اليوم ما قاله شاعرنا الكبير معروف الرصافي عن حكومة الانتداب البريطاني، واصفاً إياها: كثرت «دوائرها» وقلّ فعالها / كالطبل يكبر وهو خال أجوف.
* كاتبة عراقية