ياسين تملالي *لا يمضي يوم من دون أن تطالعنا بعض الصحف الجزائرية بآخر أنباء «المؤامرة التبشيرية» على البلاد، معتمدةً على الشائعات والأقاويل أكثر من اعتمادها على التحرّي الموضوعي (1).
ولا تفسير لهذا التهويل الهستيري لـ «خطر التنصير» سوى أنه أداة من أدوات «الماركنتنغ» في المعركة التجارية المحتدمة بين هذه الصحف، مثله في ذلك مثل «الخطر الشيعي» أو «مسؤولية اليهود» عن العنف الطائفي بين المالكية والإباضية في مدن ميزاب الجنوبية (2).
وتستند هذه الصحف في تنديدها بالتنصير إلى قانون «تنظيم ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين» الصادر في أواخر 2006 (3). كما أنّها تستغلّ لصبّ مزيد من الزيت على النار تصريحات رؤساء جمعيات مدنية (كجمعية العلماء المسلمين) مهووسة بمشكلة متخيّلة هي «انسلاخ الجزائريين عن دينهم».
وبفضل تضافر جهود هذا الجمع الكريم، انتشر الكثير من الأفكار المبتسرة لا عن نشاط الكنائس الإنجيلية الحقيقي (4) فحسب، بل كذلك عن تورّط الكنيستين الجزائريّتين (الكاثوليكية والبروتستانتية) في «العمل التبشيري» وانتشار المسيحية بين أهالي المنطقة القبائلية الناطقة بالأمازيغية.
والظاهر أنّ الكثيرين ممن يكتبون في هذا الموضوع لا دراية لهم بتاريخ المسيحية في البلاد ولا بتاريخ المنطقة القبائلية، لذا استحال التمييز في ما نقرأه لهم بين الحقيقة والخيال، بين الواقع و«فوبياهم» الشخصية المعبّرة عن «فوبيا» قسم من المجتمع.
وزاد الطين بلّة تصديرهم لخزعبلاتهم إلى الأقطار العربية: تكفي نظرة عابرة إلى موقع «العربية» مثلاً لندرك حجم الصورة الزائفة التي يصوّرون بها الجزائر لباقي العالم
العربي.
ويمكن اعتبار مقال حياة خالد «تنصير يغذيه الإرهاب» (الأخبار، 11 نيسان 2008) مثالاً لبعض الأفكار المغلوطة عن التبشير في الجزائر. ولو أنها عنونته «شائعات عن التنصير» لصدقت بل ولاستحقّت الثناء. هذا عدا أنها لا ترى حرجاً في تقييد ممارسة المسيحيّين شعائرهم في ذات الحين الذي يطالب فيه المسلمون بحقهم المشروع في بناء مساجد لهم في كل أصقاع العالم.
لن نتطرّق إلى هذا الجانب الأخير، فهو يستحق مقالاً مطوّلاً يحلّل أسباب التناقض بين نشدان الحرية لأنفسنا وسعينا الحثيث إلى حرمان غيرنا منها. ولن نتكلّم عن التأثير السلبي لمثل مقالات حياة خالد على صورة الأقليّتين المسيحية والقبائلية، ولا عمّا قد ينجم عنها من عنف يستهدف المسيحيّين وزرع لبذور الشقاق بين «العرب» والأمازيغ.
سنكتفي بالتركيز على الكليشيهات المجترّة التي أتحفتنا بها هذه الصحفية عن الموضوع، وأهمها اثنان: وصف الاحتلال الفرنسي في 1830 بالـ «الحملة الصليبية» بغرض تصوير الكنائس الجزائرية على أنها امتداد طبيعي له، والربط المغرض بين الحركة التبشيرية والحركة الأمازيغية.
هل كان الاستعمار الفرنسي للجزائر «حملة صليبية»؟
تقول حياة خالد: «مثلما تجذّر الإسلام في الجزائر وشمال أفريقيا من خلال الفتوحات، كانت للمسيحية جذور سابقة لا تزال قائمة إلى اليوم، حيث يستغلّها المبشّرون الجدد لنشر المسيحية». وتضيف: «يرى مؤرخون أن غزو البلاد عام 1830 كان حملة تبشيرية بالدرجة الأولى» المراد منها «إعادة مجد المسيحية الضائع في المنطقة».
لنصرف النظر عن أن الكاتبة لم تقل لنا مَن هم هؤلاء المؤرخون، ولننظر في صلب الموضوع:
ــ ليس صحيحاً أنّ المبشّرين حالياً يستغلّون في دعايتهم ماضي المسيحية في الجزائر. فقبل الاحتلال الفرنسي بقرون، كانت هذه الديانة قد انقرضت انقراضاً شبه تام، إلى درجة أن الكاثوليك الفرنسيين، لإنجاح حملاتهم التنصيرية إبان الفترة الاستعمارية، فكّروا في الاستعانة بقُسوس موارنة من بلاد الشام.
ــ رافق الخطاب عن «استعادة مجد المسيحية الضائع في المنطقة» الاحتلال الفرنسي في بداياته كما رافقت أيديولوجيا «استرجاع أرض الميعاد» الاغتصاب الصهيوني لفلسطين ورافق الحديث عن «الحرب المقدسة» تنفيذ مخططات جورج بوش في أفغانستان. لكن هذا الاحتلال لم يكن «حملة تبشيرية بالدرجة الأولى». ولو كان كذلك لأمكن القول إنه فشل فشلاً ذريعاً، فمن «تنصّر» من الجزائريّين في غضون 132 سنة لم يتجاوز بضع مئات.
ــ تميز موقف السلطات الاستعمارية من التبشير المسيحي بالتذبذب، فهي حظرته رسمياً في بداية الاحتلال خوفاً من أن يزيد من استثارة الجزائريين عليها ولم تسمح به في أوساط السكان المسلمين إلا في أواخر سنوات 1860.
ــ لا يعني استخدام الحكم الاستعماري الكنيسةَ الكاثوليكية في مرحلة معينة لإحكام سيطرته على البلاد أن هذه المؤسسة كانت على الدوام موالية له، ومواقفها خلال حرب التحرير دليل على ذلك، فقد كان رئيسها آنذاك، الكاردينال دوفال، عدوّ أنصار «الجزائر الفرنسية» اللدود، وكان هؤلاء يسمّونه تهكّماً «محمد دوفال».
كما التحق بصفوف الثورة التحريرية الكثير من الجزائريّين الكاثوليك من أصول أوروبية (5). أما المسيحيون في فرنسا، فالتفّ الكثير منهم حول الثورة (تيار Témoignage chrétien مثلاً) وجنّدوا وسائل إعلامهم لمناصرتها والتنديد بممارسة التعذيب ضد مناضليها.
هل القضية الأمازيغية مطيّة للتنصير؟
تقول حياة خالد: «كذلك فإن فرنسا، بعد خروجها من الجزائر، نصبت الجمعية البربرية (أي الأمازيغية)، التي يرأسها الكاتب الأمازيغي الفرنكوفوني المعروف مولود معمري، للعمل على الحفاظ على المسيحية في الجزائر وإقناع الأمازيغ، وهم السكان الأصليون في الجزائر، بأن الإسلام والعربية هما السبب في طمس تاريخهم».
ــ يبدو أن الكاتبة تقصد بـ «الجمعية البربرية» «الأكاديميةَ البربرية». لتعلم أن هذه الهيئة لم «تنصّبها» فرنسا بعد الاستقلال وإنما أنشئت في باريس في منتصف الستينات، وكان من مؤسّسيها أحد قدامى ضباط جيش التحرير الوطني، محند أعراب بوسعود، والمفكر المختص في التراث الإسلامي محمد أركون. ولا يبرر تطرف بعض أعضائها وشوفينيتهم وصفهم بالعملاء («العميل» محمد أعراب بوسعود مثلاً طُرد من فرنسا في أواخر السبعينيات بطلب من السلطات الجزائرية!).
ــ لا ندري شيئاً عن مسيحية «الأكاديمية» ودورها المزعوم في التنصير. أما ما نعرفه بالتأكيد، فهو أن أحد النشطاء المؤمنين أشدّ الإيمان بأطروحاتها، هارون محمد، شرع في ترجمة القرآن إلى اللغة الأمازيغية.
ــ لم يعرف عن مولود معمري أنه ترأس يوماً «جمعية بربربة» ولا أنه انتمى إلى الأكاديمية. ما نعرفه هو أن بعض مؤسّسي هذه الهيئة (مثل محمد أعراب بوسعود) عابوا عليه «قلّة التزامه بالقضية» أي بعبارة أخرى، عدم اقتناعه بأفكارهم المتطرفة.
ــ أمّا عن وطنية هذا الكاتب الكبير، فيكفي التنويه بأنه صاحب رواية جميلة عن حرب التحرير وعمقها الشعبي في الجبال القبائلية. أيُعقل أن يكون صاحب «الأفيون والعصا» (1965) عميلاً ترأّس جمعية نصبتها فرنسا لنشر المسيحية في أوساط الجزائريّين؟ ألن ينتهي يوماً التشويه الذي يتعرّض له لا لذنب سوى لسعيه إلى إحياء إحدى لغتي الجزائر، الأمازيغية؟
ولا يكمن خطر هذه الكليشيهات في خطئها بقدر ما يكمن في استغلالها السياسي. ليس اعتبار الاحتلال الفرنسي للجزائر «حملة صليبية» مجرّد غلط علمي. إن له هدفاً محدداً: تضخيم دور «المقاومة الثقافية» (أي دور جمعية العلماء المسلمين بالتحديد) في نيل الاستقلال، وتشبيهه بدور التيارات المحافظة اليوم في الحفاظ على «مقومات الأمة المهدَّدة».
أسهمت جمعية العلماء حقيقةً في حماية اللغة العربية وحقوق المستعمَرين الدينية إبان الفترة الاستعمارية. ولكنها، للأسف، لم تتعدَّ ذلك إلى المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، ولم تلتحق بجبهة التحرير الوطني إلا سنتين بعد اندلاع الثورة، إثر تهديدها بتصفية قادتها.
كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض ورثتها الحاليّين: يدافعون عن الإسلام والعروبة ولا ينبسون بكلمة وهم يرون الاستعمار الجديد يستحوذ على ثروات البلاد ويسعى إلى تسيير اقتصادها بما يخدم مصالحه. بل على العكس، يلتصقون بالسلطة حتى نكاد نحسبهم منها، ويبرّرون سياساتها في الداخل والخارج، ويساعدونها على تجاوز أزماتها بشغل أنظار الجزائريّين بفزّاعة «الغزو
الثقافي».
ويبدو التلميح إلى أنّ المنطقة القبائلية «معقل من معاقل التبشير» جزءاً من المشروع نفسه الذي يخدم مصالح السلطة القائمة، إذ يستهدف هو الآخر لفت أنظار الجزائريّين عن مآسيهم، وشَغلهم بهوس «النزعة الانفصالية» القبائلية. أمّا ما يترتب عنه من تعميق للشرخ بين مكوّنات المجتمع، فلا يعني «المحافظين الجدد» الجزائريّين في شيء. ما يعنيهم هو زيادة وزنهم السياسي ولو كان ذلك على جثة «وحدة وطنية» متهافتة يتغنّون بها وهم يهدمونها بالمعاول ويرقصون على أنقاضها.

(1) ــ يكفي «الشروق» أن تقابل إحدى صحفياتها شباناً مسيحيّين، وترى صليباً على جدار كنيسة لم تدخلها، وتسمع عن قدّاسات سرية في المطاعم كي نقرأ في صفحتها الأولى: «الشروق تخترق شبكات التجنيد حول المسيحية» (28 آذار 2008).
(2) الشروق: «وزارة التربية توقف 11 شيعياً عن التدريس بالجزائر» (12 كانون الأول 2006) و«لفيف من اليهود يستثمر في أحداث بريان» (9 نيسان 2008). نقرأ في ثاني المقالين ما يلي: «كشفت مصادر مطلعة أنّ أحداث بريان (منطقة ميزاب) تصادفت وحضور مجموعة من الأقدام السوداء (قدامى أوروبيي الجزائر) برفقة جماعات يهودية أياماً قبل المولد النبوي الشريف». بالطبع، لا ذكر لهذه «المصادر المطلعة» ولا تفسير لقدرة مجموعة من السيّاح على إثارة فتنة طائفية.
(3) منذ التصويت على هذا القانون، اعتقل جزائريون وأجانب بتهمة التبشير وأغلقت كنائس بروتستانتية بزعم عدم حصولها على إذن قانوني. كما حكمت العدالة بطرد راعي الكنيسة البروتستانتية الأسبق من الجزائر، هيوغ جونسون، ولم تشفع له إقامته في البلاد طوال 45 سنة.
(4) نشاط الكنائس الإنجيلية في الجزائر حقيقة لا جدال فيها، والتخوف مشروع مما قد يرافقه من إثارة للفتن الدينية أو العرقية. إلا أنه من غير المقبول أن يتحول إلى ذريعة للتشكيك في وطنية الكنائس الجزائرية، وخصوصاً أنها تضرّرت منه كثيراً، كما أكّد ذلك مراراً الأب هنري تيسيي، رئيس الكنيسة الكاثوليكية.
(5) لعلّ أشهرهم بيار شولي، أحد محرّري صحيفة «المجاهد»، لسان حال جبهة التحرير الوطني إبان الثورة التحريرية.

* صحافي وكاتب جزائري