النقد الذي يوجّه إلى السلطة المصرية بخصوص الوضع الداخلي يجب أن يتغير قليلاً ، فهو لم يعد قائماً على معطى محلّي فحسب، وإنما أصبح أيضاً مرتبطاً بالدور الذي تقوم به مصر في الخارج. الثورة لم تلحظ هذا التمايز كثيراً ولم تقم بما يكفي لربط عامل التثوير بالمحيط الإقليمي الذي يتغيّر بسرعة، ويغيّر معه الديناميات الداخلية نفسها. غياب هذا البعد بالتحديد أفضى إلى ضمور الثورة وتنحّيها جانباً، إذ إنّ استمرارها كان مرهوناً بوجود سياسات مختلفة تماماً. سياساتٌ لا تكتفي بالتنازع على مؤسّسات الدولة ومحاولة الحدّ من سيطرتها على المجال العام وإنما أيضاً تقدّم رؤيتها لدور هذه المؤسّسات في المنطقة بعد إتمام «السيطرة عليها».
وبما أنّ هذه الرؤية كانت «غائبة» أو على الأقلّ «غير موجودة على سلّم أولويات الثوريين» فمن الطبيعي أن تستفيد المؤسّسات القائمة من هذا الغياب وتتقدّم هي لملء الفراغ الذي لم يستطع الثوريون ملأه. هكذا، احتلّت النزاعات الإقليمية التي تخوضها مصر حالياً (في ليبيا وسيناء) واجهة الأحداث، وصار اهتمام الناس بها متقدماً على أيّ اهتمامات أخرى، وخصوصاً تلك التي أتت بها الثورة في سنواتها الأولى. تراجعت في ضوء هذا التغيّر قضايا المعتقلين والقصاص وحقوق الشهداء واسترداد الأموال المنهوبة و... الخ، وبدا أنّ حقبة بكاملها قد طويت.

بين الدولة والثورة

هذا التباين في الأولويات بين «الثوريين» والغالبية الشعبية الموالية للسلطة أعاد تعريف المجال السياسي من جديد، وأدخل إليه معطيات لم يكن ممكناً قبولها في السنوات الأولى للثورة، ومنها مثلاً دور الدولة الذي قامت الاحتجاجات من أجل تحجيمه والتخفيف من غلوائه. حالياً لم تعد الدولة موجودة تحت الضغط، واستعادت بفضل الشرعية التي أتى بها السيسي وجودها الفاعل في المجال العام، وبعد أن كانت مطالبة بالكفّ عن التدخّل في الحياة السياسية أصبحت تجد نفسها «معزولة» حين تتسلّح بالنصوص الدستورية التي تشرّع عدم التدخّل ذاك. الطلب عليها الآن أصبح يتجاوز المعطى السياسي المباشر، ولم يعد محصوراً في طبقة بعينها من المصريين كما كانت عليه الحال أيام مبارك، وهذا معطى يجب تحليله بجدّية لأنه يتعارض مع الرواية التي يجرى تعميمها عن استيلاء الفلول وأنصار مبارك على المشهد من جديد. ثمّة عودة بالفعل لهؤلاء وثمّة تسهيلات تقدّم لهم من جانب السلطة، ولكنها ليست بالحجم الذي يتصوّره البعض، والدليل على ذلك تدخّل الدولة المباشر لإبطال ترشّح أحمد عز لانتخابات مجلس الشعب المقبلة بذريعة أنه لا يستوفي الشروط القانونية المطلوبة. صحيح أنه خرج من السجن بحكم قضائي، إلا انه مُنع من الترشّح عبر لجنة يترأسها قضاة أيضاً (اللجنة العليا للانتخابات)، وهذا بالضبط هو المقصود من إخراجه. الدولة هنا تؤكّد شرعية الثورة التي أنهت حكم عزّ وعصبته ولكن من غير الاحتكام إلى أدواتها بالضرورة، وإلا لكانت أخرجت علاء عبد الفتاح ومعتقلي مجلس الشورى كما فعلت مع عزّ، ولم تحكم عليهم بالسجن لمدة خمس سنوات مع الغرامة والمراقبة المشدّدة. المشكلة أيضاً أن الحكم ضدّ علاء ورفاقه مرّ مرور الكرام ولم يلاقِ ردودَ فعلٍ شاجبة أو مندّدة به إلا من الدائرة الضيقة المحيطة بالنشطاء، وهذا تغيّر ملموس في طبيعة المرحلة نفسها. فهي لم تعد تولي أهمية كبيرة لرموز الثورة الذين قادوا الاحتجاجات، وباتت تنحاز إلى أجهزة الدولة التي تحاكمهم وتضعهم في السجون. طبعاً «الأكثرية» لا تعتبر أحمد عزّ من رموزها وتفضّل استبعاده كما فعلت الدولة ولكنها تتعامل بقسوة أكثر مع علاء عبد الفتاح ولا تضعه من بين الخيارات الممكنة للمستقبل، وهذا مؤشّر خطير على ماهيّة المرحلة التي تمرّ بها مصر حالياً.

بين الإجماع والمساءلة

وإذا وضعنا هذا النزوع إلى السيطرة والبطش جانباً فسنجد أنّ مؤسّسات الدولة ومن ضمنها القضاء الذي حكم بسجن علاء عبد الفتاح ورفاقه لا تزال بالفعل تحظى بإجماع كبير. وهذا نابع على ما يبدو من طبيعة المرحلة نفسها التي تبدو مختلفة كثيراً عن السياق الذي أتت به موجة يناير. فالمرحلة الآن تشهد تحوّلات فعلية على المستوى الاجتماعي والسياسي، ومع انتقال الصراع من داخل مصر إلى خارجها يزداد التعقيد في المشهد، وتصبح إمكانية فرز القوى المعارضة عن الموالية أصعب من ذي قبل. إذ يبدو الجميع الآن صفّاً واحداً في المعركة التي تخوضها أجهزة الدولة المصرية ضدّ العنف التكفيري في سيناء، وهذا لا يساعد كثيراً في فهم الشرط الذي يجعل من «خصوم الأمس» حلفاءً اليوم، أقلّه في المعركة الجارية على الحدود. كلهم يَبدون مُجمعين حالياً على مناصرة الدولة في معركتها ضد «الإرهاب»، ولا يوجد تقريباً أيّ قوة سياسية معترضة على هذا الاصطفاف، باستثناء الإخوان الذين خرجوا من العملية السياسية منذ فترة. الدولة بالنسبة إلى كلّ هؤلاء هي المرجع الذي يحميهم من عنف الإخوان وحلفائهم، ومع أنها تبطش بشبابهم أحياناً إلا أنها تبقى الخيار الوحيد المتاح بالنسبة إليهم. فهي تحفظ تماسك البلد، وتوفّر سياقاً لعملية سياسية قائمة وان تكن صورية الطابع، والأهم أنها تدير عبر مؤسّساتها اقتصاداً يعيل عشرات الملايين من المصريين ويمنع انزلاقهم إلى الحضيض الذي انزلقت إليه دول أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن و... الخ. وهي فوق كلّ ذلك طرف أساسي في التحالفات الإقليمية التي تحاول حماية الحدود ومنع التكفيريين والدواعش من عبورها لتحطيم ما تبقى من «الدول الوطنية» في المنطقة، وفي هذا السياق يمكن الحديث بإسهاب عن التحالف مع الحكومة الليبية التي يترأسها عبد الله الثني ويقود قواتها الجوية العقيد خليفة حفتر. كلّ ذلك يضفي «شرعية» إضافية على عمل «الأجهزة السيادية المصرية» ويجعل من التشكيك فيها أمراً نافلاً وغير ذي صلة، على الأقلّ في هذه المرحلة التي لم يعد فيها وجود الدول في المنطقة هو القاعدة، وإنما الاستثناء. طبعاً الشرعية الانتخابية ليست جديدة على السلطة الحالية، فقد حظي بها السيسي منذ فترة، ولكنها تخضع كما كلّ الشرعيات الانتخابية لاختبارات متوالية وآخرها ربما «حادث التدافع» الذي أدى إلى مقتل العشرات من مشجعي نادي الزمالك أمام إستاد الدفاع الجوي في القاهرة. بعد الحادث خرجت أصوات كثيرة وجلّها إن لم يكن كلّها موالية للسلطة أو قريبة منها (مثل الإعلاميَين إبراهيم عيسى ويوسف الحسيني) تطالب بإقالة وزير الداخلية محمد إبراهيم وتحميله المسؤولية الكاملة عن الحادث المروّع، فما حدث أصاب السلطة بشرخ كبير وأظهرها أمام جمهورها بمظهر العاجز عن التعامل مع مباراة كرة قدم «من الدرجة الثانية». البعض اعتبرها مشارِكة في الجريمة عبر أداء الداخلية التي تَعامَلَ أفرادُها مع جمهور النادي بفظاظة ووحشية تذكّر بممارسات الأمن في عهد حبيب العادلي، في حين كان المطلوب هو احتواؤهم وعدم إضافة مظلومية جديدة إلى سلّة المظلوميات التي يتغذّى عليها حراك الإخوان. ولولا حادثة قتل المواطنين المصريين في ليبيا التي تعامل معها الجيش بسرعة فائقة وأعاد من خلالها تجديد شرعية تحرّكه في مواجهة «الإرهاب» لكانت الأمور قد تطوّرت في اتجاه معاكس «لما تقتضيه المرحلة»، ولأصبحت الشرعية نفسها التي انتخب على أساسها السيسي في خبر كان.

بين الدولة والإخوان

بهذا المعنى تصبح المواجهات على الحدود هي «الشرعية الإضافية» التي تتحرّك من خلالها السلطة لترميم ما لحق بشرعية الداخل من شروخ، وتعود الدولة معها إلى مزاولة دورها «كطرف» اختاره الشعب للذود عن الحدود وحماية البلد من الانهيار. والحال أنّ هذا «الطرف» هو الوحيد الذي يتحرّك حالياً، وحركته ليست نابعة من فراغ، فالناس في مصر جرّبت خلال هذه السنوات كلّ شيء ووصلت إلى قناعة مفادها أن لا مناص من الدولة حتى لو كانت باطشة وظالمة. وفي هذا السياق تحديداً أتى السيسي ليس بصفته الشخصية طبعاً، بل بكونه ممثّلاً لهذه المؤسّسة الكبرى المسمّاة بالدولة المصرية. والجديد الآن أنّ هذه الدولة لم تعد محرجة أثناء تحرّكها في هذا الاتجاه أو ذاك، فهي حالياً تحظى بإجماع لم يسبق أن حظيت به منذ أيام عبد الناصر، وعليه تعتبر أنها مخوّلة بالدفاع عن مصر نيابةً عن الشعب بكامله. وفي سياق هذا الدفاع تُبرِز سردية «الحرب على الإرهاب» كمحاولة منها لتفادي الانقسامات التي ميّزت حقبة يناير. وقد نجحت بالفعل في تجاوز المرحلة السابقة، بانيةً حولها جبهةً متينة ومتماسكة، ومستفيدةً من نشاط الإخوان الذين حوّلوا أنفسهم إلى أعداء للشعب، ولم يعودوا يملكون الزخم اللازم لمواصلة «احتجاجاتهم». ليس هذا فحسب بل إنهم ورّطوا آخرين معهم في هذه الاحتجاجات وخصوصاً حينما كانت لا تزال «سلمية» ومقتصرة على الجامعات. وبذلك تكون التيارات المتعاطفة معهم مثل مصر القوية و6 ابريل وسواهما قد خرجت عن «الإجماع» بدورها، وان لم تساهم مع الإخوان مساهمةً مباشرة في الاعتداءات التي طاولت مجنّدي الجيش المصري. هذه الكتلة بمجملها أصبحت خارج حيّز الفعل في الوقت الحالي، فهي لم تدرك بعد أنّ الظروف قد تجاوزتها، وبقيت تعوّل على المسار السابق لوجود الدولة ومؤسّساتها في صلب المشهد السياسي المناهض للإخوان والتكفيريين. لا الوقت يعمل لمصلحتها ولا «الشرط التاريخي» الذي انتهى بانتهاء «التحالف» بين الثوريين والإخوان، بعدما فضّلت الجماعة التكفيريين عليهم واختارتهم ليكونوا حلفاءها الجدد ضدّ تحالف الجيش والأحزاب المدنية الممثلة لـ30 يونيو. كان الصراع على حدود مصر الغربية والشمالية قد أصبح واضحاً حين اختار الإخوان الانحياز بوضوح إلى الطرف الذي يعادي الدولة ويقتل مجنّديها الفقراء. وهذا ما يفسر انفضاض الناس المتزايد عنهم، إذ بدت حركتهم المناهضة لـ30 يونيو معزولة بالفعل، ولم تستطع استقطاب الشرائح التي اعتادت استقطابها سابقاً، وخصوصاً تلك الفقيرة والمتوسطة منها. لنقل إنّ المجتمع بغالبيته الساحقة لم يتعاطف معهم، لا بل أبدى استعداداً في كثير من الأحيان لمساعدة أجهزة الأمن والشرطة والجيش في ملاحقتهم، وهذه ليست بطولة على أيّ حال، إلا أنها تبدو «مفهومة» في السياق المصري، على اعتبار أن الإخوان لم يستثنوا أحداً من جرائمهم وحضّهم على الاقتتال الطائفي. في المقابل، بدت الدولة التي ترتكب جرائمَ بدورها وتزجّ بمعارضيها في المعتقلات «أرحمَ» بالناس من التكفيريين، فهي حين تقدم على ممارسة العنف تفعل ذلك «بتسويغات» إما قانونية أو سياسية، ولا تجعل من العنف سياقاً مستقلاً وقائماً بذاته كما يتصرّف الإخوان وحلفاؤهم. كلّ ممارساتها مستمدّة من الشرعية الدستورية أو القانونية، وهذا إطار يسوّغ العنف بالضرورة ولكنه يقوننه ولا يبيحه ضدّ المجتمع، وهو بالضبط ما يجعل من الدولة دولة، ويميّزها عن الأطر الأخرى التي تمارس العنف. جرائمها لا تقارن بالنسبة إلى الشعب بما يفعله الإخوان والتكفيريون داخل المجتمع وعلى الحدود، ولهذا يتمسّكون بها على الدوام (المصريون) ويعتبرونها ملاذَهم الأخير في ظلّ هذه الانهيارات المتواصلة.
* كاتب سوري