هيفاء زنكنة *إثر لقائه بالرئيس الموالي للاحتلال جلال الطالباني منذ أيام، كشف محافظ نينوى عن قرب ساعة الصفر للبدء بعملية عسكرية في الموصل، لملاحقة «المجاميع الإرهابية وتحقيق الأمن والاستقرار». فهل هذا يعني أنّ البصرة وبغداد والناصرية وكركوك وتكريت وغيرها من المحافظات، قد تخلّصت من العناصر «الإرهابية المارقة»، حسب تعبير مسؤولي حكومة الاحتلال، وازدهر فيها الاستقرار؟ وهل تمّ حلّ الميليشيات؟ وهل تخلّص العباد من نير الاحتلال كما وعدتهم «حكومة الأكثرية المنتخَبة»، عندما طبّل ساستها للإصبع البنفسجي والخط الأحمر ــ خطّ الستة أشهر المشهور لرحيل قوات الاحتلال بعد «التحرير»؟
إنّ حكومة «الأكثرية المنتخَبة» ممزَّقة الأوصال، متآكلة من الداخل مثل بيت موشك على السقوط، تنخره دابة الأرض أو الأرضة أو الرمة. وكانت الأرضة، أي حشرة الاحتلال، قد انتقلت من حكومة الميليشيات الطائفية والعرقية إلى ما يسمى البرلمان المبني على نفس الأساس، لتحوله إلى نشارة متناثرة على عيون الأعضاء لتعميها، وإلا فكيف يمكن تبرير السكوت المخزي على مجازر يومية ترتكب أمام أعين «النواب والنائبات»، أو وقوفهم، بعد انتهاء جلساتهم الهزلية، صفوفاً أمام عدسات الكاميرات للتعبير عن «القلق» و«الاستنكار»، أو التعبير عن «القلق الشديد» و«الإدانة»، إذا ما صعدت النخوة إلى رؤوس بعضهم، ليقلّدوا خطاب بوش وساسة البيت الأبيض في انتقاء مفردات القلق، وكأن ما يحدث يومياً من قصف وقتل واكتشاف لمقابر جماعية، وصل إلى حدّ اكتشاف سبع مقابر جماعية خلال أسبوعين فقط من شهر نيسان/ أبريل الفائت، وهي مقابر لضحايا حكومة الاحتلال، يحدث لشعب يسكن بلاد الواق واق الخيالية النائية.
وقد بلغت ذروة الاستهزاء بأرواح الشهداء من المدنيّين في البصرة وسوق الشيوخ ومدينة الثورة (الصدر) المعرضة للقصف اليومي، عندما بادر عدد من نواب ونائبات البرلمان، بعد مرور شهر على حصار مدينة الثورة وتجويع السكان وإغلاق المدارس والمستوصفات وتزايد القتلى من النساء والأطفال، وبعد تزايد الضغط الشعبي والإعلامي العالمي، بإقامة خيمة في المدينة، جلسوا فيها لمدة ثلاث ساعات، ثم تسابقوا لإطلاق التصريحات، وما أشطرهم في إطلاق التصريحات!
وقد شارك نواب التيار الصدري، المصرّين، على الرغم من الاستهداف اليومي والقتل الجماعي للمواطنين وعلى الرغم من شعارات «كلا... كلا للاحتلال» النارية، على الاستمرار في العمل المثابر ضمن حكومة الاحتلال، ومدّها بسائل الحياة المغذّي الذي تحتاج إليه لمواصلة البقاء بحجة الواقعية السياسية. ويساهم التناقض الحاد بين أفعالهم وتصريحاتهم في التباس صورة المقاومة المستهدفة للاحتلال، فبينما تصف النائبة عن التيار الصدري مها عادل كيف شنّت «الطائرات والمدرعات الأميركية حملة كبيرة على مدينة الصدر»، وأن البرلمانيين العراقيين «شاهدوا شراسة الحملة على المدينة» وكيف أن «شخصاً لقي مصرعه أمام أنظار البرلمانيّين»، اكتفت النائبة التي رأت بأم عينيها الجريمة النكراء بالقول إنّها «ستنقل مشاهداتها إلى البرلمان»، وقد يسعون إلى تنفيذ «اعتصام ثان داخل قبة البرلمان». وأكّد النائب فلاح شنشل عن الكتلة الصدرية أيضاً، تهديدها «المخيف» لقوات الاحتلال. أما الناطق باسم التيار الصدري صلاح العبيدي، فإن الاستماع إلى تصريحاته المتضاربة يوصلنا إلى قمة المضحك المبكي، خاصة عندما يراوح بتصريحاته ما بين تجميد أو عدم تجميد «جيش المهدي»، وتهدئة الأمور أو إعلان الحرب المفتوحة، والتحذير من مغبة استمرار استهداف الصدريين أو المفاوضات مع حكومة الاحتلال، مشيراً إلى أن «رئيس الوزراء نوري المالكي لا يعلم بالعديد من حقائق الأمور التي تجري في العراق»... ممّا يذكّرني بشخصية روباشوف في رواية «موت في الظهيرة» لمؤلفها آرثر كوستلر، حيث يعتقل روباشوف من قبل النظام الدكتاتوري الذي خدمه، ثم يعدم، إلا انه يتساءل وهو في طريقه إلى المقصلة عما إذا كان رئيس النظام يعلم بما يدور حوله!
إنّ مقاومة احتلال أكبر قوة عسكرية في العالم، وما يصاحبها من تضليل إعلامي مكثَّف، تحتاج إلى وضوح في المبادئ والعمل، إذ يكفي المواطنين ما يحيطهم من تشويهات والتباسات بدون أن نضيف إليها المزيد. كما تحتاج مقاومة الاحتلال إلى وحدة الصف والنضال المشترك ورفض الانخراط في مشاريع وبرامج المحتل السياسية التي، كما أثبتت سنوات الاحتلال الخمس، لم تنجز شيئاً لمصلحة المواطن بل كانت نتيجتها تفتيت وحدة صف النضال الوطني وشرعنة الاحتلال ومده بالقدرة على البقاء العسكري ونهب ثروتنا النفطية لتمويل عملياته العسكرية ضد أبناء شعبنا.
وأجدني هنا أكرّر ما أدلى به المرجع والشخصية الوطنية المعروفة أحمد الحسني البغدادي في تصريح أخير له حول موقف «بعض الإخوة من مسؤولي الكتلة الصدرية المحسوبين على الخط الصدري وجناحه العسكري... الذين تبنّوا النهج البراغماتي (المصلحي) من خلال تمسكهم بالعملية السياسية ـــــ حتى الآن ـــــ بعد هذه الإبادة الجماعية المقصودة ضدّ هذا التيار الشعبي الوطني»، إذ ينصح «أعضاء الكتلة الصدرية في (البرلمان العراقي) أن يتخذوا القوى الوطنية والإسلامية المناهضة والمقاومة للاحتلال حليفاً استراتيجياً لمسيرتكم الجهادية، وأن لا تخاصموهم بالصراعات الجانبية الجانية، والمزايدات السوقية الفوقية، والمساجلات السياسية الترفية تحت طائلة (الواقعية السياسية والتوفيقية)، كما يريد بعض الغلاة من الساسة القابعين في المنطقة الخضراء». ومن منطلق حرصه على وحدة نضال المقاومة ضدّ المحتل الهمجي لا يراوغ الحسني البغدادي داعياً إلى «الاعتصام تحت قبة البرلمان» في المنطقة الخضراء، بل يربط ربطاً مباشراً ما بين التحرر من هيمنة الاحتلال والانسحاب من العملية السياسية، قائلاً: «وإذا أردتم أن تتحرّروا من هيمنة الاحتلال الأجنبي وسلطة حكومة الاحتلال الرابعة، أن تنسحبوا من العملية السياسية جملة وتفصيلاً».
لقد أثبتت سنوات الاحتلال المريرة أن قسوة وشراسة الاحتلال ستمسّ كل مواطن عراقي، إن آجلاً أو عاجلاً، بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق، إذا ما حدث ووقف المواطن مطالباً بحقوقه ومحاولاً الدفاع عن وحدة وطنه واستقلاله وكرامته وعزة نفسه. وقد شاهدنا ذلك بوضوح في القتل الشرس والعقوبات الجماعية في مدن الفلوجة وسامراء والنجف والكوفة وبغداد والبصرة، ونشاهدها في صمت المتعاونين مع الاحتلال بينما تقصف الطائرات الإيرانية والتركية، كما يحلو لها، الحدود الشمالية. وتدلّ عنجهية الاحتلال وتعاون بعض العراقيّين معه على أنّ شراسته ستتزايد مع كلّ فشل جديد له، وأن الدور سيصل مدن العراق برمّتها إن لم نتكاتف لنقضي على حشرة الأرضة في أسرع وقت ممكن.

* كاتبة وصحافية عراقيّة