علي السوداني *ها قد حانت لحظة الحسم، وعليك منذ اللحظة إعادة صياغة وتكوين وعجن حياتك كي تتواءم مع التبدلات والتطوّرات التي وقعت على أسس المصطلح. قصار القصص والمكاتيب والحكايات لن تجلب لك كثير خبز، ولن «تترس عبّك» بصرر الذهب. لم يعد أمامك متّسع لتعيش كما تود وتشتهي. المسألة جدّ بسيطة والبدء سيكون بوضع ضميرك فوق رف المؤجّلات. سيوجعك حتماً هذا المفتتح وسيسرق النوم من عينيك الغائرتين وسيتحطم فؤادك وسينكسر ظهرك وسترى إلى وجهك في مرآة المرحاض، فلا تجد غير سخام وصفرة وعار.
ستحسّ بطعم دم رائب يغلق بلعومك حتى تكاد روحك تطفر من مكمنها. لكن الأمر سيكون سهلاً وسلساً ومقبولاً بعد حين من الدهر ليس ببعيد. التدريب والمعايشة وحصاد ليرات الذهب ستُنسيك ما تبدّل من أيامك الجديدة.
أنت بحاجة قوية إلى قليل من خيانة. ليس شرطاً أن تشهر خيانتك على الناس، فقد يرجمونك بالحجارة ويتبوّلون عند أعتابك. يكفي أن تخفف لهجتك القاسية فتقول ــ للمثال فقط ــ أن أميركا قد حرّرت وادي الرافدين من ديكتاتورية القرن ومنحته شرف حوز خط الدفاع الأول عن الحضارة والمدنية والسلم، وأن قتل مليون آدمي من أوادم بلد ما بين النهرين سيكون ثمناً بسيطاً مقابل هذا الكرم الرفيع.
قل إنّ الحالة الأمنية صارت حسنة. اكتب وامتدح وثنّ على خطّة فرض القانون. لا تضحك على حكومة البلد فتسمّيها حكومة المنطقة الخضراء. لا تحاول أن تطفئ هالة القداسة في وجوه رجالات الدين حتى لو دفنوا نصف الرعية. الكهرباء ليست مهمة الآن، مثلها مثل الكرامة. أدب المقاومة خرافة وعيب وسيرة مخجلة. قل إنّ شعبان عبد الرحيم ما كان ليحشد الكراهية ضد أميركا وإسرائيل لولا خمطه عشرة ملايين دولار من طقطوقة كوبونات النفط.
لا تقل إنّ أميركا قد قتلت وهرست مليوناً ونصف مليون عراقي بوساطة الحصار واليورانيوم وعناقيد الفوسفور وأصابع البارود. النتائج تسوّغها المقدمات. افتح دكاناً من دكاكين المجتمع المدني، وسمّه ما شئت.
ثقافة السلام والتسامح وقبول الآخر حتى لو كان محتلاً وكلباً ابن ستة عشر كلباً. لتكن العمالة نهجك ومنهجك منذ الليلة. الشغلة ما عادت مجلبة للخزي. اكسب مستقبلك ومصير عيالك. عيالك صغار وأغضاض وقد نزعوا البلاد من ذاكرتهم فلا تذكّرهم بها وتحمّلهم أعظم من وسعهم. صر خائناً حتى تمتلئ جرارك، وبعدها سيكون بمقدورك الاستدارة إلى منطقة الشرف والتطهر. حزنك ووجعك سيكون في أول يوم خيانة فقط، بعدها سيحط كل شيء على تمامه وشرعه.
تحوّل من السرد القصصي واذهب إلى التهويم والتلغيز والطلسمة والعماء المنثور. لا تكتب أن الخائن خائن، بل اكتب أن الخيانة وجهة نظر وتضادّ. لا تحشر أنفك في طرائق بيع النفوط. تعلّم الغناء التجريدي والرسم التجريدي والرقص التجريدي، فإن غنيت أو رسمت أو رقصت فلن تجد من يزعل عليك ويدمغك
بالإرهاب.
لا تمشِ خلف رجل يقول لك إنك فتى شجاع. هو يريد مقتلك. عليك أن تختار جلّاسك وندمائك من لب طبقة الجبناء والخوّافين والكذابين. إنهم مسكك وطمأنينتك وراحتك، إذ تخون أمام أعينهم، فيرفعون الكؤوس عاليات مرفرفات بصحتك والذين معك.
العالم تبدّل، والتبدلات محض لغة. قم من صبحك واخلع الكسل والتنبلة ويمّم وجهك صوب دكان مدجّج بالليرات القويات، وارمهم ببضاعتك الجديدة، فإن لم تفعل اليوم، فلن تجد غداً مقعداً شاغراً في طابور الخائنين والمنخرطين. أنا ــ أحبتي كلّكم ــ لم أقترف ذنباً عظيماً. أنا بحاجة ملحاحة ومروّعة إلى شيء من نعمة الخيانة كي تتواصل حياتي. المسألة بسيطة جداً فلا تكرهوني!
قال العراقي حدّ الموت من القهر والوحشة، بدر شاكر السياب، قبل خمسين سنة:
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون، أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

* كاتب عراقي