في مدينة بييل السويسرية خاض وفد صنعاء اليمني مفاوضات صعبة مع وفد الرياض الذي ذهب متأبطاً شروطاً تعتبر التفافاً على انجازاته الميدانية المحدودة التي تحققت على مدى تسعة أشهر من عمر العدوان السعودي ــ الاميركي على اليمن. معلوم لدى من يفهم في شؤون العسكر والميدان أن أي طاولة مفاوضات تعقد على وقع المعارك تكون الغلبة فيها لمن يحقق مكاسب ميدانية أكثر من الطرف الآخر. ما حصل عشية توجه الوفدين اليمنيين الى سويسرا تلخص بإنجاز يحسب لوفد صنعاء، الجيش واللجان الشعبية أنجزا ضربتين نوعيتين تمثلتا بإبادة ما يقرب من 160 مقاتلاً من قوى تحالف السعوديين بضربة توشكا في باب المندب وقصف مطار نجران الاقليمي بصاروخ قاهر 1، الأمر الذي لم تستسغه الرياض فأضمرت مخططاً كان عنوانه الأبرز الغدر، متحدية بذلك الضمانة الأممية باحترام الهدنة التي كان يفترض لها أن تسري بالتزامن مع مفاوضات سويسرا. هجوم بري في حرض وآخران في الجوف ومأرب واستمرار للقصف الجوي على صنعاء وتعز وصعدة، وكأن السعوديين يريدون ايصال رسالة للعالم مفادها أن المجتمع الدولي كما غطى عدواننا الفاشل المستمر على مدى أكثر من تسعة أشهر، فهو سيؤمّن لنا غطاءً لنمكر مجدداً ونكسب بالسياسة ما عجزنا عن تحقيقه في الميدان ما قبل الهدنة المزعومة، قافزين بذلك على أبسط الأعراف والمواثيق التي تحكم الصراعات الدولية.
محطات كثيرة من تاريخ شبه الجزيرة العربية وصراعاتها لا تخلو من وقائع تجعلنا نؤمن أن اليمني كما هو أهل للحرب، كذلك هو أهل للسلم، فكيف جرت عادة اليمني ان يكون في ميدان الحرب وعند التفاوض واحلال السلام؟ يذكر مؤلف كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب" احداث واقعة تجعلنا نتعرّف إلى بعض من شجاعة وأخلاق وعادات اليمنيين في حربهم وتفاوضهم والتزامهم بما عاهدوا عليه، أقتبس منها التالي:
محطات كثيرة لا تخلو من وقائع تجعلنا نؤمن بأن اليمني أهل للحرب

عام 1763 م خرج قائد جيش الدولة السعودية الأولى عبد العزيز بن محمد بن سعود غازياً الى ناحية الحجاز بأربعة آلاف محارب (١)، فتوقف في طريقه عند أطراف نجد لمحاربة قوم من العجمان (٢)، قتل منهم مقتلة عظيمة وأسر لهم ثلاثمئة رجل واقتادهم الى الدرعية. همّ عبد العزيز يريد قتل الأسرى ويقطع دابرهم لأنه اعتبرهم قوم "فساد وشقاق"، فمنعه محمد بن عبد الوهاب عنهم قائلاً له: "أولئك من يام، وهي طائفة كبيرة، تسكن اليمن من بلاد نجران، بداةً وحضراً، ونحن لا نحب حربهم اليوم". وأما العجمان فلما رأوا قلتهم وضعفهم في نجد، سار بعض من رؤسائهم إلى نجران يستنصر بقومهم على عبد العزيز ويخلص أساراهم من يده، فأنصروهم وجاء معهم من يام نجران ألف ومئتا رجل، منهم أربعمئة فارس وثمانمئة مقاتل بالبنادق، بقيادة حسن بن هبة الله المكرمي.

لما وصل المكرمي بعسكره الى ارض العارض، سمع محمد بن عبد الوهاب بوصوله، فقال لعبد العزيز: "سر له بخلق عديد، ونازله، ولا تحاربه حتى يقع بيننا الصلح، فإني لا أرى خيراً في القتال مع هؤلاء القوم، ما تقول في أناس مسكنهم اليمن، ويدخلون لبّ نجد في هذا العدد القليل مع أنهم عرفوا شوكتنا ولم يبالوا بها؟ فإياك والحرب معهم، وإنما أمرتك بالخروج اليه، أتعرف الغاية؟" قال عبد العزيز: "لا"، فقال: "ليكون إظهار حياة لديه، ولأجل أن لا تختلف جماعتنا علينا، بأن يقولوا قد ضعف أمر هذا الدين ولقد هابوا الحرب مع رجل ياميّ".
خرج عبد العزيز إلى المكرمي بأربعة آلاف رجل، والتقى معه عند الرياض (٣)، فجعل ينازل أينما نزل، كأنه يمانعه، والمكرمي لما رأى أن أهل الدرعية لا يجسرون الهجوم عليه، قال لجماعته: "هؤلاء القوم نعاج فبقاؤنا معهم بلا تقدم حرب لا رباح فيه، كُرّوا عليهم بالسيف الساعة الساعة". فعمدوا على عبد العزيز وقومه، فالتزم بالمدافعة حينئذٍ فوقع بينهم السيف والبندق (٤) من أول النهار إلى قبل الظهر، أدبر عبد العزيز منكسراً ورجع إلى الدرعية، وقد أُسر من قومه ستمائة رجل، وضربت رقاب أربعمئة. همّ المكرمي بالهجوم على سور الدرعية، فأرسل محمد ابن سعود بأمر محمد بن عبد الوهاب بعض أولاده - غير عبد العزيز - وبعض نساء من أهل بيتهم، ومائة وعشرين فرساً للمكرمي، وكتب كتاباً يلتمس فيه الصلح.

لما رأى النجراني بذلهم الهدايا وإظهار عجزهم بإرسال الرسل من رجال ونساء من أهلهم قال: "الآن طابت نفسي وحصل الثأر". كتب حينئذٍ كتاباً بأن أطلقوا الأسراء الذين لنا عندكم، ونطلق اسراءكم كذلك. فأرخصوا أسراء العجمان والنجراني رخص أسراء أهل الدرعية لأنه كان يوفي بالقول، وعاد المكرمي إلى بلده نجران بعدما مضى من الصلح ستة أيام.

هذه المعركة دعت عرعر بن دجين الخالدي (٥) احد ألدّ أعداء محمد بن سعود يتهيب للانقضاض على الدرعية مجدداً بعد حربه معه عام 1759 م، مغتنماً فرصة ضعف ابن سعود، فركب بعسكره وبلغ نواحي الدرعية، واتفق ذلك اليوم الذي وقع فيه الصلح مع النجراني، وكان عسكر الاخير على بعد فرسخين من الدرعية، فنزل عرعر قريباً منه بنصف فرسخ وأرسل إلى المكرمي بأن "لله الحمد على هذا الاتفاق، الذي حصل بيننا وبينكم على حرب هذا المبتدع (ابن سعود)، فهذا ان شاء الله نريد مواجهتك، ونتمم الأمر بيننا وبينك على كيفية حربه، ولا نطيل الأمر". فكتب حسن المكرمي الى عرعر يقول له: "لو كان هذا الاتفاق قبل أن يجري الصلح بيننا وبينه لانتظم الأمر على وفق خاطرك، لكن الآن نحن حصل مرادنا من الانتقام وقد طلب منا العفو، ونحن أهلٌ له عند المقدرة، وأعطيناه، فلا يمكننا إبدال القول، أما أنت فمختار بحربك معه، نحن لا نتعرض بشيء". لما وصل كتاب النجراني الى عرعر وعرف مضمونه، اغتم لأنه كان يحسب أنه معه، ولأن النجراني وإن كان عسكره قليل، لكنه بعين الحماية والقوة وشجاعة يام معروفة - قيل من عاداتهم في الحرب أنهم إذا حملوا لا ينكصون ولو قُتلوا عن آخرهم - ومن عاداتهم في الحرب، ولو قتل كبيرهم، فلا يختلون ويقيمون أدنى شخص مقامه.
ثم عاد عرعر وارسل كتاباً آخر للنجراني يرغبه في الموافقة معه على حرب محمد بن سعود، وذكر له أنه إن وافقه على قلعه من تلك الأرض فله كل عام مائة ألف ذهب تصله إلى نجران، فرد النجراني الجواب: "لا يكون ذلك، كيف والشيمة هي حسن الوفاء بالقول؟ نعم انت ان ادركت منه الآن مرادك فلها، وإلا فإن أحدث بعد علينا شيئاً، فأنا بمجرد سماعه آتيه، ولا يردّني عنه شيء، إما قتله أو الموت". فأيس عرعر من اتفاق النجراني معه وحاصر الدرعية شهراً ولم يدرك شيئاً مما أراده فرجع الى الأحساء. (انتهى الاقتباس).

العجيب في الواقعة أنها ذُكرت في أكثر من مصدر تاريخي أرّخ لأحداث الجزيرة العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولم تمرّ على الملك سلمان الذي يُقال بأنه أحد المؤرخين لتاريخ عائلته، فلو كان قد اطلع على وقائعها لاتّعظ من توصيات شيخهم "المجدد" ابن عبد الوهاب الذي أمر أجداده السعوديين بأن يتجنبوا قتال اليمنيين. إلا إذا كان قرار الحرب وإيقافها يتجاوز سلمان وعائلته - وهو كذلك - لأنه لو كان يقيم وزناً لتاريخ أسلافه لفهم أن الحرب مع اليمنيين خاسرة، وهم إن توجّه اليهم عدوهم بالصلح صالحوه وعاهدوه والتزموا بعهدهم معه احتراماً لعاداتهم واخلاق تربوا عليها وتوارثوها أباً عن جد، والواقع أنّ من يقاتلهم سلمان اليوم هم أحفاد أولئك الذين حاربوا ثم سالموا أجداده والتزموا بما عاهدوا عليه. وفي الختام، الغدر الذي انتهجه السعوديون بينما كان أعوانهم يفاوضون وفد صنعاء في سويسرا سيضيف نقطة أخرى إلى السجل الأسود لمملكة آل سعود التي سيذكر التاريخ أنها بإجرامها وغدرها المتمادي داست على قيم الانسانية والأديان اضافة لأبسط العادات التي اعتاد العرب على تطبيقها في حربهم وسلمهم.

الهوامش
١- تاريخ ابن غنام/ حوادث سنة 1178 هـ - 1764 م.
٢- قبيلة كبيرة سكنت اطراف نجد، تنتسب إلى قبائل يام من همدان في اليمن.
٣- الرياض لم تكن عاصمة الدولة السعودية آنذاك.
٤- القتال بالبنادق.
٥- زعيم بني خالد في الأحساء، حكم بين 1752 - 1774 م.
*صحافي لبناني