تزداد بعض تحولات الوضع اللبناني غرابة، بل وسوريالية! لا نتحدث هنا عن بروز ظواهر التطرف والتكفير والعنف والهمجية (التي تستعصي جميعها على اي مقارنة)، بل عن واقع السلطة والإدارة والمؤسسات وفق آخر ما انتهت إليه «المعجزة اللبنانية» الشهيرة! في جانب من المشهد يواصل عدد من الوزراء نشاطهم الرقابي بمبادرة بدأها الوزير وائل ابو فاعور. وزير الصحة، من جهته، يبدو مثابراً على المضي في إجراءاته وإن كان يبالغ في تقدير مدى شموليتها وفعاليتها وصمودها. في الجانب المقابل، يصل العجز والفشل الى مداهما الأقصى، حيث وصل الشلل الكامل الى مجلس الوزراء المعطَّل بحكم ما كان ابتدعه من آليةٍ لعمله حولته الى مجلس الـ 24 رئيساً للجمهورية بالتمام والكمال!
ينهمك الآن عدد من المعنيين في محاولة إيجاد مخرج من هذا المأزق الذي عطَّل مؤسسة مجلس الوزراء، وأطلق، في المقابل، يد الوزراء، كل في وزارته، لاتخاذ ما يراه مناسباً من القرارات والإجراءات والمراسيم...
الواقع انه لا تناقض بين شلل المؤسسة وتفرد الوزراء باتخاذ الكثير من القرارات في شؤون وزاراتهم خلافاً للأصول الدستورية والقانونية. الأمران يبدوان، في الواقع الراهن، وجهين لعملة أو عملية واحدة. بالطبع، أيضاً، ليس ذلك فقط من قبيل تسيير عجلة الإدارة وملء الفراغ. إنه حلقة في سلسلة متواصلة من تكريس وتعميم «المحاصصة» التي استفحلت في ظلها الدويلات على حساب الدولة، وتقدم بموجبها الفئوي على الوطني، وطغى استناداً إليها الخاص على العام.
إن «المحاصصة» هي
العامل الأساس في توجيه سياسات ومواقف القوى المنخرطة فيها

إن «المحاصصة» هي العامل الأساس في توجيه سياسات ومواقف القوى المنخرطة فيها حتى الثمالة! بعض هذه القوى يجتهد، الآن، بكل السبل المتوافرة، ليس فقط لتحصيل (أو استعادة) ما يعتبره حقاً له، مكتسباً أو مغتصباً، من كعكة السلطة والنفوذ والإدارة، بل إلى شرعنة ذلك وتكريسه في الدستور إذا تيسَّر له ذلك! ما معنى إذاً تقديس «المناصفة» وإسقاط صفة الموقت عنها (محصورة بالفئة الأولى) التي حددتها بشكل حاسم المادة 95 من الدستور اللبناني. ما معنى تلك «الفجعنة»، من قبل البعض، في ممارسة الفئوية والإفراط في التعبئة الطائفية وفي محاولة إقرار قانون انتخابي سيؤدي، بالفعل، إلى انبثاق مجالس نيابية عدة يمثل كل منها طائفة أو مذهباً، مما قد يشكل، في الظروف الراهنة التي تتآكل فيها الخرائط والحدود والكيانات (الضعيفة خصوصاً)، خطوة طبيعية نحو التقسيم إذا تعذّر أو تعثّر التقاسم، أو إذا اقتضت ذلك مصالح كبرى إقليمية أو دولية...
ثم ماذا بشأن تلك الحوارات التي تتناسل يوماً بعد يوم بين القوى المتصارعة؟ إن الحوار ضروري من أجل قطع الطريق على الفتنة ومن أجل تخفيف الاحتقان وبحث عدد من الملفات... لكن لماذا لا يجري هذا الحوار في نطاق المؤسسات نفسها؟ أو ليس جميع المتحاورين ممثلين في مجلس النواب، وفي مجلس الوزراء؟ فلماذا لا يحصل الحوار هناك؟ بل لماذا يحصل هذا الحوار على حساب تلك المؤسسات ولتكريس تهميشها وتعطيلها بوصفها مؤسسات شرعية وعنواناً لوجود الدولة وهيبتها ووحدتها وفعاليتها؟!
والأسوأ أنه في امتداد تنامي التبعية والالتحاق بالقوى الخارجية، يتبلور أكثر فأكثر الحوار «الوطني» الثنائي الدائر الآن، بوصفه استجابة لرغبة خارجية في عدم إشعال أو تفجير الساحة اللبنانية، خصوصاً مع تفاقم وتوسع خطر التيارات التكفيرية الإرهابية وخروجها، بشكل متزايد، على أكثر المرجعيات التي كانت تقدم لها الدعم أملاً في توظيفها في خدمة موقعها في الصراع الإقليمي الذي يشغل الآن المنطقة والعالم أجمع.
الصراع «التقليدي»، والمتفاقم الآن في لبنان، هو على السلطة والنفوذ والإدارة وفق «كوتا» المحاصصة التي يقوم عليها النظام السياسي القائم، ارتباطاً، أيضاً، بالصراع الإقليمي والدولي. وهو صراع لا صلة له على الإطلاق بالإصلاح وبالتغيير وبمحاربة الفساد الغذائي أو وقف الاعتداء على المال العام أو على البيئة... لكن ليس أمام المواطن خيارات كثيرة. لذلك فقد رحَّب، آملاً أو متوهماً، بأن محاربة الفساد ممكنة بشكل جزئي ومحدود، وأنها يمكن أن تتحول إلى نهج يتبناه كل مجلس الوزراء كما جاء على لسان أحد الوزراء المعنيين: من قبيل الحماسة أو المبالغة!
ليس الهدف هنا التقليل من أهمية بعض التوجهات المخلصة من قبل هذا الوزير أو ذاك: اليوم، أو في الماضي، أو في المستقبل. بل يمكن القول انه في ظل القوانين والانظمة النافذة، يمكن تحقيق الكثير من الإنجازات الإصلاحية في حقول ومجالات عديدة. شرط ذلك، طبعاً، احترام الدستور والقانون وتفعيل المؤسسات، وخصوصاً مؤسسات الرقابة والخدمة المدينة، واستقلالية القضاء... أما إطلاق حملات محاربة الفساد من دون التوقف أو الامتناع عن تكريسه وتعميمه في الإدارة والتعيينات وفي انتهاك القوانين وتعطيل مؤسسات الرقابة ذات الصلة... فلن تكون أكثر من غمامة صيف ذات طابع فردي وإعلامي وعابر...
وبعيداً من التناول الشخصي أو الخاص، أو حتى من التطلب المبالغ فيه، أوليس من المفترض، أن ينظر مطلقو حملات محاربة الفساد في أمر علاقة فريقهم بالإدارة وفي دورهم في المحاصصة التي هي مصدر توليد الفساد وحصن حماية الفاسدين؟! ألا تستحق أي حملة لمحاربة الفساد جزئياً، أو كلياً، أن تُدرج في سياق نهج مراجعة وتصحيح، يستحسن أن يكون شفافاً وصريحاً وشجاعاً، وذلك من أجل أن تكون تلك الحملات جدية وفعالة وانعطافية ومستمرة ومستحقة لثقة المواطن وترحيبه وآماله...؟! ما زال طرياً في الذهن، لتبرير ما نورده من تحفظات، الموقف السلبي (من قبل معظم أطراف المحاصصة إذا لم نقل جميعهم) من التعليم الرسمي خصوصاً ومن القطاع العام عموماً، في موضوع إصلاح وتعزيز هذين وإقرار حقوق العاملين فيهما وما يتطلبه ذلك من تفعيل الخدمة المدنية والتفتيش التربوي... وصولاً إلى الإصلاح الضريبي وسواه، بما يعزز دور الدولة ويوطد علاقة المواطن بها وينعكس إيجابياً على الوحدة الوطنية. ليس هذا فقط بل إنه قد حصل تضامن عام وغير مقدّس (!) بين معظم اطراف الطاقم السياسي لإفشال تجربة توحُّد نقابية مميزة للمتضررين انطلاقاً من المصالح المباشرة وعلى حساب ما هو قائم من الولاءات التقليدية: الطائفية والمذهبية والعشائرية والزبائنية... ههنا تكررت، مرة جديدة، وبعد حوالى 15 سنة، التجربة التي حصلت في الحركة النقابية العمالية يوم تمت مصادرة الاتحاد العمالي العام بعد إغراق عضويته بالاتحادات المفبركة وإقصاء قيادته العمالية الحقيقية المستقلة التي كان يترأسها، آنذاك، النقابي الياس أبو رزق. وفي أخبار يومياتنا السلبية والحزينة التي لا تنتهي نقرأ أو نسمع أو نشاهد ما يجري في مستشفى رفيق الحريري «الجامعي» من تعطيل وإهمال، وهو أكبر المستشفيات الحكومية في لبنان والذي أُنشئ لكي يكون فعّالاً، وحتى نموذجياً، على مستوى كل لبنان!
وماذا يمكن القول بشأن الاستمرار في قبول عقود الزواج المدني الاختياري في الخارج والمواظبة على رفض عقده وعقوده في لبنان؟ أليس في ذلك اعتداء موصوفاً على حقوق المواطنين والمواطنات المكرسة في الدستور اللبناني، وحتى على مبدأ التعايش الذي أصبح مجرد كلام فارغ ليس إلا؟
لا نريد أن نبخس أي محاولة إصلاحية حقها، لكن لبنان يحتاج، لكي يتطور ويستمر إلى مشروع إصلاحي جدّي هو، بالضرورة نقيض لمنظومة المحاصصة والتبعية القائمة!
* كاتب وسياسي لبناني