مثّل ما حصل في الموصل يوم العاشر من حزيران/ يونيو 2014، وما بعده، ملفا كبيرا في المشهد السياسي في العراق، ووضع اسئلة حرجة وصعبة عنه في المنطقة وعند التحالفات والأحلاف والقوى الاقليمية والدولية. واستمر من الساعات الاولى الى ما يجري الان. من بينها المطالبة السريعة والإصرار على اجوبة واقعية وشفافة وكشف صريح عن الحقيقة، التي من المعروف انها الضحية الاولى في مثل هذه القضايا، ولا سيما اذا وضعت تحت قدرات محدودة ومماطلات وضغوط اركان الملف وأصحاب القضايا المشتعلة فيها، وخصوصا في وضع العراق اليوم.
كلف البرلمان لجنة للتحقيق، ومن ايامها الاولى تعرضت لضغوط شديدة من اطراف العملية السياسية وكتل البرلمان نفسه. وأعلن الخلاف بشأن رئاستها وأعضائها وطبيعة المشاركة فيها، وكلها اشارات متقدمة عن النتائج التي ستصل اليها، إلا اذا كانت النيات صادقة فعلا من جميع الاطراف فيها، وحولها دون نكاية وكيدية ولف ودوران مبطن من البداية. وقبل ان تبدأ عملها سجل اعضاء منها اتهامات لها، وجاءتها مثلها من خارجها، ومن اعضاء الكتل البرلمانية او الحزبية المشاركة في العملية السياسية، فكيف سيكون امرها مع الناقمين والغاضبين من كل ما يجري في العراق، قبل وبعد احتلال الموصل، واحتلال العراق، وخراب الموصل بعد خراب البصرة؟!
ثمة مفارقات غريبة في الملف.
لعل الالم الاكبر يعبر عنه الغموض السائد في الكارثة الحاصلة، والتراخي والتواطؤ في تفاصيل المأساة
قيادات عسكرية تسلم من دون قتال. فرق عسكرية لها اسماء وأرقام فقط، لم تثبت واقعها في الملف ولم تستطع ان تفصح عن قدراتها وأسمائها وأرقامها، ثلاث فرق او اربع، فرق عسكرية وليست فرق كرة قدم، من حيث العدد والعدة، كيف وأين تدربت هذه ومن المسؤول عنها وماذا حصل معها؟ اسئلة متوالدة لا تنتهي عند هذه الحدود. الضباط الذين وجدوا في لحظات الحدث الرهيب يحملون رتبا عسكرية عالية، رتب فريق ولواء وعميد، كيف وصل هؤلاء الى هذه الرتب؟ لماذا ارتضوا ان يسلموا الملف برمته الى هذه الوقائع المؤلمة؟ وما معنى السكوت هذا، وكأن ما حصل امر عادي وليس مأساة بكل معناها، وأين الحقيقة وصفحاتها في كل ما ذكر من بدايات ملف الموصل والى اليوم؟
ينتاب القلق مسار الاحداث ويؤلم كل من يتابعه او تأمل فيه. ولعل الالم الاكبر يعبر عنه الغموض السائد في الكارثة الحاصلة، والتراخي والتواطؤ في قبول او الصمت على تفاصيل المأساة التي رسمتها احداث الايام التي سبقت ومرت على الملف والمشهد السياسي في العراق وما تلاه من ارتباط بين مدينة الرقة السورية، ومجاورتها مدينة الموصل العراقية من الطرف الشرقي لها، بين الحدود والمدن الاخرى، بين فرسان التظاهرات ومتزعمي الاحتجاجات التي سبقت يوم الاحتلال، وتوقفوا عنده، مانحين مؤشرات المشاركة في الحدث المؤلم، والصمت عليه، ومن ثم الصحو على رماد الفجيعة. وبعدها «تعود حليمة الى عادتها القديمة»!.. كلام في كلام.. انكار علنا ولفظيا وتأييد ضمنا لما حصل واستثمار لما وقع، وهروب من الحقيقة الدامغة. واقسى ما يعبر عنه الملف، المسكوت عنه، هو مشاركة العديد من القائمين في العملية السياسية فيه، بشكل مباشر او بغيره، ومخططات مرسومة، وضعت بتصميم وتوزيع ادوار واستعدادات مختلفة وتجهيزات متكاملة شاركت في الملف قبل حصوله وبعده. وتبادل الاتهامات او التصريحات الاتهامية لا يغيّر من الوقائع ولا من صفحات الحقيقة فيها.
مرت اشهر طويلة وصعبة، قد ينفع عدها او احصاؤها، اكثر من سبعة اشهر، بنهاراتها ولياليها، وما زال الملف يراوح مكانه من دون انجاز فعلي يعيد له اسمه وروحه، ويطمئن اهله للأمانة عليهم ولحياتهم وللأجيال، التي عاشت المأساة وتعيشها من اخبارهم. وما زالت صفحات الحقيقة فيها مخفية وتحت التحقيق بالاسم من دون ان ترى ما يؤكد اهمية الكشف وتحديد المسؤوليات والاستفادة من الدروس ووضع الامور في نصابها وإنقاذ الاهل من النتائج المؤلمة التي تجري امام الجميع.
اعادة الصورة للأيام التي جرى فيها الاحتلال تفضح التدخلات الكبيرة والواسعة في تحقيقه ودعمه. كيف جرى استغلال الوضع المتذمر الى نكاية به، واستقبال تنظيم متطرف يمتد على الارض ويرفع رايات لا تعبّر عن حقيقة ما يعلن، ويمارس دورا ارهابيا وتدميريا فظيعا في التطهير الثقافي والحضاري والاثني والقتل والاغتصاب والسبي والتهجير والإبادة. وانجاز مهماته الاساسية في اكثر من مكان في السيطرة على البنوك، والسجون، والإفراج عن المؤيدين له او المحسوبين عليه وإعدام جماعي لكل من لم ينتسب اليه او من يعلن حربه عليه. ومن ثم السيطرة على المعسكرات والآليات، وكلها اميركية الصنع والتدريب والإعداد والإدارة. مَن نفذ ومَن ساعد ومَن اسهم في أي دور في ما صنع ملف الموصل، ومهد له وصمت واستمر الى الان؟!! مرة اخرى اسئلة وأسئلة اخرى تظل تتوالد وتطالب بأجوبة صريحة وكاملة وشهادات ناصعة وصادقة احتراما للدماء التي اريقت، وللتضحيات التي قُدمت، وللتاريخ الذي يسجل ويشهد. وهي بكل تداعياتها وسطورها تظل في باب السؤال والمطالبة. ومن هنا تأتي اهمية لجنة التحقيق ومسؤوليتها في الاجابة ورد الاعتبار لكل من تضرر مما حصل، وعلى مختلف الصعد والمجالات.
لا يمكن الصمت بعد، فالمأساة اكبر من صورتها وما حصل درس تاريخي، يفضح من شارك في التخطيط لها والعمل داخلها وتنفيذ ما رسم له فيها او تغافل عنها وراهن عليها. ويضع صفحات الحقيقة امام الجميع لكشف الملف وملابساته والعبر من مجرياته والاستفادة من آلامه وقسوتها لوضع حد لها وإنهاء الاحتلال بكل صوره وأسمائه والوعي بخطورته، وتداعياتها التي جاءت بكل ما حصل الى الان وما زالت تلد اشباهها ومسمياتها المختلفة.
يبقى وضوح الهدف مهمة واجبة. ويفتح الملف صفحاته لإدراك جديد ومهم وقناعة وجدية كاملة. فلا يمكن ان يجري دون تحمل المسؤولية عما حدث، والتخلص من الرهانات المخادعة والتكاذب والتخادم المكشوفين في العملية السياسية الجارية، والتوجه بإخلاص لبناء العراق واحترام مصير الشعب ومستقبله في وطن حر ديمقراطي مستقل سعيد.
* كاتب عراقي