يبدو أن مصير سمعة «داعش»، الذي دأب الغرب على صنعه وتلميع صورته منذ ظهوره على الساحتين السورية والعراقية قبل عامين تقريباً، بات على المحك، وعملية التحول في تغيير مكانته ودوره في المنطقة باتت قيد المعالجة. فالصورة الغربية التي قُدمت لهذا التنظيم على أنه ثائر ضد النظام السوري وساعٍ لإسقاطه، وإن كان هناك تحفظ (غربيّ) على بعض أساليب عمله أحياناً، بدأت بالتغيُّر فعلياً.
يبدو واضحاً أن تغيّراً غربياً دراماتيكياً بات العنوان العريض للتعاطي مع هذا التنظيم. فمن تهويل غربي لقوته وتغطية إعلامية لتحركاته، صاحب الإعلان عن نشوئه قبل عامين تقريباً، بحيث جرى تصويره على أنه القوة التي لا تقهر، وأن مقاتليه يتمعتون بقوة وعتاد شديدي الانضباط والتنظيم يمكنه إسقاط نظام الرئيس السوري، وإجراء تغييرات سياسية في العراق، انتقالاً إلى دعم سياسي ولوجستي وأمني وعسكري عبر التغطية على قادته وتزويدهم بالعتاد والسلاح «غير الفتاك»، وخرائط توزع الجيشين السوري والعراقي، وتسهيل حركة مقاتليه الذين فتحت لهم الحدود للعبور والالتحاق به في سوريا خاصة، مروراً بالتحليلات والتفسيرات السياسية والإعلامية التي قدمتها وسائل الإعلام، ولا سيما الغربية منها، والتي كانت تتوزع ما بين تقديمه كقوة فاعلة من جهة، وقوة إرهابية من جهة ثانية، والتي مهدت ورافقت إعلان ما يسمى «دولة الخلافة الإسلامية»، عدا عن تسليط الضوء على أبرز شخصياتها وقادتها. كل ذلك جرى بتنظيم غربي شديد الدقة، كان الهدف منه أن يتمكن هذا التنظيم الناشئ، بسرعة وبقوة، من تحقيق أهدافه المرسومة له في زمن قياسي. فيكون بذلك الغرب قد ضرب عدة عصافير دفعة واحدة بحجر واحد فقط. ليس أولها الترويج لفكرة سهولة إسقاط نظام الرئيس السوري، وما يلحقه ذلك من بلبلة وفتن في الداخل السوري، إضافة إلى تشتيت انتباه وعمل الجيوش العربية عن عدوهم الحقيقي عبر خلق عدو جديد. وليس ثانيها إيجاد حالة من التوحش والإرهاب والعنف تسود دول المنطقة العربية بفعل نشاط داعش الإرهابي. وليس آخرها خلق حالة جديدة من التوزيع الديموغرافي لسكان المنطقة، عبر تصفية بعض مكوناتها الأصيلة من قبل داعش، واستجلاب مكوّن متجانس النسيج أغلبه من الخارج، يتصف بالعنف والإرهاب، ما أدى ويؤدي بشكل دراماتيكي إلى تصاعد الأصوات المطالبة عربياً وإقليمياً ودولياً بضرورة التدخل الدولي بأشكاله المختلفة لحماية المنطقة من حالة التوحش التي أوجدها داعش وأمثاله في المنطقة. وبالتالي يصبح بإمكان الغرب (بفضل داعش) النهوض بمهمة إدارة التوحش خوفاً على الأمن والسلم الدوليين اللذين باتت المنطقة العربية أبرز من يهددهما في العالم.
الصمت الدولي الذي شكل عاملاً محفزاً وداعماً لنمو التوحش في المنطقة العربية بقي (كما هو مخطط له) حتى حقق داعش ما هو مطلوب منه، وبدأ بالاقتراب بوحشيته وأعماله الإرهابية من الخطوط الحمراء للمصالح الأميركية والغربية، ولا سيما في العراق وسوريا، الأمر الذي شكل بداية الإعلان عن قرع ناقوس الخطر غربياً، فالتوحش والعنف والاقتتال بلغت ذروتها، وباتت تأثيراتها ونتائجها تلامس العمق الأوروبي والأميركي مهددة الأمن القومي لهما، فأصبح الصمت الغربي غير مقبول، الأمر الذي استدعى بدء عمليات التنسيق لمواجهة الخطر الجديد للعدو المصطنع، والقيام بعمليات عسكرية هنا وهناك تحت مسمى «التحالف الدولي ضد الإرهاب». تحالف كانت أبرز ملامحه أنه جاء من القوى الغربية والإقليمية ذاتها التي أوجدته وموّلته ودعمته!
اللافت للانتباه أن عمليات التحالف تلك لم تفضِ إلى تقليص أو إضعاف قوة داعش الذي راح يتمدد بكل الاتجاهات. وهو أمر طبيعي قياساً بالدول المنخرطة فيه. وهو ما يؤكد «صوابية» الرؤية الغربية من أن العنف والإرهاب باتا الصفة المميزة الجديدة للمنطقة العربية. إلى هنا يكتمل السيناريو الغربي والأميركي تخطيطاً وتنفيذاً، وتصبح حالة التوحش أمراً واقعاً في المنطقة العربية، الأمر الذي يجعل من إمكانية التدخل العسكري المباشر للقوى الكبرى ضرورة بالغة الأهمية. فالجيوش العربية المشغولة بقتال داعش تشتت قواها على مساحات بلادها، والتنظيم الإرهابي بات العنوان الأبرز للعنف، والاقتتال الطائفي في الدول العربية يبلغ ذروته هنا وهناك. أمام هذا المشهد الدموي، بات ينظر للقوى الغربية على أنها المخلص الوحيد لشعوب المنطقة، والمسؤول الفعلي عن أمن العالم واستقراره.
الغرب الذي استنفر بأكمله، ولا سيما بعد وقوع عدة حوادث إرهابية على أراضيه، تنطح أخيراً بمسؤولياته المنتظرة، لاغياً عبر عمليات ضربه لداعش الحدود بين دول المنطقة، ومفسحاً المجال أمام المجموعات المسلحة التي جهزها ودربها وسلحها تحت مسميات «مسلحي المعارضة المعتدلة» للظهور مجدداً على الساحة كأحصنة مقاتلة في الخطوط المتقدمة ضد إرهابيي داعش، وكنسخة منقحة معدلة ومقبولة «لاعتدالها» بحسب وصف الغرب. لكن هذه الخطة الغربية كانت قد أدت في المقابل إلى إعطاء الشرعية الفعلية للطرف الآخر في النزاع، وهو تيار المقاومة، إلى تجاوز فكرة الحدود، وتنسيق جهوده على كامل الرقعة العربية لمواجهة داعش (العدو الجديد المصطنع)، إضافة إلى العدو الأساسي (إسرائيل). وهو الأمر الذي غفلت عنه الحسابات الأميركية ــ الغربية ووضعها في خانة اليك. لكن ذلك بات يعني أن كل الأطراف الآن باتت متفقة على إلغاء الحدود في نشاطها أولاً، وعلى إنهاء داعش أو تحييد دوره ثانياً.
تطاول داعش وعدم قدرة الغرب على لجمه، فضلاً عن الاعتداءات الإسرائيلية والعمليات العسكرية الاستفزازية التي قامت بها في سوريا وجنوب لبنان، جعلت من تيار المقاومة ناشطاً فعلياً من جنوب لبنان، مروراً بالجليل والجولان وانتهاءً بالعراق، عبر تنسيق عملياته مع حلفائه، وإنشاء حركات مقاومة شبيهة به (المقاومة في حوران)، ما يعني أيضاً أن تيار المقاومة بدوره بات يتجاوز الحدود الجغرافية للدول، ليتحول إلى ناشط واحد متجانس ومنظم على رقعة واحدة، سواء بأطرافه الحقيقية على الأرض أو بداعميه الإقليميين والدوليين.
كل الأطراف ساهمت في تجاوز فكرة حدود الدول، بدءاً من داعش الذي أعلن بلاد الشام رقعة واحدة لدولته المزعومة ونشاطه الإرهابي وحربه ضد صانعه الغرب وضد الأنظمة العربية «الكافرة» برأيه. كذلك الغرب الذي باتت ضرباته العسكرية ضد داعش وضد الأنظمة العربية التي تريد إزالته، توجه إلى المنطقة بغض النظر عن حدودها. الأمر عينه بالنسبة لتيار المقاومة الذي بات يعتبر هذه اللحظة التاريخية الفرصة المثلى ليقدم نفسه على أنه جبهة واحدة ممتدة على كل الرقعة العربية التي تتعرض للخطر الداعشي والإسرائيلي والغربي.
إذاً منطقة واحدة بلا حدود باتت تشكل رقعة شطرنج كبرى للصراع، وللحرب التي ينخرط فيها الجميع في حربه ضد الجميع. حرب الكل ضد الكل كما قال هوبز يوماً، لكن بملامح جديدة؛ أبرزها أن داعش فقد قلاعه وبات ملكها بلا وزراء يحمونه بعدما تخلوا عن حمايته بسبب إرهابه، فيما المقاومة عززت قلاعها وحافظت على ملكها وحصّنته. يبقى الغرب الذي عزز من قوة أحصنته، فسياسته الجديدة باتت ترى أن «ملك داعشي» واحداً على الرقعة لا أهمية له طالما أنه يمتلك الكثير من الأحصنة المقاتلة على الأرض، وبالتالي يمكن الاستغناء عنه أو تقديمه كشكل بلا مضمون. فملك بلا وزراء وقلاع وأحصنة أصبح ميتاً نظرياً.
كل الأطراف، قاب قوسين أو أدنى، على وشك أن تقول لداعش «كش ملك»، وأن تخرجه من اللعبة. الأمر مسألة وقت، وحتى حينها كلٌّ يفكر كيف سيدير التوحش الذي سيخلفه الملك الداعشي وراءه، في الرقعة الجغرافية العربية المتغيرة.
الرقعة التي ستكون ساحة لأعداء موجودين الآن أو محتملين في المستقبل، لقوى آنية أو مستقبلية، لملك داعشي راحل وآخر قد يأتي بأسماء براقة أو خافتة. ساحة فُتِحَت الآن للصراع على مصراعيها، ولا أحد يمكنه أن يتكهن بموعد إغلاقها.

* كاتبة سوريّة