لم تتوقف خطة التهجير والتدمير التي ترافقت مع وصول عصابات المستعمرين للأرض العربية الفلسطينية، بل أخذت أبعاداً جديدة على يد جيشٍ، قوامه القتلة الذين نفذوا المذابح. لهذا، تأسست «عقيدة» هذا الجيش على تنفيذ المجازر، لتحقيق التطهير العرقي والاستيلاء على الأرض طوال السنوات التي تلت إعلان قيام الكيان/ الثكنة عام 1948. كانت الحرب العدوانية التي شنها جيش الغزو والاحتلال على قطاع غزة الصامد في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس عام 2014، هي المجزرة الأكثر حداثة في مسيرة الاعتداءات الصهيونية، سقط خلالها أكثر من 2200 شهيد وما يقارب 12 ألف جريح، وتهجير مئات الآلاف من المواطنين من بيوتهم المدمرة، مع الإجهاز شبه الكامل على البنى التحتية في القطاع.
المجزرة والضمير الإنساني

أمام هول المذبحة، تحرك الرأي العام العالمي، الذي انعكست ارتدادات نشاطاته اليومية على المؤسسات الدولية، ما دفع بمجلس الأمن لإصدار قراره في 23 تموز/ يوليو لتشكيل لجنة تحقيق دولية في أسباب، ومن ثم، نتائج العدوان الوحشي الذي استمر واحد وخمسون يوماً على غزة. هذه اللجنة ترأسها الحقوقي الكندي ويليام شاباس للبدء في تنفيذ مهماتها، وبعضوية «مندودو ديين» من السنغال، الذي شغل سابقا مراقب الوكالة الدولية للعنصرية بعد صراع ساحل العاج، والحقوقية النيويوركية السابقة ماري ماكغاون ديفيس. تحددت مهمة اللجنة بالنظر بانتهاكات محتملة للقانون الدولي الانساني في العمليات العسكرية التي يشهدها قطاع غزة. وعلى الفور، وصف جهاز الاتصال التابع لرئيس حكومة العدو، قرار مجلس الأمن بأنه «مهزلة»، وأعرب عن استياء الحكومة من اختيار شاباس لرئاسة اللجنة، لكونه «منحازاً للطرف الآخر _ الفلسطينيين_، وسجله يشهد على ذلك ...والتقرير قد كُتب بمجرد تعيين شخص يحمل آراء ضد إسرائيل مثل شاباس، والعنوان بات معروفا قبل البدء بالتحقيق".
كعادتهم، لم يتحمل مجرمو كيان العدو الصهيوني، انكشاف حقيقتهم الفاشية

وكعادتهم، لم يتحمل مجرمو كيان العدو الصهيوني، انكشاف حقيقتهم الفاشية، فبدأوا حملة واسعة على أكثر من جبهة لإبعاد شاباس عن اللجنة، انطلاقاً من أن الحقوقي الكندي كان قد قدم استشارة قانونية «مدفوعة الأجر» في عام 2012 لسلطة الحكم الإداري الذاتي من أجل تعزيز مكانتها الدولية لتصبح دولة غير عضو في الأمم المتحدة. في سجل أستاذ القانون الدولي ويليام شاباس ما يشير إلى دفاعه الموضوعي عن حقوق الإنسان الفلسطيني المستباحة على يد قادة الكيان، حيث كانت له شهادة أمام لجنة في نيويورك تهتم بالفلسطينيين Russell Tribunal on Palestine»» في كانون الثاني/ يناير عام 2013 شدد خلالها بالقول «أود أن أرى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في قفص الاتهام أمام محكمة لاهاي الدولية المكلفة التحقيق في جرائم الحرب».

الكيان والعداء لدور اللجنة

منذ أن بدأت لجنة التحقيق الدولية عملها، سارعت حكومة العدو، بدعم من حلفائها الدوليين والإقليميين، للتشكيك في دورها «المنحاز سلفاً... نظراً إلى انعدام الحيادية والموضوعية» من خلال رئيسها، وبدعوة الهيئات الدولية المعنية لمطالبته بالاستقالة. وهذا ما عبّر عنه شاباس في شهر أيلول / سبتمير من العام الماضي، حينما أعلن عبر حديثه مع صحيفة «الشرق الأوسط» الصادرة في لندن «أتعرض لضغوط شديدة من الحكومة الإسرائيلية...لا، لن أستقيل إلا إذا رأى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن وجودي على رأس اللجنة سيعطل سير التحقيق، وإلا فلن أستقيل»، مضيفاً «أنا لم أسمع هذه الدعوات إلا من الإسرائيليين، وإعلامهم ومن المؤيدين لهم، ولن أفسح المجال لأي منهم ليزعجني، فأنا هنا من أجل القيام بعمل كلفت به ولن أتراجع، والتحقيق يجب أن يجري».

تهديد شاباس بالقتل

مع مرور الوقت، وبدء اللجنة بكتابة تقريرها، صعّدت حكومة المستعمرين الصهاينة من حملة العداء على رئيس اللجنة، لتصل لمستويات خطيرة، دفعت بشاباس ليعلن عبر مجلة «عين على الشرق الأوسط» الأجنبية عن تسلمه لتهديدات بالموت «تلقيت بريدا الكترونيا يحوي تهديدات عدوانية جدا. تهديدات على حياتي»، مضيفاً «لا ألوم أي تنظيم أو دولة بالقيام بهذه التهديدات ...لكن هناك أجواء ساعدت على ذلك، لأن هناك أشخاصا لا يرغبون بالتحقيقات»، لكن الحقوقي الكندي البارز، الخبير بقضايا حقوق الإنسان، اضطر إلى تقديم استقالته للمفوضية العليا لحقوق الإنسان صباح يوم الثلاثاء في الثالث من شهر شباط / فبراير الحالي، معللاً سبب اتخاذه قراره «لمنع أي تأثير لهذه القضية على إعداد تقرير اللجنة ومستجداته، الذي يتوقع أن يصدر في آذار/ مارس المقبل». وعلى الفور، رحبت حكومة العدو على لسان أكثر من مسؤول فيها باستقالة شاباس.
المثير للشكوك كان التكليف السريع برئاسة اللجنة للقاضية الأميركية ماري ماكغاون ديفيس
نائب وزير الخارجية تساحي هانغبي قال «لا ضلع لاسرائيل في الضغوط التي مورست عليه لتقديم الاستقالة». أما ياريف ليفين، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، فقد دعا «لحل لجنة التحقيق الدولية كلياً»، مشيراً إلى أن «تعيين شاباس رئيسا لها كان خاطئاً من أساسه»، ومضيفاً «أن خطوة شاباس هذه هي دليل آخر على أن جهوداً دبلوماسية حازمة وإصراراً حكومياً ـ تقرأ: الضغط الصهيوني والأميركي ـ يؤديان في نهاية المطاف الى تحقيق نجاحات في الحلبة المعادية التي يمثّلها مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة». أما نتنياهو، فلم يكتف بالدعوة إلى تهميش التقرير الدولي الذي كان يشرف على إعداده شاباس، بل «وضع تقرير اللجنة على الرف»، وهو ما يعكس استهزاءً بأي قرار دولي لا ينحاز لجانب القاتل على حساب الضحية.

ابتزاز صهيوني واستجابة دولية

لم تكن استقالة شاباس مفاجئة، فقد سبق للقاضي ريتشارد غولدستون أن قدم تقريراً تضمن توصيات بالتحقيق باحتمال حدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها جيش العدو الصهيوني أثناء الحرب التي شنها على قطاع غزة أواخر عام 2008 وبداية عام 2009. بعد نشر التقرير تعرض غولدستون لحملة صهيونية مدعومة باللوبيات اليهودية الضاغطة في الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية، أدت إلى تراجعه عن التوصيات، لكن اللافت للنظر والمثير للشكوك، كان السرعة التي استجاب بها مجلس حقوق الإنسان لطلب الاستقالة، وللتكليف السريع برئاسة اللجنة للقاضية الأميركية ماري ماكغاون ديفيس. وقد تلقت حكومة العدو نبأ الإعلان عن تكليف الحقوقية الأميركية بارتياح واضح، لأنها «أكثر توازناً»من الرئيس المستقيل، و»ذات صدقية عالية، نظراً لموقفها المحايد»؟! على حد تعبير عدة مصادر سياسية وإعلامية.

خاتمة

أمام النتائج التي استطاعت أن تحققها حكومة العدو وحلفاؤها الدوليون في الضغط على شاباس لتقديم استقالته، وترتيب وصول القاضية الأميركية لرئاسة اللجنة، تبرز للعلن المحاولات الدؤوبة التي يعمل عليها أعداء الشعب العربي الفلسطيني، في محاولة التزوير والتضليل في مضمون التقرير الدولي الذي أشرف عليه القاضي شاباس، والذي سيعلن في شهر آذار / مارس المقبل. والسؤال الذي يبرز أمامنا: كيف ستتعامل سلطة الحكم الذاتي في رام الله المحتلة والحكومات العربية والصديقة مع كل تلك المحاولات؟ هل تدفعنا تلك «الانتصارات» التي حققها الحلف المعادي في دفع شاباس للاستقالة وتعيين ديفيس، للخوف على ما سيحمله التقرير الموعود؟ هل هناك ما يدفعنا للتفاؤل في ظل تجربتنا، فلسطينياً، مع تقرير غولدستون؟ الأسابيع المقبلة ستحمل الإجابة.
*كاتب فلسطيني