تتضاربُ معطيات الساحة الإسلاميّة حد الالتباس؛ ليست ثمة دراسات جديّة تحلل واقعها الحالي، أو تستشرف جوانب من مستقبلها المنظور.
المفكرون والباحثون لا يمتلكون أبعدَ من رؤاهم الشخصيّة غالباً (على قيمتها)، في حين يعيش قسمٌ يُعتّدُ به من الطبقة المثقفة انفصالاً نسبيّاً عن الخطاب الدينيّ؛ في حاجاته وإشكالاته المعرفيّة.
أمّا مأسسة البحث حول الشؤون الإسلاميّة المعاصرة فهو الضرورة الاستراتيجيّة الغائبة؛ في واقعٍ ما زالَ يعيشُ أولوياته المذهبيّة.

وعلى ذكر المذاهب؛ من الأهميّة الإشارة إلى أنّ الانتماء الحقيقيّ للجمهور بات بالفعل يُحتسبُ للعناوين المذهبيّة الضيّقة؛ أمّا العنوان العام للإسلام فيكاد يصبح غريباً ومنعزلاً لا يمثّل المساسُ به حساسيّة كالمساس بأيّ مفردةٍ طائفيةٍ.
هذا المشهد الكلّي ليسَ مدعاة تفاؤل في المستقبل القريب؛ اللهم إلا أن يُحصّن اللطف الإلهيّ بعض واقعنا من تبعات ضياع البوصلة العامّة، وضعف قادتها.

الخطاب الدينيّ

لا يفوتُ المتتبعَ الموضوعيّ لحظ أزمة الخطاب الدينيّ المرحليّة، إن في فقره المعرفيّ، أو لغته الجافّة؛ وهو ما يجعله رهين الأداء الوعظيّ من جهة، والانحشار ضمن الجمهور التقليديّ الذي لم ينفتح على عوالم الحداثة من جهةٍ أخرى.
في الآن ذاته، لا يخلو المشهد من أصوات ناضجةٍ وفارقة، غير أنها تحارب من داخل بيئتنا النمطيّة قبل خارجها.
المعضلة أنّ أغلب المؤسسات المنتجة للخطاب الدينيّ لا تكاد تلحظ هذه الفجوة بينها وبين الآن المعرفيّ ولغة جمهور الحداثة؛ وبالتالي فهي أبعد من إدراك حجم المشكلة فضلاً عن علاجها.
جهاتٌ عديدةٌ تبدي تخوّفها من موجة ابتعادٍ من نمطيّة الخطاب الدينيّ (لا الدين نفسه)؛ وميل شرائح _شبابية في أغلبها_ إلى تجميد الدين كمعتقدٍ ونظام حياة، والانفتاح بشكلٍ غير ممنهجٍ على نظريات علميّة غير مكتملة، أو ثقافةٍ غربيةٍ لا ضابط معرفيّاً واضحاً لها؛ والمحصّلة أن «الدين» بمعناه الحقيقيّ ليس في مراحل ازدهاره.

هاجس الإلحاد... تاريخيّاً

في الآونة الأخيرة بدأت غيرُ جهةٍ دينيّة بتناول مفردة «الإلحاد» كهاجسٍ يشغل البال ويؤرق أحلام ازدهار المشروع الإسلاميّ المأمول؛ وفي الحقيقة ثمّة العديد من مفردات الواقع والدراسات والأرقام التي تشير إلى منطقيّة هذا التخوّف.
في حال صحّت الإحصاءات التي بدأت تشاع عن تزايد «الإلحاد» كظاهرة اجتماعيّة دينية؛ لا بُدّ من قراءةٍ موضوعيّة للأسباب والآليات، ومُعالجةٍ موضوعيّة كذلك؛ بعيداً من الانفعال أو التخوّف المبالغ به. هذه الحالة ليست بدعاً من واقع هذه المنطقة؛ وبالتالي لا ينبغي أن تشكّل هاجساً زائداً في بيئة عاشت صراعاً متواصلاً بين شتى أنواع التيارات الفكريّة والدينيّة، منذ عصر الرسالة الأوّل وحتى الآن.
في تاريخٍ غير بعيد شهدت المنطقة «زحفاً إلحاديّاً» ملحوظاً؛ «تركيا أتاتورك» كانت على صدارة القائمة، تلتها «إيران الشاه»، ولم يكن رواج الشيوعيّة في العراق أقلّ أثراً.
راهن الغرب _المُلحدُ منه_ بعيداً على هذه الانطلاقة؛ لكنها اصطدمت بأكثر من جدارٍ صلب، جعل الكفّة تميل لمصلحة الإسلاميين في فترةٍ قصيرةٍ نسبيّاً.
فتوى «تحريم التبغ» الشهيرة للسيد محمد حسن الشيرازي (1891) أظهرت بشكلٍ مفاجئ شعبيّة عاليةً للقيادة الدينية التي كانت تفتقر بشدّة إلى الدعاة والمبلّغين، وأجبرت شاه إيران على تعديل سياسةٍ اقتصاديّة كاملة.
كما أثمر ظهور الحركات الإسلاميّة التجديديّة ورموزها الواعدين (كجمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال) حضوراً إسلاميّاً في الساحة الفكريّة.
للأسف... لم تلبث الحالُ أن تغيّرت؛ فقد كانت مأسسةُ هذه الحركات ونتاجِ الشخصيّات المبدعة أكبر من قدرة البيئة قليلة الخبرة التنظيميّة.
تصلّبت الأمّة على وقع كلمات هؤلاء الأشخاص وغيرهم، وحاولت جاهدةً أن تقتات من نتاجهم وبريق أسمائهم أطول أمدٍ ممكن؛ لكنّها ليست بالتقنيّة التي تبني مشروعاً حضاريّاً.
ثمّ تنامت «مقاومة التغيير الإيجابي» في الداخل الإسلاميّ نفسه بشكلٍ مُطّرد؛ كُفّرَ بعضُ المجددين، وضُلّلَ البعضُ الآخر، في حين اغتيل تراث آخرين بعد وفاتهم، وعمدَ الوارثونَ إلى تفريغ رسالتهم من فحواها وأبعادها الحركيّة.
لا يُمكنُ لأحدٍ الجزمُ أنّ هذا التراجع الفكريّ المتتابع خطّة عدوٍّ خارجيّ؛ فالبيئة الرجعيّةُ أكثر عداءً لنفسها من عبث الخارج ومخططاته.
شعار «التأصيل» الذي أطلقه كبارُ المفكرين الإسلاميين كان الخاسر الأكبر؛ إذ انقلب بشكلٍ مُخيفٍ إلى رجعيّة في الفكر، ورجمٍ للحداثة، ومعاندةٍ لمستجدّات العصر.
رغم هذه السلبيات القاتمة؛ ثمّة _من دون ريب_ متغيّرات إيجابيّة على الساحة الإسلاميّة، والرهانُ عليها لا يخلو من فسحة تفاؤل.
إنّما بالعودة إلى مفردة «الإلحاد» تحديداً؛ بشقيه الإيجابي (أي نفي وجود الإله) أو السلبي (عدم الإيمان بوجوده)، ليس خافياً أن قصور الخطاب وتحجيم الفكر الدينيَّين سببان وجيهان لهذه المشكلة؛ والحلُّ بدوره ينطلق من هنا تحديداً.
حين تُقدّم فكراً قيّماً، وخطاباً مشوّقاً؛ تستطيع أن تحصد قناعةً جماهيريّة واسعة، أمّا حين تعيش جموداً وتكراراً واتكالاً على الموروث؛ فلا يمكن إلّا أن نلوم جهةً كتلك التي تحمل اسم الدين ومشروعه، وتتحكّم بإمكاناته ومقدّراته الضخمة.

تيارات دينيّة

ثمّة تيّاران رئيسان في ساحة العلم الدينيّ اليوم؛ الأوّل غارقٌ في نمطيّة يترهّل فيها المضمون المعرفيّ بشكلٍ خطر، والثاني حداثويّ الفكر واللغة؛ غير أنّهُ قصيرُ اليد في إدارة المنبر العام والإعلام الملتزم.
لطالما كان هناك تيارٌ ثالثٌ تنجرف به الحماسة للحداثة ناحية التفريط، وتضييع الأهداف الرساليّة الحقيقيّة؛ لكنّ هذا لا يمثّل مُبرراً لاستحواذ النمطيين على الساحة بهذا الشكل المخيف؛ بل لعلّ ضريبتهم في الإفراط لا تقّل أبداً عن ضريبة المفرطين في الحداثة.
لا بُدّ للخطّ المعتدل الناضج أن يأخذ دوره، ولا يبدو أنّهُ يمتلك أدوات القوّة الكافية بعد.
التحديث المقنن للمعرفة والخطاب الدينيّ ضرورةٌ قصوى؛ وإلا فإننا ذاهبون _في مرحلةٍ غير بعيدة_ إلى نموذج الفصل الكنسيّ عن قيادة المجتمع، وهو كابوسٌ حقيقيّ لمن يُدرك تجذّر الرسالة الإسلاميّة في مشروع قيادة الحياة.
نكادُ نُقبلُ بالفعل على موجةٍ من «التردّد الديني» إن صحّ الوصف؛ ريثما تنهض في هذه الساحة قامات فكريّة تواكب المرحلة، وتمتلك حداثة المعرفة الدينية، وخطابها المتطوّر القابل للتأثير.
المشكلة التي نعيشها _عادةً_ في البيئة العلميّة أنها تكاد لا تستفيق إلا على وقع الأزمات؛ وقلّما تبادر لإدارة المشكلة قبل وقوعها. ليست هناك دراسات جديّة لمستقبل المجتمع الملتزم، ولا قراءات موضوعيّة لواقع الجمهور المتأثر للغاية بالفكر المستورد؛ هذه ثغرةٌ استراتيجيّة بحاجةٍ إلى ترميم؛ ولعلّ من الخطوات المهمّة في هذا الإطار أن تنفتح بيئة التعليم الدينيّ على تلقين طلبتها بعض العلوم الحديثة الضروريّة، بمستوياتٍ مدروسة؛ بحيث يكون «طالب العلم» قادراً في مرحلة الدعوة والتبليغ على فهم مستوى الوعي والثقافة في بيئته، ومتمكّناً من تقديمها بلغتها، لا بلغته التي يناهز عمرها مئات الأعوام.
أمّا تيّارُ الدمويّة المقززة للتطرف الصاعد باسم الدين، وما رافقه من استغلالٍ إعلاميٍّ مُحكم؛ فلا يُمكن إغفالُ كونهِ مساهماً قويّاً في تشويه صورة الدين؛ وابتعاد شرائح داخليّة من عنوان الإيمان والتزاماته.
التطرف الدينيّ أوغل في خلق قناعةٍ جمعيّة لهذا الجيل المرهق من حدّة التطرّف؛ ودفَعَه قهراً ليكون أكثر ميلاً إلى التحرر من العنوان الديني برمّته.
ثمّة بالفعل ارتدادات قاسية في جانبٍ من وعي الشارع الإسلاميّ، وإرباكٌ أمام «النصوص» التي تُجيّرُ لتشويه العنوان الدينيّ بلوثة التطرّف.
هذا أمرٌ لا يُمكن التعامي عنه، وتحديداً لدى الشرائح غير المحصّنة دينياً؛ التي لا تصغي كثيراً للمنبر أو إعلامه؛ وقد بدأت تميل في بعضها إلى الإفصاح عن عدم ملاءمة «الدين» لقيادة الحياة (ولعلّ هذا أحد أهداف صناعة التطرّف ودعمه المتنامي).
بعيداً من ذلك... ومن زاويةٍ استراتيجيّة؛ لعلّ الأخطر في النزعة الطائفيّة المتصاعدة أنها تستنزفُ أكثرَ طاقات الفكر والخطاب الديني؛ لتصيّرهُ صراخاً متبادلاً، في وقتٍ أحوج ما تكون الساحة فيه لإنتاجِ فكرٍ حداثويّ وخطابٍ حضاريّ.
وبالتالي؛ ستتأصّل هذه الأزمةُ في واقعنا، وستترسّخ أكثر حتى ضمن أولويات مؤسسات التعليم الديني؛ ليصيرَ الدّفاع عن حياض المذاهب أقدس من نشر رسالة الدين نفسها!
هنا مكمنُ المشكلةِ والحلّ؛ أن يصير الدينُ بعنوانه العام أولويّة أمام كُلّ حسابات المذاهب، أو أن تأكل المذاهبُ دينَها وتنتصرَ لحدودها المصطنعة.
* باحث وأستاذ حوزوي