أياد المقدادارتكبت إسرائيل خطأها المميت وتجاوزت الحدّ الأقصى ممّا هو مسموح به في عالم الغباء. فهل كان نتنياهو يعي فعلا أنّه يستبدل «جيرة طيّبة» بأخرى «شريرة»، وأنّ سعادته باستضافة «جبهة النصرة» على مرمى حجر من أسلاكه الشائكة وفي أروقة مستشفياته كان يمكن أن تدوم وتدوم لو أنّه استطاع كبت غرائز القتل في «الهرّ» الكامن فيه؟.

لكنّ الهّر ما لبث أن تلقى لكمة مؤلمة على أنفه بالذات دون أن يلقى الإهتمام الكافي من السيّد الأميركي المنشغل بدفع الملف الإيراني النووي إلى نهايات سعيدة. وهو بالضبط ما يثير حفيظة المؤسسة الصهيونية التي ترى في التوسع الإيراني على حساب بُعدها الإستراتيجي استفزازا قاتلا، ثمّ عليها أن تستمع لتصريح الإدارة الأميركية «أن لم يثبت لدينا أي نفوذ إيراني على حوثيي اليمن»، بينما تواصل هذه الإدارة انشغالها بتسليح الجيش العراقي وتدريبه، وهذا محبط.
كان لزاما على نتنياهو أن يصيح بأعلى صوته لدى زيارته لجرحى عملية شبعا الأخيرة «أنّ الإيرانيين يريدون اقتلاعنا من بيوتنا وأنّهم يفتحون أكثر من جبهة ضدّنا». وهو نداء استغاثة بالفعل لمخلوق استبقته الأحداث ولم تعد سياسات دولته التقليدية تجدي نفعا. فقوة الردع الإسرائيلي باتت بائسة في هذا المكان الذي على هذه الدولة الضئيلة الطول والقليلة العرض أن تواجه كمّا من الصواريخ المحتملة أكبر بكثير من أن تستوعبها مساحتها «الحزينة»، وبالتالي فإنّ اللجوء إلى أي حرب لم يعد الخيار السهل، بل أنّ إبتلاع الإهانة والعضّ على الجرح هو الخيار المفضّل لدى عامة الأحزاب السياسية في إسرائيل، وكذلك الرأي العام الذي بات وعلى لسان الحاخام الأكبر يرى في الداعشية خطّ دفاعه الأول وأنهّا نعمة الله الذي أنعم بها على بني إسرائيل. غير أنّ الداعشية هي نفسها في ورطة وانحدار، وعلى إسرائيل يوما أن تواجه قدرها بنفسها وأن تلقي أعباء المواجهة المفترضة على أبناء المستوطنين والمهاجرين حين تنهار جبهات الجهاديين والإستشهاديين في القنيطرة وعلى أطراف الجولان. فهل تستطيع فعلا تحمّل الأثمان؟
يُدرك الإيرانيون تماما أنّهم يمسكون بزمام اللعبة الشرق أوسطية في أكثر من موضع، وأنّهم يستطيعون أن يمارسوا لعبة حافة الهاوية ببرودة سياسية فائقة. ويدركون تماماً أنّ تغيير قواعد الإشتباك واتساع نقاط التماس سيستدعيان جهدا دوليا مضاعفا وضاغطا للتعجيل في عودة الإستقرار إلى سوريا، ما دام فقدانه سيؤدي ليس إلى تهديد أمن إسرائيل فحسب بل إلى وضع الحبل حول عنقها بينما هم يمسكون بناصيته. لذا كان لزاما على نتنياهو أن يصغي إلى الأمين العام لحزب الله وهو يملي شروط اللعبة الجديدة، والتي ليس أمامه إلاّ الإلتزام بها. وهي لعبة لم تعد تنحصر خارطتها بالجنوب اللبناني والجولان السوري، بل تشمل باب المندب أيضا، منفذ الكيان الحيوي على البحر الأحمر. فحائك السجّاد العجمي قد كاد يكمل قطبته الأخيرة لترتسم لوحة غريبة ما كان بن غوريون يتوجسها حتى في كوابيسه الأشدّ تشاؤما.
إسرائيل في أزمة وهي أزمة وجودية. فالتوازنات التي قامت عليها قد أصابها التلف وهي تنهار تباعا مع انهيار منظومة الأنظمة المؤسسة لـ «أسطورة الجيش الذي لا يقهر». أمّا العبث الدموي الذي يحيط بها، وهي تسبح به وعليه، فإنّه في النهاية سيبتلعها. إسرائيل هي أحوج ما تكون اليوم لمن ينقذها. فقد تخلّى الرب «يهوه» عنها، وهي لا تجد سوى ربّ داعش لتلتجئ إليه. غير أنّ ربّ داعش لا يُمكن الوثوق به ولا الإعتماد عليه وإسرائيل تعرف ذلك قبل غيرها.