هل بدأ الفيلم الجديد؟ الفيلم الذي كان العالم يقطع تذاكره منذ أربع سنوات. الفيلم الذي شجع أبطاله وجعلهم كنجوم السينما في هوليوود و«سوبر ستارز» السجادة الحمراء في كان الفرنسية. أولئك الذين لم يبخل العالم عليهم بمقاطع اليوتيوب وهم يتجولون في ساحات المعارك المشتعلة، متنقلين من مؤسسة حكومية إلى أخرى، مدججين بأسلحتهم وبعنف ثوري متعاظم بررته راويةٌ عالمية رائجة مدفوعة الثمن اسمها «الثورة السورية» ضد الاستبداد والديكتاتورية ولتحقيق أهداف الشعب السوري في إسقاط النظام السوري. ثورة ليعيش السوريون في ظروف متساوية من التداول السلمي للحكم والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بعد القضاء المبرم على التحكم الأمني في مفاصل البلاد.
تم تقديم كل المساعدات المالية والعسكرية واللوجستية لهذه المجاميع عبر البثّ المتواصل للذرائع والحجج التي قدمتها شاشات العولمة لأطياف مصنعة على عجل من المعارضة السورية، جلُّها كان من القاطنين خارج سورية منذ فترات طويلة، شكلوا جوقةً من المعارضة الطفيلية المراهقة المرتهنة التي لم تستطع ضبط إيقاع مطالب الشارع السوري وعقلنتها في سياق سياسي يصل بسوريا لطريق ديمقراطي يجنّب الشعب جلجلة الآلام التي يعيشها، وتهدد مصير الكيان السوري بأهم مفصل تاريخي يمرُّ فيه بعد ذلك الذي تقسمت فيه سورية الكبرى إلى أربع دول وجزءٍ سليبٍ في بدايات القرن الماضي.
بعض من الدول العربية التي دعمت المعارضة السورية وأنشأتها لا تحتاج إلى ثورات إصلاح اجتماعي فحسب، بل تحتاج لثورات استقلال وطني كونها لا تزال محمياتٍ استعماريةٍ لوقتنا الراهن وتصطف فيها القواعد العسكرية الأجنبية.
العالم لن يحل مشاكل الإرهاب الراهنة إلا بمواجهة حقيقية لأسباب نشوئه

قامرت المعارضة السورية (الخارجية المرتهنة حتى رأسها) بكل المحرمات، وكسرت كل «التابوهات» الوطنية، وتجاوزت كل الخطوط الحمراء التي فرضها الضمير الجمعي السوري طوال تاريخه منذ الاستقلال الوطني فاستحضرت الأحقاد القديمة ونكشت عنها وطرحتها إلى السطح من دون أي مسؤولية. وأعيدت التواريخ المؤلمة، وبات على الجيل الجديد أن يجتر آلام آبائه مرة أخرى، فطالبت المعارضة بالثأر القديم. وبدت لا تمانع تقسيم المجتمع السوري وشرذمته على أسس عرقية ومذهبية وطائفية.
كان معارضو الفنادق الفارهة ومدمنو شاشات العالم الجديد من السوريين كالجرّافات التي تعمل في المجتمع السوري عبر الإعلام النفطي من دون رحمة أو خوف. وهذا يفسره أن النواة الصلبة لمصدري «الثورة السورية» كانوا يقطنون خارج سورية، ولا يمانعون الوصول إلى السلطة والحكم لو أصاب سورية ما أصاب العراق وليبيا من قبل. فما تورعوا مراراً عن استجداء التدخل الأجنبي بكل أشكاله إلى أن حطّ مركبهم في محطته الأخيرة يطلب العون من الكيان الصهيوني.
إن حجم التبعية والارتهان للخارج الذي أصاب المعارضة السورية غير مسبوق في التاريخ العربي. فبات على السوري البسيط أن يعطل عقله طوال الثورة ليقنع نفسه أن أولئك الذين يأتمرون بالسفارات ومؤتمرات الفنادق ويمرون واحداً واحداً تحت إبط صاحب الأصفار أوغلو أو يجلسون بإنصات لحكمة صاحب «الصندل الديمقراطي»، مُصدِّر النفط والغاز، يمكن لمثل هؤلاء أن يحققوا له الحرية والديمقراطية والقرار الوطني المستقل، كان شيئاً أشبه بالعبث المارق في غفلة من التاريخ الوطني السوري روجت له الدعاية النفطية الرهيبة.
تشعبت تفاصيل ما يجري وتعقد المشهد العربي رغم الاتفاق على مأسوية الفيلم الذي يمر بتسارع عجيب في أكثر من منطقة عربية واعداً بنهايات محدودة كارثية التصور بعيداً من أماني ملايين «الكومبارس» الذين يصنعون المشهد أو يحتلون الشاشات بجموعهم أو بهدير هتافاتهم أو بسفح دمائهم عند اقتضاء مواسم المتابعة في ما اصطلح على تسميته «اللحظة الدرامية». استطالت «لحظاتنا» الدرامية لتبلغ سنوات من القتال العبثي لا يتوقف ليوم واحد، واستُرخصت دماؤنا المسفوكة لتغطي كلَّ حيواتنا وقليلاً من سهراتهم الطويلة، ولم يعد مشهد شعب «الموت ولا المذلة» في مخيمات اللجوء أو فوق الأبنية المهدَّمة أو تحتها أو في طوابير الخبز والمحروقات يستقطب تعاطفاً أكبر أو مشاهدين جدد.
تاهت الرؤى واختلفت التفسيرات، ونسي البعض خط الحبكة الأساسية للحدث. الحقُّ معهم، لم يبقَ شيءٌ على حاله خصوصاً في نسخة الفيلم «السورية»، بعضهم خرج مطالباً بالحرية ومندداً بالاستبداد والدكتاتورية وتأليه الفرد، فتحول بفعل الأحداث وتدفقها العبثي إلى قاطنٍ مقيم في كهفٍ إيديولوجي لا يتسع إلّا له أو لِمنْ على شاكلته. بعضهم لم يستطع أن يغير ما في العقول فوجد أن قطف الرؤوس أسهل، تراكمت الجثث وتناثرت الأشلاء ولم تعد صور الضحايا الممثلة بها أو المشوهة كلَّ يومٍ إلا تفصيلاً صغيراً ورقماً جديداً لا يغير في سواد الصورة القاتمة أو يضيف احمراراً للوحة تصبغُ بالدم منذ سنوات.
إن أفواج العرب والإسلاميين المضطَهدين الذين فضلوا الهجرة والالتحاق بالدول الأوربية خلال الصراعات الوطنية على السلطة والحكم مع الأحزاب المختلفة في القرن الماضي شكلت أملاً عريضاً لفكر نهضوي تعتمده الأمة من أجل طريق مغاير نحو مجتمعات حضارية مدنية وفهم متنور لإسلامٍ معتدل سمحٍ عقلاني عاش في كنف الديمقراطيات الأوربية الحديثة، بعيداً من أجواء القهر والقمع الذي صبغ المراحل التاريخية في فترات الاستقلال الوطني وما تلاه، وتجلت الآمال العريضة عبر شعارات حالمة مثل أن شمس الإسلام الحقيقي ستشرق مجدداً من الغرب.
اليوم تبدو الصورة أكثر وضوحاً والجهات التي كانت مسؤولة عن صورة «الإرهاب الإسلامي» تبدو عارية تماماً، وكذلك الأسباب التي أدت إلى ذلك:
- تطرف حوامل الفكر الإسلامي الغربي أو المتغرب التي ساندت بصوتها العالي كلَّ الفوضى التي اجتاحت العالم العربي تحت مسمى «ثورات الربيع العربي»، وقامرت بكل شعاراتها طوال السنوات الأربع السابقة في كل الساحات المشتعلة، كانت سبباً أساسياً في صبغ الإسلام بتهمة الإرهاب في عيون العالم.
- ضخُّ الخليط المتفجر إلى الساحة السورية الذي تشاركت فيه دولٌ كبرى بأحلام استعادة نفوذ ومصالح ومحمياتٌ إقليمية رجعية ووكلاء حصريين لمشاريع استعمارية وأصحاب أهواء وأوهام باستعادة أزمنةٍ ماضوية سالفة، بالإضافة إلى معارضة مرتهنة مراهقة حاقدة، كلُّ هذه الأطراف مسؤولة عن الصورة الكارثية التي تصبغ العالم بالإرهاب. - التطرفُ الذي لجأت إليه كلُّ الأطراف في معالجة الأزمة السورية، ورفضُ دعوات الحوار المبكرة وقبول الإصلاحات الديمقراطية التدريجية الصادرة من دمشق مسؤولان بشكل أساسي عما آلت إليه صورة الإرهاب العالمي، فقد اعتبر الاحتكام إلى السلاح وليس الحوار السياسي والصندوق الانتخابي هو الطريق الوحيدة للتغيير المنشود في سورية وإلحاقها كعربة أخيرة في القطار الأميركي الآفل. - غضّ العالم بمؤسساته ومنظماته الكبرى كالأمم المتحدة طرفه عن الدول الداعمة والممولة للإرهاب، فأُدخلت قوانين عدم التدخل في شؤون الدول الوطنية إلى الثلاجات وأصابها الموات الشتوي.
إن ما أصاب فرنسا من أحداث دموية وما سينتقل إلى دول أخرى سينشر في العالم «فوبيا» متشظية سريعة الانتشار، سيكون المستهدف بها طيفاً بشرياً واسعاً يُعدُّ بالملايين، منهم كلّ السوريين وكلّ العرب وكلّ الإسلاميين وكلّ المشرقيين وكلّ الغربيين الذاهبين إلى سورية أو العائدين منها، أيُّ «فوبيا» مذهلة تنتظرهم وأيُّ مستقبل طرائد ومشبوهين في العالم ينتظرنا.
لكن المؤكد أن العالم لن يحلَ مشاكله الإرهابية الراهنة إلا بمواجهةٍ حقيقيةٍ لأسباب نشوئه، وبتكاتف دوله جميعاً للقضاء عليه بعيداً من الاستغلال الظرفي الانتهازي له. اليوم وقد تثبتت الرواية السورية عن الإرهاب في عيون العالم، ندعوكم إلى الفيلم العالمي الطويل الجديد «السوريون المجاهدون»، وهو نسخة عالمية جديدة عن النسخة العربية السابقة المسماة «الأفغان العرب»، وهم تشكيلة واسعة من الأبطال الجدد المشكلين من كل سوري أو عربي أو إسلامي أو غربي ذهب أو عاد من سوريا، واضطرته ظروفه لأن يتنقل في أي مكان من أرض الله الواسعة سيعتبر هدفاً جديداً لأجهزة الاستخبارات في العالم. ستفتح الملفات المتراكمة «للمجاهدين السوريين»، وستفتش ثيابهم الداخلية قبل أن يقوم اليمين الغربي المتطرف بملاحقتهم كأنهم أوبئة معادية بحاجة إلى الاستئصال. لن تنفع كل شعارات التعايش بين الأديان وحفلات التكاذب والنفاق في مواجهة الإرهاب والادعاء أنها لا تستعدي أصحاب الأديان ذاتهم (كمثل المهرجان الكبير الذي أقيم في باريس وحضره أكبر ممولي الإرهاب). سيستمر ذلك التضييق والملاحقة طالما أن الإرهاب يملك القدرة والانتشار، ويستطيع أن يشغل أيام العالم ولياليه لسنوات مقبلة.
للأسف هذه نتائج متوقعة لم ننفك عن التحذير منها، بخاصة للجاليات العربية والمسلمة التي تطرفت في دعم كلِّ الإرهاب الذي أصاب البلاد العربية ووضع تحت يافطة واحدة «دعم ثورات الحرية»، من دون البحث الدقيق في جوهرها المشبوه المليء بالمتناقضات وعوامل التفجير الاجتماعي، كما أن هذه نتائج عقليات الإسلام السياسي قصيرة الرؤيا والحاقدة في الداخل والخارج، إضافة إلى سياسات الدول الاستعمارية المتهورة وللنظريات الاستشراقية للرجل الأبيض التي لا تتورع عن تربية الأفاعي والثعابين في كنفها، وعندما تحين اللحظات الدرامية الاستراتيجية تلقي بنفاياتها إلى بلدان العالم العربي.
بخلاصة مفيدة: اليوم إسلام الغرب وأمن الدول المتغطرسة يدفعان الثمن. كان واضحاً منذ بداية الحرب على سورية أن صفحات إجرام «الإسلام السياسي» تجمع في ملفات، وسيحين وقت قريب لفتحها أمام المجتمعات الأوروبية، وعندها سيُدفع الثمن الباهظ... فهل حان الوقت وبدأ الفيلم الجديد؟!
* كاتب سوري