مع انهيار الاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991، وصل المدى الجغرافي الروسي إلى حدود غير مسبوقة منذ إعلان الدولة القيصرية الروسية عام 1547 من حيث التقلص الجغرافي. كان يلتسين حتى تسليمه السلطة لبوتين في اليوم الأخير من عام 1999 مستسلماً للواقع الجديد، ولم يكن مزعجاً لواشنطن التي أصبحت القطب الأوحد للعالم مع انهيار الثنائية القطبية التي سادت في فترة الحرب الباردة (1947 ـ 1989).
منذ الأشهر الأولى لتوليه الرئاسة، أوحى بوتين بأن ما فعله في جمهورية الشيشان المتمردة على سلطة مركز الاتحاد الروسي، أثناء توليه رئاسة الوزراء في الأشهر الأربعة الأخيرة الأخيرة من عام 1999، سيكون عنواناً لسلطته: استكمل في شباط 2000 عملية سحق التمرد الشيشاني، ولو على أنقاض مدينة غروزني، وهو الذي أتى لرئاسة الوزارة الروسية كحاجز وضعه يلتسين بعد أن حاول الشيشانيون في آب 1999 مدّ تمردهم على موسكو إلى جمهورية داغستان المنضوية في الاتحاد الروسي أيضاً. أسقط التمرد الشيشاني، البادئ منذ 1994، يلتسين، ثم أسهم سحقه في صعود نجم بوتين، وكان المصعد الذي أوصله من رئاسة الوزراء إلى الكرملين. كانت غروزني عنواناً لتثبيت دعائم الاتحاد الروسي ومنع انفراطه على غرار الاتحاد السوفياتي. بعد أن استكمل زعيم الكرملين الجديد عملية توطيد بنائه الداخلي، اتجه إلى ما لم يجرؤ يلتسين على فعله في أزمة كوسوفو عام 1999 عندما لم يفعل شيئاً تقريباً لما قام حلف الأطلسي بزعامة واشنطن بضرب حليفه ميلوسيفيتش الرئيس الصربي في البلقان التي كان يعتبرها القياصرة حديقتهم الخلفية بحكم العاملين السلافي والأرثوذكسي، ثم كانت في زمن ستالين وخروتشوف وبريجنيف جزءاً من «المنظومة السوفياتية»، بالرغم من تمرد تيتو على ستالين. وقد ظهر هذا في أثناء تحضيرات واشنطن لغزو العراق عام 2003 عندما شكلت موسكو مع باريس وبرلين حاجزاً منع بوش الابن من أن يستظل بمظلة مجلس الأمن مثلما كان أبوه في حرب خليج عام 1991. لم يستطع بوتين أن يكون نداً للجالس في البيت الأبيض، ولكنه أثبت أنه قادر على التحدي. لم يواصل تحديه لما بدأت في عام 2006 واشنطن بجرّ مجلس الأمن إلى فرض عقوبات على إيران بسبب استئناف برنامجها النووي، بل مشى سيد الكرملين وراء بوش الابن. عندما استخدم الكرملين في 4 تشرين الأول 2011 الفيتو بالتشارك مع الصين في مشروع قرار يتعلق بالأزمة السورية كان هناك ثلاث سنوات سابقة من المكاسب الروسية في جورجيا 2008 وقرغيزية 2009 مع إغلاق قاعدة ماناس الجوية الأميركية التي كانت بمثابة قاعدة الترانزيت للقوات الأميركية في أفغانستان بعد قرض روسي بملياري دولار، ثم أوكرانيا 2010 مع وصول زعيم حزب الأقاليم الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش للرئاسة في شباط 2010، فيما عالمياً تعززت هذه الاستعادة للنفوذ الروسي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة مع عملية تشكيل مجموعة دول البريكس: روسيا، الصين، الهند، البرازيل في حزيران 2009 (انضمت إليها جمهورية جنوب أفريقيا في العام التالي) وهي التي وضعت هدفها في بيانها التأسيسي نحو «تشكيل عالم متعدد الأقطاب». لم يكن ممكناً هذا التحدي الروسي للولايات المتحدة في قاعة مجلس الأمن لولا تلك المكاسب الروسية ولولا التراجع الأميركي في الشرق الأوسط بين حرب تموز 2006 وبدء «الربيع العربي» في كانون الثاني 2011 ولولا الأزمة المالية - الاقتصادية التي بدأت في نيويورك في منتصف أيلول 2008. أتاحت الأزمة السورية مجالاً لروسيا لكي تثبت أن الأحادية الأميركية غير ممكنة في أزمة كثفت مجمل صراعات الإقليم وكانت مجالاً قاد إلى أربع مبارزات أميركية - روسية في مجلس الأمن عندما استخدم الفيتو الروسي – الصيني. وهو ما خلق ثنائية روسية - أميركية في الأزمة السورية برزت في اتفاقية موسكو يوم 7 أيار 2013، ثم ترجمت في اتفاقية 14 أيلول 2013 حول السلاح الكيماوي السوري التي قادت بعد ثلاثة عشر يوماً إلى قرار مجلس الأمن 2118 الذي تضمن نصه آلية نزع الكيماوي السوري بالترافق مع النص الكامل لبيان «جنيف1» الذي وضع في متن نص القرار كملحق له، وهو ما قاد إلى «جنيف 2» يوم 22 كانون الثاني 2014. قادت الأزمة الأوكرانية، البادئة بتظاهرات تشرين الثاني 2013 وصولاً إلى اسقاط يانوكوفيتش في 22 شباط 2014، إلى إسقاط التوافقات الأميركية – الروسية حول سوريا البادئة في اتفاقية 7 أيار2013 وإلى تدمير «جنيف2». قرأ زعيم الكرملين ما حدث في كييف بأنه ضربة أميركية بأدوات محلية أوكرانية موجهة أساساً ضد موسكو وبأنها إعلان عن بداية جهد أميركي لوضع حد للاستيقاظ في القوة الروسية البادئ مع الحرب الروسية - الجورجية في آب 2008. لم يكتف بوتين بالرد على ضربة كييف بالتصلب في دمشق، بل نقل المواجهة إلى حدود تغيير الجغرافيا عندما ضم القرم للاتحاد الروسي في 18 آذار 2014، وبدأ بدعم الانفصاليين من أصول روسية في الشرق الأوكراني. أوحت حركة الزعيم الروسي الذي تجاوز معاهدة بودابست عام 1994 حول أوكرانيا بأنه مستعد للوصول إلى تجاوز الخطوط الحمر عبر تغيير الجغرافيا التي رست في مرحلة ما بعد السوفيات، وبأنه من خلال السابقة الشرق أوكرانية مستعد من أجل مصالح روسيا الخاصة لأن يستخدم عود ثقاب المكون الروسي في جمهوريات الاتحاد السوفياتية السابقة: أوكرانيا 17%، مولدافيا 6%، قرغيزيا13%، كازاخستان30%، إستونيا26%، لاتفيا30%، ليتوانيا6%، أوزبكستان6%.
كان رد أوباما من خلال الاقتصاد وليس من خلال السلاح كما فعل بوش الأب وبوش الابن أمام «الكويت» و»11 أيلول2001»: أسهم في تشكيل تكتل عالمي قام بدفع أسعار النفط إلى القعر وفق تعبير أحد وزراء النفط أخيراً من 114 دولاراً لبرميل برنت في 15 حزيران 2014 إلى 48 دولاراً في 15 كانون الثاني 2015 لدولة مثل روسيا يعتمد اقتصادها على النفط بنسبة 52%، ما أسهم مع سحب الاستثمارات الغربية بمعظمها من روسيا في هبوط الروبل خلال مجرى عام 2014 أمام الدولار من 33 إلى 80 روبل. روسيا دولة اقتصادها ريعي وليس صناعياً أو يعتمد على الهاي - تكنيك، ويشكل النفط مع الغاز والخشب والمعادن الثمينة ثلاثة أرباع مداخيل الاقتصاد الروسي. حاول بوتين الالتفات نحو صفقة غاز مع الصين واتفاقية أنبوب غاز مع أردوغان لتحويل خط ساوث ستريم الآتي من روسيا عبر البحر الأسود من الساحل البلغاري للتركي وصولاً إلى أوروبا مستغلاً الخلاف الأميركي ـ التركي حول «داعش» وتفادياً لأن تكون تركية ممراً لأنبوب غاز منافس للروسي سواء إيراني (وهو أحد ما تخشاه موسكو من نتائج اتفاق أميركي مع طهران حول الملف النووي) أو تركمانستاني عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا إلى أوروبا. لم يعدل هذا كثيراً في الوضعية الروسية التي أصبحت عام 2015 دفاعية أمام واشنطن التي دفعت كييف أخيراً إلى إلغاء وضعية الحياد الأوكراني التي تضمنتها معاهدة بودابست، وهو ما يعني انضمام أوكرانيا إلى «الناتو» بكل ما يعنيه من إغلاق النافذة الأوكرانية في وجه روسيا وبالتالي جعل الأخيرة عملياً دولة آسيوية وليست دولة أوروبية – آسيوية، وهو ما كان منذ الحاق أوكرانيا بروسيا الموسكوفية في عام 1654، ما سمح لبطرس الأكبر بعد نصف قرن ببدء تغريب روسيا ونقل العاصمة إلى ساحل البلطيق (الذي أغلق عملياً أمام روسيا المعاصرة من خلال انضمام جمهوريات البلطيق الثلاث السوفياتية السابقة: إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، إلى «الناتو»).
في يوم 18 آذار 2014 ظهر بوتين وهو يضم شبه جزيرة القرم وكأنه في وضعية الخليفة لبطرس الأكبر وجوزيف ستالين: خلال عشرة أشهر تلت ذلك اليوم بان ضعيفاً أمام ذلك السلاح الفتاك الذي استخدمه الرئيس الأميركي، وهو الاقتصاد الذي عملياً كان أيضاً السلاح الرئيسي لرونالد ريغان أمام ميخائيل غورباتشوف وهو الذي قاد إلى الهزيمة السوفياتية في الحرب الباردة لما لم تستطع موسكو تحمل التكلفة الاقتصادية لسباق تسلح (برنامج حرب النجوم) الذي طرحه ريغان عام 1983، وهو ما عنى انهيار التعادل النووي القائم بين واشنطن وموسكو منذ عام 1949. لم يصل بوتين إلى ضعف يلتسين، ولكن كييف أظهرت أن شمس تعدد الأقطاب من الصعب أن تشرق في المدى المنظور.
* كاتب سوري