فيما يتوجّه اليونانيون الى صناديق الاقتراع مع تقدّم في الاستطلاعات للائتلاف اليساري «سيريزا»، وهو يعد الناخبين بعكس مسار التقشّف الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على البلد، نشر عددٌ كبير من الاقتصاديين رسائل مفتوحة (في مطبوعات كالـ «غارديان» و»فاينانشال تايمز») يدعون فيها الى «اعطاء اليونان فرصة» عبر الغاء ديونها واعتماد سياسات نموّ وتحفيز للسوق الداخلية، بدلاً من المزيد من التقشّف الذي قلّص حجم الاقتصاد اليوناني بأكثر من الربع في السنوات الماضية، مولّداً معاناة جماعية لم يعد الشعب قادراً على احتمالها (على سبيل المثال، تزيد نسبة البطالة في اليونان اليوم عن مثيلتها في اميركا أيام «الكساد العظيم»، وتصل الى خمسين في المئة لدى فئة الشباب).
حتى اليوم، قاومت السلطات المالية في اوروبا، بحزم، فكرة الاعفاء من الديون، معتبرة اياها مسألة «اخلاقية» تتعلّق بمفهوم «المسؤولية» (ضمن الخطاب الأبوي والفوقي الذي سلّطته المؤسسات الأوروبية على اليونان منذ الأزمة). ولكن هناك، من جهة أخرى، حجّة أخلاقية مضادّة، لا تتقبّل أن تقوم أجيالٌ كاملة بالشقاء لدفع ديونٍ سيادية رتّبتها السلطة السياسية على البلد في مرحلة ما – وقد تكون هذه الديون تراكمت بغير ارادة الشعب، أو بسبب فساد نخبة حاكمة، أو لفائدة بطانة صغيرة.
هناك فارق أساسيّ بين الدين الخاص والدين السيادي، فالدين العام لا يترتّب على أفرادٍ وشخوص معنوية تستفيد مباشرة من القرض ومن المتوقّع منها، هي تحديداً، أن تردّه؛ بل هو يسمح للقيادة السياسية بأن ترتّب ديناً على الشعب بأكمله، بضمان مداخيله وانتاجه، وحتى على أجيال لم تولد بعد، ولن تستفيد من هذه القروض، ولكنها ستتحمل مسؤولية سدادها.
حذّر توماس بيكيتي مراراً، في كتابه عن رأس المال، من قابلية الدين العام، بعد أن يتجاوز حجماً معيناً، لأن يصير أداة تسمح للأثرياء بمضاعفة رساميلهم الى ما لا نهاية -ــــ من مداخيل الناس ورواتب العمال ــــ كما نبّه جيجك، في مقال عن اليونان، الى أنّ هذه الديون ليس الهدف منها أن تُدفع، بل أن تستمرّ (مضيفاً أن «الجميع يعلم» أن اليونان لن تتمكن من دفع كامل ديونها في يوم من الأيام).
بمعنى آخر، يقول الفيلسوف السلوفيني، للدَّين في النظام الرأسمالي الحالي دورٌ سياسي، اذ أن بيوت المال والمؤسسات الدولية لا ترى أن دورة الدين «المثالية» تقتصر على الاقراض، ثم الدفع مع الفائدة، فينطفىء الدين وينتهي. ولا هي تريد ذلك؛ بل تفترض أنّ هذه الدول ستستمرّ في دفع الفوائد وخدمة الدين بلا نهاية، بمعنى أن يصير هناك دائنون دائمون (كالثلاثية المالية في اوروبا: البنك المركزي والاتحاد وصندوق النقد) ومدينون دائمون (كاليونان والدول الافريقية مثلاً)، وبين الطرفين علاقة قوّة واضحة، تسمح للدائنين بالاشراف على اقتصاديات الفقراء، والزامهم بسياسات معينة وضبطهم، بل وابتزازهم، الى الأبد.