أمر طبيعي ومطلوب إبراز ما يعيشه العدو الصهيوني من قلق وحذر بعد عدوانه، نهاية الأسبوع الماضي، في القنيطرة السورية، الذي استهدف قافلة سيارة استشهد فيها ستة من خيرة قادة ومقاتلي «حزب الله»، كما استشهد فيها الجنرال الإيراني محمد علي دادي.القلق الشعبي والارتباك السياسي في الدولة الصهيونية فعليان وكبيران، وهما يتسقان مع توقعات بشأن رد، من قبل قوة قادرة ومعتدى عليها، ضد مستوطنات وتجمعات ومواقع إسرائيلية محاذية للجنوب اللبناني في فلسطين المحتلة. جرى التعبير عن ذلك بطرق مختلفة: حجم الاستنفار الأمني والعسكري الإسرائيلي، من جهة، وحجم «التطمينات» المقرونة بالحذر والاستعدادات الوقائية، من جهة ثانية.

لكن ذلك لا يختصر الوضع لدى العدو الإسرائيلي. كذلك لا تُختصر أسباب العدوان بما ركّز عليه بعض الإعلام الإسرائيلي (المحايد والمعارض) برد السبب الأول للغارة إلى محاولة، من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، لتحسين شروط خوضه للمعركة الانتخابية القريبة حين استشعر تراجع بعض أفضليته على منافسيه في استطلاعات الرأي الأخيرة.
اولاً، ينبغي التذكير بأن القيادة الإسرائيلية هي من أقدم على العدوان. وهو عدوان ليس «ابن ساعته». إنه ثمرة جهد استخباري ومتابعة ميدانية لا مبالغة في القول إنها دائمة، وتمتد لأشهر، إذا لم يكن لأكثر من ذلك. لا شك في أن نتنياهو قد أجاز التوقيت والتنفيذ، لغرض الاستثمار الانتخابي، لكن لهذه العملية سياقاً لا بد من التوقف عنده بشكل كافٍ، تجنباً، أساساً، لسوء التقدير وما يمكن أن يُبنى عليه من مواقف أو قرارات.
ثانياً، ليست هذه العملية جديدة تماماً. لقد سبق أن نفذت القيادة الصهيونية عدة عمليات عدوانية مشابهة. وعلى غرار هذه، فقد تولى الطيران القيام بها، وفي العمق السوري. وقد استهدف بعضها مواقع ومواكب لـ«حزب الله» بذريعة منعه من تهريب أسلحة إلى الداخل اللبناني، فضلاً، طبعاً، عن أهدافها السورية ذات الطابع العسكري أو السياسي أو المعنوي.
عملية القنيطرة شكلت
حلقة جديدة «طبيعية» في الانخراط الإسرائيلي في
الأزمة السورية

ثالثاً، لقد صرّحت القيادة الإسرائيلية، مراراً، بأنها تراقب الوضع «على حدودها» المزعومة في الجولان المحتل، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحصل هناك. كان ذلك إعلاناً رسمياً بانخراطها في التدخل في الأزمة السورية، من أوسع الأبواب وأشملها. يحصل ذلك على المستوى الأمني والعسكري كما على مستويات أخرى، بما يخدم أهداف العدو الصهيوني وحماته: في تعطيل الدور السوري المناهض للمشاريع العدوانية الإسرائيلية، والذي أقام، لهذا الغرض، علاقات وتحالفات تمتد من المقاومة التي يمثلها «حزب الله» في لبنان، إلى غزة وطهران فموسكو وبكين...
يناهز عدد الدول التي قدم منها المقاتلون ضد السلطة السورية ثمانين دولة. بين سلطات هذه الدول من شجّع وسهّل. بينها أيضاً من تورط في دعم الجماعات الأكثر تشدداً وتطرفاً وتكفيراً وهمجية... وبنى على ذلك حسابات ورهانات ما زال بعضها قائماً حتى اليوم. إسرائيل كانت ولا تزال من بين أبرز المتدخلين، علماً بأن تدخلها لم ينل من المتابعة ما يستحق من أهمية ناجمة عن عمق وخطورة ومدى تأثيره في صراعات المنطقة ومصائرها. لقد بكَّر الصهاينة في استكشاف وممارسة كل أشكال التدخل الممكنة. هم استعادوا شيئاً من تجربتهم في لبنان. في الحقل «الإنساني» أقاموا ما يشبه «الجدار الطيب». استقبلوا الجرحى وسارعوا إلى تقديم خدمات إغاثة ولوجستيات متنوعة للمدنيين والعسكريين، من أطراف المعارضة المسلحة بطبيعة الحال.
مع امتداد الأزمة السورية وتعقدها، نفذت القيادة الإسرائيلية غارات ذات أهداف عسكرية وسياسية ضد الجيش السوري والمنشآت السورية والدولة السورية. استهدفت الغارات هذه دمشق نفسها، وبلغت العمق السوري وصولاً إلى المرافئ السورية بغرض تدمير الصواريخ الوافدة بحراً من الحليف الروسي... ولقد أثمر ذلك، معززاً بالانحراف في مواقف وسلوك بعض الجماعات المسلحة المعارضة، دعماً واسعاً لبعض هذه الجماعات: تسليحاً ومعلومات وتنسيقاً ومشاركة ميدانية، في أكثر من جبهة ومنطقة، كما هو الأمر، بالنسبة إلى «جبهة النصرة» بشكل خاص!
يمكن القول، في امتداد ذلك، إن عملية صاروخي الـ«هايلفاير» على قافلة القنيطرة، قد شكلت حلقة جديدة «طبيعية» في الانخراط الإسرائيلي في الأزمة السورية، ولم تكن أمراً طارئاً أو استثنائيا يستدعي الإعتذار أو الإنكار. الغارة وكل ما سبقها وما قاد إليها، خلال ما يقارب أربع سنوات، هي جزء من نهج إسرائيلي دؤوب على استثمار الأزمة السورية إلى الحد الأقصى. في طليعة أهداف الصهاينة تعطيل الدور الإقليمي السوري ومحاولة تدمير سوريا وتفتيتها، واستنزاف حلفائها... طبعاً، هي تتشارك هذه الأهداف مع قوى دولية وإقليمية وعربية كبيرة ومؤثرة وناشطة...
إن وقوع غارة القنيطرة، في هذا السياق، هو ما يجب أن يوجه الحسابات والتقديرات والردود. في مجرى ذلك ينبغي أن يوضع القلق الشعبي الإسرائيلي في مكانه الطبيعي. إنه بشكل من الأشكال شبيه، أيضاً، بالقلق الشعبي والسياسي اللبناني الذي جرى التعبير عنه، لبنانياً، على لسان أكثر من جهة رسمية وسياسية وشعبية، هذا من دون أن نعير اهتماماً، في هذا الصدد، لأولئك الذين أطلقوا مواقف هي أقرب إلى الشماتة، مكررين سياسات «تقليدية» معادية لحزب الله ولحلفائه الإقليميين، وهي مواقف تستعاد مهما كان الظروف والأحداث والمسؤوليات!
يستدعي ذلك بالتأكيد إجراء حسابات شاملة وعميقة. ولا نحسب أن مثل هذه الحسابات غائبة عن أصحاب القرار في معسكر المقاومة وداعميها. لسنا هنا، بالطبع، في صدد مبارزة فردية بسيطة يجري فيها حسم الصراع بالانتصار على الخصم بضربة «صاعقة» تؤدي إلى حسم المعركة برمتها. إنها حرب كبيرة تلك التي تدور الآن، وهي حرب ذات بعد عالمي لا جدال فيه. وهذه الحرب تجري في ظل انعدام الضوابط الدولية بسبب التباينات والتحولات والقدرة المتبادلة على التعطيل.
في منطقتنا نشهد أيضاً (بعد أوروبا الشرقية السوفياتية سابقاً) انهيار معادلات وحدود تمّ إقرارها وتكريسها بعد ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية. نشهد، في هذا السياق، مغامرات ومغامرين جدداً لا تشكل «داعش» وأخواتها إلا إحدى أدواتهم في تحقيق أطماع وأدوار بقوة الحرب والقتل والدمار والعصبيات والانقسامات واستخدام العرق والدين والمذهب وسيلة على أوسع نطاق.
انقسامات العرب وأزماتهم الراهنة أغرت الصهاينة بالمزيد من التطرف والعنصرية والسعي إلى تحقيق المكاسب. الشعب الفلسطيني يدفع الثمن الأغلى كالمعتاد. لحكام إسرائيل ثأر على لبنان ومقاومته خصوصاً. احتمال العدوان على لبنان أمر قائم في الخطط والاستعدادات والمناورات والتصريحات.
في مجرى السعار الانتخابي تباهى «تنيت» بأنه نفذ مجزرة «قانا» الشهيرة! ويستشعر نتنياهو الآن قوة دفعته إلى استدراج وقبول دعوة لإلقاء كلمة في مجلس النواب الأميركي دون علم أوباما وإدارته!
العدوان هو أداة الصهاينة المفضلة لتحقيق أهدافهم. لطالما حظوا بدعم أميركي وغربي غير محدود. غارتهم الأخيرة في القنيطرة جاءت في هذا السياق. الرد ينبغي أن يكون ذا شقين: ردع العدو، من جهة، والسعي لمعالجة الأزمات والاختلالات الكثيرة التي بلغت ذروة خطورتها في المرحلة الراهنة، من جهة ثانية.
* كاتب وسياسي لبناني