خلال أقل من أسبوع واحد، تمكنت مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية من أن تحجز لها عرض الخبر الأول في كل وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية على امتداد العالم، ناهيك عن حجز العديد من شوارع للتظاهر في دولٍ غربيةٍ وعربيةٍ. فمن باريس إلى بيروت، غصت تلك الشوارع بمئات الألوف من المتظاهرين، تتقدمهم في الخطوط الأولى شخصيات رسمية من أرفع المسؤولين الدوليين ورؤساء دول وممالك وسفراء ومثقفين وشخصيات اعتبارية لم يكن من المتوقع يوماً أن تجمعهم صورة تذكارية واحدة.
شخصيات رسمية وغير رسمية، متصالحة ومتناحرة، قريبة وبعيدة، ديمقراطية واستبدادية، يمينية ويسارية، أصدقاء وأعداء، قتلة وضحايا. تتشابك أيديهم معاً، وتلتصق أكتافهم لمواجهة حدث واحد، هزَّ العالم كله (كما فعلت يوماً أحداث 11 سبتمبر)، فتداعوا من كل دول العالم، تاركين شؤون البلاد والعباد، من أجل الحج إلى شوارع التظاهر تلك لإعلان موقفهم الرسمي الواضح الذي لا لبث فيه «Je suis Charlie». حتى أن البعض، ولشدة غرابة التناقضات في تلك الصورة التذكارية، أطلق متهكماً عبارات التعجب والسخرية، كالقول إنه لم يكن ينقص المتظاهرين في باريس سوى أبو بكر البغدادي حتى يكتمل مشهد الشخصيات الرافضة للإرهاب.
تدفق الدعم المالي
للمجلة، ناهيك عن التضامن معها واتساع شهرتها إلى كل أصقاع الأرض
أو عبارة أن رعاة الإرهاب ينددون بالإرهاب، أو أن الشخصية الأبرز في تظاهرة بيروت كانت للسفير السعودي الذي حاضر بالموجودين عن أهمية إطلاق الحريات وذلك بالتزامن مع قيام بلاده بجلد من يخالفها الرأي من صحافيين وكتّاب! شوارع تظاهر حُمِلَت، اختياراً أو عنونةً، عناوين التضامن مع هذه المجلة المنكوبة بعد ما فعله الإرهاب «الإسلامي» بها من إجرام وعنف، وما ألحقه بقلمها الحر من قسوة ووحشية دفعت العالم من أقصاه إلى أقصاه للوقوف إلى جانبها، رفضاً وتنديداً بما ألحقه هؤلاء الإرهابيون العائد بعضهم من سوريا بحرية الرأي والصحافة التي تمثلها هذه المجلة خير تمثيل. الشوارع المحجوزة على أرض الواقع انتقلت أيضاً إلى العالم الافتراضي، الذي تحولت فجأة كل نوافذه وجدرانه وأيقوناته في كل «المجتمعات» الافتراضية إلى شعار واحد، وصورة واحدة «Je suis Charlie». وبين ليلة كانت فيها هذه المجلة تعاني من أزمة مادية وعدد متواضع من النسخ المطبوعة، وضحاها الذي ارتفعت فيه مبيعاتها إلى ثلاثة ملايين نسخة، وتدفق الدعم المالي الحكومي والمجتمعي لها. ناهيك عن المنفعة المعنوية التي تجلت بالتضامن معها واتساع رقعة شهرتها حتى وصلت إلى كل أصقاع الأرض. استعادت المجلة عافيتها، وكأن الإرهابيين الذين قاموا بجريمتهم علانية لتأديب المجلة (وفق مبدأ أنهم أحرار ويمارسون حريتهم بالطريقة التي يجدونها مناسبة)، منحوا ضحيتهم دعماً معنوياً ومالياً منقطع النظير. ورغم ما سرب لاحقاً من فديوهات وتحليلات تشير إلى أن الحادث الإرهابي مفتعل بقصد الإثارة. وبغض النظر عن صدقية أو عدم صدقية حادثة شارلي، وبأقل من أسبوع واحد فقط، عادت المجلة ذاتها لتحجز عرض الخبر الأول في وكالات الأنباء ومحطات التلفزة ذاتها، بعد أن قررت نشر رسوم جديدة مسيئة للنبي محمد. معلنةً بذلك أنها تمارس حريتها (كما مارس الإرهابيون وفق منطقهم ومفهومهم الخاص بالحرية فعل قتل الصحافيين). وتحت عنوان الحرية، مارست المجلة بنفسها إرهاباً وعنفاً معنوياً على ملايين المسلمين، لا يقل عن الإرهاب والعنف الذي مارسته المجموعة المسلحة التي قامت بقتل الصحافيين الفرنسيين. كلٌّ يُمارس الحرية كما يراها، وكما تحقق مصالحه، في ظل غياب أو تغييب متعمد للمفهوم الحقيقي للحرية. وكلٌّ يُندد بالإرهاب والعنف كما يراه، وكما يفسره، في ظل غياب أو تغييب متعمد للمفهوم الحقيقي للإرهاب.
ومن جديد، تعيد شارلي حجز شوارع جديدة للتظاهر في الأردن وإيران وباكستان وغيرها، لكن هذه المرة تنديداً بما قامت بنشره، والذي أثار نقمة المسلمين حول العالم، لكن مع غياب واضح للشخصيات الرسمية في تلك التظاهرات. «شارلي ايبدو» التي ألهبت شوارع العالم مرة للتضامن معها ومرة للتنديد بها، يبدو أنها تقدّم نموذجاً جديداً لحرية الرأي والتعبير. فبين الاعتداء على قلم كتّابها، وبين حريتها في استخدام قلم كتّابها عبر الإساءة إلى رموز وشخصيات مقدسة لملايين الناس حول العالم، تعيد «شارلي» ضبط مفهوم الحرية والإرهاب وفق الهوى والسياسة الغربية. حالة تمثلُ نموذجاً مختصراً وبالغ الأهمية لسياسات دول بكاملها تستطيع تحميل مصطلحٍ واحدٍ فقط معاني متناقضة، وبالتالي إمكان استخدامه في اتجاهين نقيضين وأهداف متباينة. للدرجة التي دفعت البعض للقول إن شارلي ستشكل المدخل «الشرعي» الجديد للدول الكبرى في تغيير سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط، وإعادة تسمية من كانت تطلق عليهم لقب «ثوار» في موجة الربيع العربي، بإرهابيين باتوا يشكلون خطراً محدقاً بالغرب ومصالحه. بعد أن بدأت أخطار عودتهم إلى الدول الغربية التي جاؤوا منها تلوح في الأفق القريب. الأمر الذي يمكننا من القول إنه وبغض النظر عن منطلق ودوافع المشاركة في التظاهرات والفعاليات المنددة بجريمة قتل الصحافيين الفرنسيين، والاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو»، مبدئياً أو نفعياً، أخلاقياً أو سياسياً، فإنه وبلا شك شكَّلَ نقطة تحول في الكثير من المفاهيم كالحرية والإرهاب، وغيرها. فكل مفهوم أصبح حمال أوجه متناقضة يمكن لكل طرف أن يستثمر فيه كما يشاء وكيفما يشاء!
* كاتبة اردنية