في عام ١٩٦٧، كان رشيد كرامي رئيساً للحكومة في عهد الرئيس شارل حلو. كانت المراسيم التي تحتاج إلى توقيع رئيس الحكومة تُرسل إلى السراي الحكومي من قصر الجمهورية بانتظار توقيع رئيس مجلس الوزراء. وكان الرئيس رشيد كرامي يختار نهاية الدوام للاطلاع عليها، أي عند الساعة الواحدة ظهراً في «جو صفاء ذهني». في إحدى المرات، سحب الرئيس كرامي عدداً من المراسيم ووضعها في أحد أدراجه وتوجّه إلى مدير عام الرئاسة بالقول «هيدول بشوفهم بعدين»! أحد هذه المراسيم كان يقضي بتعيين الياس سركيس حاكماً لمصرف لبنان، وهو كان آنذاك مدير عام القصر الجمهوري. وكان كلّما التقى الرئيس الحلو بكرامي ذكّره بضرورة توقيع مرسوم التعيين فكان الأخير يجيب: «ما بيصير إلا الخير». وتأخر صدور المرسوم، وأدرك الياس سركيس بأن شهابيته لن تشفع له وحدها عند رشيد كرامي، بل عليه أن يزوره في السراي ويرجوه أن يوقع المرسوم، وهكذا كان.
هذه الواقعة، لا تنفك بعض الأوساط اللبنانية عن تداولها أو استذكارها في ما مضى، للتدليل على قوة شخصية الرئيس كرامي وعلى قدرته على الحفاظ على كرامة رئاسة الحكومة وهيبتها في تلك الحقبة كلما شعروا أن حقوقهم «مسلوبة» في ما كان يعرف بعهد المارونية السياسية، حيث كان رئيس الجمهورية يتحكم بكل مفاصل الدولة والقرارات بحكم السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها، ما كان يثير اعتراض المسلمين وشعورهم الدائم بالغبن. هذا الشعور بالغبن حسب منطقهم، ظهر واضحاً خلال فترة السبعينيات، وتحديداً في عهد الرئيس الراحل رشيد الصلح، إذ كان يتهمه «المسلمون» بالتبعية والارتهان والضعف في رئاسة الحكومة، ما أدى إلى ارتفاع وتيرة المطالبة بما سميّ آنذاك العدالة في التمثيل الطائفي، وتحديداً إعطاء صلاحيات لرئيس الحكومة.
إذاً، تشكّل الواقعة المذكورة أعلاه وغيرها من القصص التي كان يتداولها الناس أو بعض الشخصيات في الصالونات السياسية، أمثلة على أنه في غياب الصلاحيات، وحدها شخصية الرئيس تستطيع استرجاع بعض من كرامة وهيبة الموقع والحفاظ عليهما، وذلك من خلال التصلب في ممارسة الصلاحيات المعطاة في رئاسة الحكومة بحكم الدستور.
يعيد التاريخ نفسه في
مسألة الصلاحيات من بوابة
رئاسة الجمهورية

اليوم، يعيد التاريخ نفسه في مسألة الصلاحيات، ولكن هذه المرة من بوابة رئاسة الجمهورية. فمنذ اتفاق الطائف الذي أبرم في عام ١٩٨٩، والذي أعطى رئيس الحكومة ومجلس الوزراء صلاحيات واسعة منتقصاً بذلك من قوة وصلاحيات رئيس الجمهورية، لا يخلو أي نقاش أو استحقاق عن الحديث عن ضرورة استرجاع صلاحيات الرئاسة الأولى. مطالبة، بدأت تتجسّد عند شريحة من اللبنانيين أكثر بعد الشغور الرئاسي الذي يمرّ به لبنان منذ عام ونصف العام وصولاً الى التسوية الرئاسية الحالية. إلا أن ما تبدّل في المشهد اللبناني، هو الدخول عبر بوابة صلاحيات الرئيس إلى المطالبة بتغيير النظام اللبناني الحالي، الأمر الذي دفع البعض إلى الاعتراض على تسمية الوزير سليمان فرنجية للرئاسة كونه «ابن النظام الحالي الذي كرّس الطائفية والمحاصصة»، وبالتالي ضرورة اختيار شخصية من خارج هذا النادي التقليدي إيذاناً ببدء عمليّة التغيير المرجوّة. في البدء، قد يدغدغ هذا الكلام، أي النيّة في تغيير النظام اللبناني، الشريحة الأكبر من المجتمع اللبناني، ذلك أن النظام الطائفي الحالي أثبت فشله بسبب ممارسة السياسيين بالدرجة الأولى، الذين جعلوا من مؤسسات الدولة المصدر الأساسي لبقائهم في السلطة عبر تحويلها إلى مصدر للخدمات الطائفية والمذهبية لكلّ زعيم مقابل الولاء، ما يؤدي إلى بناء أو تثبيت ما يعرف بالزبائنية بين الزعيم وأتباعه ومناصريه.
ولكن، هل بالإمكان إلغاء البيوتات السياسية التقليدية؟ وما هي الأولوية اليوم؟ منذ نشوئه، أي منذ القرن الثامن عشر، يقوم لبنان على العشائرية والقبليّة، وهي طبيعة لم تتبدّد عبر مرور الزمن، بل اتخذت أشكالاً أكثر حداثة مع تقدّم المجتمع. هذه الطبيعة القبلية المتعددة المتجددة، فرضت وجود بيوتات سياسية شكّلت عبر التاريخ الضامن والحامي والمدافع عن أبناء المنطقة الجغرافية الواحدة أو القرية ومساعدتهم في الحروب والأزمات، متخذة بعداً طائفياً في الكثير من المحطات تبعاً لتركيبة لبنان المناطقية. وفي حين أخفق العديد من هذه البيوتات أو العائلات السياسية وغرقت في مستنقع الطائفية الضيقة وأحدثت تبدّلات وتغييرات جذريّة في انتماءاتها السياسية والوطنية، ثمّة بيوتات أخرى طوّرت فكرها السياسيّ وخياراتها وخطابها وبالتالي منهجيتها وفكرها، فاستطاعت الخروج من المصالح الطائفية البحتة والامتداد على كامل الخريطة اللبنانية ونشر فكرها عند مختلف شرائح المجتمع اللبنانية على تنوع طوائفهم وانتماءاتهم. وبصرف النظر عن مدى نجاحها واستمراريتها أو إخفاقها، يبقى أن الطبيعة والأسس التي نشأ عليها لبنان تجعل من المستحيل الاستغناء أو إقصاء البيوتات السياسية لا سيما تلك التي أثبتت ولا تزال عروبتها ومشرقيتها ومشروعها الوطنيّ بعيداً عن الاقطاع التقليدي والطائفية الضيقة. من هنا، قد يشكّل وجود هذه النماذج القليلة جداً، حاجة ضرورية في لبنان اليوم، لما لها من تاريخ عريق وقوة تأثير في محيطها وامتداد جغرافي يتخطى الطائفة والمصالح الضيقة، ولما يفرضه الظرف الخطير الذي يمرّ به لبنان اليوم والمنطقة من تشويه للتاريخ والدين والانتماء، والحاجة إلى من حافظ على تاريخه ومن هو قادر على البناء لمستقبل يشبه إرثه العروبيّ المشرقيّ.
من هنا، قد يعيد وجود شخصيات وبيوتات قوية مثل آل فرنجية الحديث عن قصص الهيبة والمواقف الصلبة في إعادة القوة والدور لمركز رئاسة الجمهورية بانتظار المعركة الكبرى... وهي صلاحيات رئاسة الجمهورية التي أضحت مطلباً وطنياً. وحتى ذلك الحين، لا يتمّ تغيير النظام اللبناني بإلغاء التاريخ، بل بالبدء بوضع قوانين تهيّئ المواطن اللبناني لخلع العباءة الطائفية والمذهبية التي نراه يتمسّك بها عند أي استحقاق. وهي تكرّست بفعل القوانين الانتخابية التي صاغتها مصالح الدول الأجنبية المهيمنة على لبنان بدءاً من الاحتلال العثماني وصولاً إلى الانتداب الفرنسي فالوصاية السورية وحتى يومنا هذا، ما جعل هذه النزعة الطائفية والطبيعة القبلية متجذرة في نفوس المواطنين اللبنانيين على اختلاف أجيالهم. لذا، يشكل اعتماد القانون الانتخابيّ القائم على النسبية مع لبنان دائرة واحدة، الخطوة الأولى لما يؤمنه من تمثيل عادل على امتداد الخريطة اللبنانية ويكسر ويضفي بعضاً من مواطنة مفقودة في اختيار ممثلين عن الشعب بعيداً عن العصبيات المناطقية والطائفية.
* أستاذة جامعية