كتبت الدكتورة بثينة شعبان، كتابها المهم «عشرة أعوام مع حافظ الأسد»، بالإنكليزية، ونشرته في بريطانيا، عام 2013. وهو موجهٌ للرأي العام الغربي، وتحديداً الأميركي؛ وهدفه تأكيد أن الأسد كان من «صنّاع السلام» مع إسرائيل، وأنه لم يكن معادياً للولايات المتحدة، إلا أنه كان متشبثاً بحقوق وطنه، وبالتوصل إلى اتفاق سلام راسخ، قابل للحياة، ومتوازن وواضح ومُرضٍ للشعب السوري، ما يتطلب شروطاً لم تتوافر في اتفاقية أوسلو 1993 الغامضة «التي يحتاج كل بند فيها إلى اتفاق»، وقد أثبت التاريخ فشلها في «صنع السلام».نجحت شعبان في إنجاز خطاب فعّال، من خلال استعراض وتوثيق عقد من المفاوضات حول السلام مع إسرائيل، والعلاقات الودية واللقاءات والاتصالات بين الرئيس الراحل والرؤساء الأميركيين المعاصرين له، لا سيما الرئيس بيل كلينتون.

استخدمت شعبان في تكوين خطابها الموجه للأميركيين، أسلوب التأليف المعتَمد في المذكرات السياسية الأميركية، فمزجت بين الشخصي والعاطفي والتوثيقي والوثائقي في سرد روائي متقن. وكتابها له، بلا شك، قيمة دعائية أكيدة، ما جعل الكشف عن استراتيجية الأسد وتحليلها غير ملائمين بطبيعة الحال.
أعطت شعبان لنفسها، كما يتضح في مواقع عدة في النص، صورة «صانعة السلام»، المتلهّفة، المؤمنة بالهدف النبيل الذي قدمت في سبيله تضحيات شخصية وعائلية وأكاديمية. ويمكن للمرء أن يغضّ النظر عن تضخيم هذا البعد الذاتي، طالما أنه يساهم في بناء الخطاب الذي يفهمه، ويتأثر به الأميركيون، خصوصاً أن شعبان تقدم نفسها باعتبارها عضواً في الوسط الأكاديمي الأميركي، وصديقة للولايات المتحدة.
وللإنصاف، فإن شعبان لم تتقوَّل شيئاً على الأسد، ووثقت مواقفه التفاوضية، بما فيها من مرونة دبلوماسية وصلابة في التمسك بالحقوق؛ لقد أوضح توثيق شعبان لحقبة المفاوضات التي تتناولها، استراتيجية الأسد التفاوضية، القائمة على ثلاثة أبعاد، هي، أولاً، وحدة المسارات، ولاحقاً ـ بعدما ذهب الفلسطينيون والأردنيون إلى اتفاقيتين منفردتين مع إسرائيل ـ أكد وحدة المسارين السوري واللبناني. ثانياً، الإصرار على الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 67 من دون المساس بشبر واحد من الأرض أو التبادل... الخ. ثالثاً، الحفاظ على استقلال سورية وكرامتها وقدرتها الدفاعية، في ظل «علاقات سلام طبيعية» مع إسرائيل. وهو مفهوم مختلف عن التطبيع والترتيبات الثنائية. وقد كان حازماً في القول إنه لا يريد استعادة الجولان وتسليم سوريا، كما حصل مع مصر والأردن والفلسطينيين.
باعتباره كتاباً بالإنكليزية، له أغراض دعائية مشروعة، خصوصاً أنه يصدر عام 2013، وسط عداء غربي ـ أميركي لسوريا، فإن المرء يستطيع أن يمتدح الكاتبة على ما أنجزته، بل إن توثيق عقد المفاوضات، بحد ذاته، وبدقة، هو عمل ممتاز ومهم. لكن، ما ينبغي أن التوقف عنده وقفة نقدية، هو أن الكتاب الذي وثّق استراتيجية الأسد التفاوضية، فشل أو أنه تجاهل الاستراتيجية الأكثر شمولية التي أدار الأسد من خلالها المفاوضات مع الأميركيين؛ وهو ما يتطلب منا التوقف عند محطات أساسية في سيرة أهمّ استراتيجي عرفه العالم العربي في القرن العشرين.
1ـ تولّى الأسد السلطة لكي يحسم الصراع مع اتجاهات يسراوية فوضوية تأثرت بديماغوجية الفصائل الفلسطينية، وأرادت حل الجيش العربي السوري واعتماد المليشيات، في ما اسمته «حرب التحرير الشعبية»، وتسعير صراع طبقي دونكيشوتي في البلاد. ولطالما نُظر إلى الحركة التصحيحية، لذلك، على أنها «يمينية»، ولكنها كانت في حينه ضرورة سورية وعربية. الأسد كان وطنياً سورياً أصيلاً، يدرك تركيبة سوريا وكيمياءها،
تجاهل الكتاب الاستراتيجية الأكثر شمولية التي أدار الأسد من خلالها المفاوضات مع الأميركيين



مثلما يدرك دورها الرئيسي عربياً وإقليمياً، وموقعها التاريخي في الصراع مع العدو الإسرائيلي. ولذلك، فقد رفض النهج المليشيوي الذي كان من شأنه، تحت شعارات ثوروية، تفكيك النسيج الوطني السوري، ووضع كل جهوده، في المقابل، في إعادة بناء جيش وطني عقائدي حديث، قادر على القيام بمهمتين في الآونة نفسها: ضمان وحدة الدولة السورية، ومجابهة إسرائيل. وهاتان المهمتان تنصرفان في السياسة، في مسعى للتضامن الاجتماعي الوطني السوري ـ ما يتطلب دعم الفلاحين والكادحين وبناء القطاع العام الخ، من دون صدام طبقي ـ وللتضامن العربي الذي يسمح بالتركيز على المعركة مع إسرائيل.
2 ـ افتتح الأسد، عهده، بالمساهمة الفعالة في منع الفوضى في الأردن 1970 ـ 1971، ودعم استقرار البلاد، بغض النظر عن الخلافات السياسية مع النظام الأردني. ولا ينصب ذلك فقط في حرصه على خلق البيئة الملائمة للحرب مع العدو، وإنما أيضاً في حرصه على تماسك بلاد الشام، الإطار الحيوي للدولة الوطنية السورية.
3 ـ سياساته نجحت في تمكين سوريا من خوض حرب تشرين 1973؛ أرادها تحريرية، وأرادها السادات تحريكية؛ تركه الأخير في منتصف الطريق، بينما استمرت الحرب على الجبهة السورية، إلى أن أصبح واضحاً أن مصر خرجت من الصراع. ولعله من الإنصاف أن نتذكر مستوى التخطيط والقدرة القتالية والبطولة في حرب تشرين على جبهة الجولان؛ ولمن لا يريد أن يتجشّم عبء الدراسة، فليقرأ أقله رائعة حنا مينا الروائية «المرصد».
4 ـ وقّع الأسد، هدنة ميدانية مع اسرائيل، ولكنه لم ينزلق إلى طريق الصلح معها على نحو ما ذهب إليه السادات؛ كان ذلك عامل تفجير أساسياً للحرب الأهلية اللبنانية؛ هنا اتضحت نظرة الأسد الثاقبة في مآل الدور المليشياوي في تفتيت الكيانات الشامية الفسيفسائية؛ وبغض النظر عن الشعارات الثوروية الزائفة، رأى الأسد في الحرب الأهلية في خاصرة سوريا، كارثة على كل صعيد، سواء في مشروع مقاومة الاحتلال أو على صعيد وحدة لبنان أو على صعيد استخدام البلد كرهينة للمساومة على مقعد للمنظمة في محادثات تصفية القضية الفلسطينية التي لم يؤمن الأسد يوماً أنها قضية الفلسطينيين، بل قضية الشام والعرب، والقرار في بلاد الشام هو لمركزها، أي دمشق، فرضت مهمة إنقاذ لبنان نفسها على الأسد؛ ونلاحظ هنا أنه على رغم الصراع مع المليشيات «المسيحية»، فقد تدخلت القوات السورية لمنع تهجيرها. نظرة الأسد، البعيدة المدى، لم تأخذ الشعبوية بعين الاعتبار، وإنما المصالح الكبرى لبلاد الشام.
5 ـ وقف الأسد في مواجهة مفاوضات ومعاهدة «كامب ديفيد»، كان بإمكانه أن يكون رفيق السادات في السلام، كما في الحرب، ويسترد الجولان، كما سيناء، وينتظم في الجبهة الأميركية، لكنه رفض كل العروض، لماذا؟ لأنه في الحقيقة لم يكن من «صناع السلام» ـ بالمعنى الأميركي ـ بل كان مؤمناً بالصراع حتى النهاية مع الصهيونية، مؤمناً باستقلال بلده، وبدورها القومي، وبالنظر إلى إدراكه العميق لصعوبة الحرب النظامية من دون الشريك المصري، اتجه الأسد إلى الانغماس في استراتيجية ذات ثلاثة محاور: الجهد التنموي في الداخل، والشروع في بناء التوازن الاستراتيجي بين سوريا بمفردها والعدو، واتباع نهج الحرب خارج الأسوار، لإدامة الصراع مع إسرائيل.
6 ـ واجهت الولايات المتحدة والرجعية العربية، هذه الاستراتيجية، بتحريض ودعم وتمويل وتسليح «انتفاضة» عصابات الإخوان المسلمين ضد الدولة السورية، ومَن يذكر تلك الأيام السود، سيذكر التفجيرات الارهابية في المدارس والتجمعات السكنية والاغتيالات... الخ.
7 ـ القسم الأول من الثمانينيات، كان فترة صراعات متعددة الأطراف قامت بها دمشق، مجابهات عسكرية عنيفة مع الاخوان، ومع إسرائيل في لبنان، ومع الولايات المتحدة، ومع فتح والمليشيات «المسيحية» اللبنانية، وسط حصار قاس وضغوط شديدة، تحداها الأسد وصمد، واصل البناء الداخلي، وتعزيز القوات المسلحة، والعمل على اسقاط المعاهدة اللبنانية ـ الاسرائيلية، ودعم نشوء مقاومة ملتزمة منضبطة لا ميليشياوية في لبنان، تبلورت، في النهاية، في قوة إقليمية حليفة (حزب الله) ودعم المقاومة الفلسطينية، والانتفاضة الأولى.
8 ـ في كل هذه الصراعات، كان الأسد يخوض معاركه في سياق الحرب الباردة، مدعوماً من الحليف السوفياتي، وبالدرجة الثانية من الحليف الإيراني. وبنظرته الاستراتيجية البعيدة الغور، اكتشف الأسد أن الاتحاد السوفياتي يتفكك ويغادر مسرح السياسة الدولية، وأن إيران، على ما تقدمه من مساعدات، ليست تلك القوة الدولية الكافية لتأمين توازن القوى، وأخيراً، فإن دخول القوات العراقية إلى الكويت ـ وبغض النظر عن الأسباب والشرعية ـ أنذر بتدمير العراق وجيشه، وهما، وسط كل الخلافات، كانا في نظر الأسد، عمقاً استراتيجياً لسوريا والأردن في مواجهة إسرائيل.
9 ـ كان أمام الأسد خياران، أولهما الانتحار في ظل انهيار موازين القوى الدولية والاقليمية، وثانيهما الاستسلام. وقد رفض القائد المحنّك، الخيارين كليهما معاً، واتبع خياراً ثالثاً معقداً، ربما من الصعب فهمه على الكثيرين؛ كان يدرك أن عليه أن يدفع الثمن، وقرر أن يعطي لأعدائه شيئاً بلا قيمة عملية، رغم أنه باهظ الكلفة من الناحية المعنوية، أي المشاركة الرمزية في ما عُرف بحرب تحرير الكويت. وبعدها لم يعط شيئاً آخر أبداً، بل وظّف مرحلة القطبية الواحدة للحصول على مكتسبات، أهمها الحفاظ على الدولة السورية وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والقومية، وسيادتها واستقلالية سياستها الخارجية، وانهاء الحصار ودفع العملية الاقتصادية الداخلية، ووقف الحرب وازدواجية السلطة في لبنان، وإعادة بناء الجيش اللبناني كعمود لوحدة الدولة والاستقرار، وتمكين المقاومة المنضبطة في سياق السياسة الشامية، من تأسيس حضورها وقوتها وقدراتها، ودعم المقاومة الفلسطينية، والسعي لفك الحصار عن العراق، وفي النهاية، تحويل خسارة الحليف السوفياتي إلى مكتسبات لا تتعارض مع المصالح العليا لسوريا، أو دورها في الصراع مع إسرائيل.
10 ـ هنا، نأتي إلى عقد المفاوضات الذي وثّقته شعبان، ليس الأسد بالطبع مخاتلاً، وإنما كان مؤمناً بجدلية التاريخ، وأنه لن يتجمّد عند لحظة واحدية القطبية، وقد نظر إلى المفاوضات ليس كطريق لسلام مشرّف يدرك أنه مستحيل، وإنما كسياق للتعايش ـ بأقل ما يمكن من الخسائر وأكثر ما يمكن من المكتسبات ـ مع الولايات المتحدة في مرحلة انتصارها الدولي. وتوثّق شعبان في مواقع عديدة شكوك الأسد وتدني توقعاته وهدوءه وحتى ضجره غير المعلن والمعلن، من مفاوضات السلام الماراثونية. لا ننفي بالطبع أن الأسد كان يفكر كالتالي: إذا تمخّض كل ذلك عن انسحاب إسرائيلي شامل من الجولان حتى حدود 67 من دون تنازلات جوهرية تمس استقلال سوريا ودورها وتاريخها القومي وكرامتها، فستكون هذه نتيجة ممتازة، سورياً وعربياً؛ سوف تحقق سوريا تحرير أرضها، وفي الوقت نفسه، تكشف عقم التنازلات التي قدمها المصريون والفلسطينيون والأردنيون وتحرجهم، وربما تفرض عليهم إعادة النظر في مواقفهم، إنما لم يكن الأسد ليفوت ببصيرته وخبرته وذكائه الاستراتيجي أن استعادة الجولان بالمفاوضات في ظل الظروف الدولية والاقليمية المسيطرة في التسعينيات، تتطلب التخلي عن استقلال سوريا لمصلحة التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي. حتى في الشعر، كان ذلك معروفاً، فقد علّق الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي على مسار كامب ديفيد قائلاً: «يا خوفي من النصر! يا خوفي من النصر: ترجع سينا وتضيعْ مصر».
لو كان الأسد من «صنّاع السلام»، كالسادات والملك حسين وياسر عرفات، لكان «السلام» أهمّ عنده من بضعة أمتار على شاطئ طبريا. ومن وجهة نظر واقعية، فإن التمسك بتلك الأمتار، على أهميتها الرمزية، ليس عائقاً جدياً أمام «صنع السلام»، ولكن ما كان يخشاه الأسد حقاً هو ما نقلته عنه شعبان، بأن التنازل الأول يقود بالتالي الى الانزلاق في التنازلات. أراد الأسد بالطبع أن يبل قدميه في طبريا، ولكن حرصه الحقيقي كان على استقلال سوريا، ذلك الثمن الذي لا يمكن القبول به حتى لو قبلت إسرائيل بالانسحاب حتى الماء.
الأسد صانع سلام، وإنما بين السوريين وبلاد الشام والعرب؛ وهذا نهج يتعارض مع صنع السلام مع إسرائيل.
رحل الأسد ـ لا حزيناً على فشل السلام كما توحي شعبان ـ بل سعيداً بأنه شهد نجاح استراتيجيته في تحرير الجنوب اللبناني، ونجاحه في الحفاظ على استقلال سوريا في أصعب الظروف الدولية والاقليمية، حين كانت روسيا نفسها قد فقدت استقلالها.
مات... ولم يوقّع. يا للمجد! وترك وراءه دولة متماسكة وجيشاً صلباً وقيادة تسير على نهجه، ليس الأسد الابن بأشجع من أبيه، ولكنه ورث النهج في ظروف أفضل: روسيا تستعيد استقلالها وإيران أقوى والجيش السوري يحصل على السلاح الأحدث ويطوّر تقنياته، وحزب الله تحوّل إلى قوة لا تُقهر، والاحتلال الأميركي في العراق يُهزَم، وإسرائيل تجرّ خيبة قدرتها على الردع في لبنان 2006، جدلية التاريخ لا تتوقف، وحين اصطدم أعداء سوريا بحقيقة أن الرئيس الشاب بشار الأسد ليس ذلك الفتى المتأمرك الذي ظنوه، وأن سوريا المستقلة على وشك انطلاقة اقتصادية وسياسية ودفاعية جديدة، من شأنها أن تقلب الموازين في المنطقة، قرر الإمبرياليون انطلاقاً من لبنان التحضير لانقلاب على دمشق الأسد وفشل، فكانت مؤامرة 2011 الكبرى، وقد ساعدتهم في نسجها سياسات أخطأت نهج الأسد الكبير: الاختراق النيوليبرالي (سيطرة اقتصاد ومعايير السوق)، والتراجع عن دعم الفلاحين، والعلاقات «الاستراتيجية» مع العدو التركي، وتملّق الفكر الظلامي، نما تراث الدولة الوطنية السورية، وبسالة جيشها الوطني، وتراث الأسد، والصلابة القيادية للرئيس الشاب الذي تعمّد بالنار، والمجتمع السوري المتحضر المنتج، كلها عوامل تؤذن بنصر أكيد، ولو كان باهظ الكلفة.