بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ظهرت تسمية الليبراليين العرب الجدد بشكل واسع في الدوريات العربية التي تصدر خارج الوطن العربي. ومن ثم بدا فرسانها بتأسيس نواة لهم في ابرز العواصم العربية، في جمعيات او مواقع الكترونية، وتلقوا الدعم الواسع من دول خليجية تتعاطف معهم وتتسابق في التطبيع المتعدد الاشكال مع الكيان الصهيوني.
وقد تكون لهذه المجموعة سوابق على ما حدث إلا انها استغلت الفرصة او جنّدت لهذه المهمة التي لا يمكن أن تكون عفوية او تطوراً طبيعياً لمسارات فكرية ومنعطفات ايديولوجية وحسب.
في اطار السياسات الصهيو اميركية في كسب العقول والقلوب في العالم، والعربي والإسلامي خصوصاً، وضمن سياسات ومخططات الحرب على الارهاب، شنت الادارات الغربية حملاتها وروجت لها الاصوات الجديدة بالعربية، عبر وسائلها هي الاخرى. بل تنافست هذه الاصوات مع الوسائل الغربية في حملاتها وهجمتها الفاشية على العرب والمسلمين، وعلى المقاومة والإسلام، منهجاً وديناً، وعلى التقدم والتطور المنشود للطبقات الاجتماعية المتضررة من الاحتلال والاستعباد ومن السياسات الامبريالية والعدوان الاستعماري بكل اشكاله، سواء في فلسطين او العراق او توسيع بناء القواعد العسكرية والاستيطانية في الجزيرة العربية والمغرب العربي.
الغريب أن «داعش»
لم يجد عند اصحاب الليبرالية الجديدة نقداً صريحاً

تنقلت هذه الاصوات عبر تاريخها في ادعاء الانتساب الى اكثر من تيار سياسي او فكري، واستفادت منها في التخادم مع الحملات الجديدة. وكأنها تريد التشابه بما حدث عند صعود اليمين الاميركي الذي حمل اسم المحافظين الجدد، وأكثرهم من المتطرفين اليساريين فكرياً، كما عرفوا اعلامياً. في عالمنا العربي خرجت التوجهات ذاتها ووضعت تحت سيطرة مجموعة من الاصوات وسائل وإمكانات غير قليلة، وتفاخرت بتسمية نفسها بالليبرالية الجديدة. طبعاً لم تكن امتداداً طبيعياً لتيار الليبرالية العربية الذي سبق تاريخياً، وبنى قيمه التي يمكن اعتبارها تياراً حداثياً مجدداً في الفكر والمشهد السياسي العربي، رغم عدم نجاحها او فشلها في تطبيق افكارها ودعواتها في الواقع، ولها اسبابها الكثيرة.
هذه المجموعة من الاصوات الغالبة في وسائل الاعلام التي تمولها دول نفطية ريعية، تتخادم استراتيجياً مع الحماية الغربية لأركانها في السلطات والقمع والإرهاب ولا تمانع من الدخول مع الاعداء في تسويات واستسلام كامل رغم كل ما لديها من مصادر قوة يمكنها ان تدافع بها عن المصالح العربية وتقف بوجه الحملات المعادية وتراعي مصالح الشعوب العربية. إلا انها كما اثبتت الوقائع تسلم المشهد السياسي من جانبها الى ما يخدم المصالح الغربية فقط. ويدعو كما سماه الكاتب العربي بلال الحسن في كتاب له بثقافة الاستسلام (منشورات رياض الريس- بيروت، ط1، 2005). وناقش فيه بعض الافكار من مقالات مجموعة من المنفذين لتلك السياسة والسائرين في ركابها. وكتب: «لقد اخترت ان اناقش نوعاً خاصاً من الافكار، يبدو في ظاهره ثورياً وراديكالياً وحداثياً، ولكنه في العمق مغرق في الرجعية وفي الدعوة لتدمير الذات. فكر يجاهد ليصوغ نظرية تبرر الانحناء امام كل مستعمر، وتعتبر خطيئة المستعمر نابعة من ذاتنا نحن، نحن الذين يجب ان نتبدل لكي تصبح نظرتنا الى المستعمر نظرة ايجابية». وأضاف: «والغريب في الامر، انه بينما يدعو هذا النوع من الفكر الى الانحناء وجلد الذات (عبر الاجيال) وهدم ثقافتنا، وقبول المستعمر، والتماهي معه، فإن اللغة التي يستعملها هي لغة تستند الى تعابير التغيير والحداثة والتطور. انها عملية منظمة لممارسة عملية خداع لغوية. تماماً كما تبرر الولايات المتحدة الاميركية حروبها بأنها عملية نشر الديمقراطية». واستمرت الحملات الهجومية عبر وسائل الاعلام ومؤسسات جديدة، فضائيات وصحف ومواقع الكترونية، ونشاطات واسعة بقدراتها المالية الضخمة التي وضعت لخدمتها. حيث صرح وزير خارجية خليجي، بلسانه وبمفرداته المعروفة بما يعنيه بوضوح، عن استعداده لوضع كل رصيده المالي (مليارات الدولارات والعقارات في بلدان غربية) لخدمة المخططات الصهيو اميركية في المنطقة، واستثمار هذا المجموعة باستمرار توجهاتها المتخادمة مع المشاريع والمخططات الاجنبية التي تستهدف العالم العربي وقوى التغيير الوطني والثوري.
الليبراليون الجدد في العالم العربي كشفوا في بيانات لهم انهم ابتعدوا من القيم والمفاهيم التي حملتها التيارات الليبرالية التاريخية، وتسموا بها للمرور عبرها داخل المشهد العربي وبالطريقة التي يريدونها لهم. ولعل القول الذي يقول من «اقوالهم تعرفونهم» ينطبق بالتمام على ما يصدر من هؤلاء، والبيانات التي توقع عليها اسماء منهم واضحة للعيان. وهي التي تعمل على تكريس ثقافة الاستسلام، والتخاذل والتخادم مع العدو السياسي والطبقي والاجتماعي. فلم يعد عندهم معنى لمقاومة مشاريع الاستعمار والاستيطان، وأصبحت الدعوة الى الوحدة العربية او وحدة الشعب في وطنه ثقيلة على اذهانهم والعمل على تنظيم الاطر النضالية ومفردات الثورة والانتفاضة عسيرة على هضمهم لها ولحملتها، ولا بد من حد سيوفهم عليها و«الجهاد» ضدها. وبلغ الامر بهذه الاصوات الانكار للقيم والمثل العربية والإسلامية وحتى التراث الليبرالي العربي. هذا التراث الذي تأسس على اسس الدفاع عن قيم الحداثة والإصلاح على مختلف الصعد وبناء الدولة والاقتصاد والمجتمع لما يخدم المصالح الوطنية والقومية ولا يدفع الى الفوضى والخضوع والاستهانة وإنكار الواقع والوقائع القائمة فعلاً لا في مخيلتهم البعيدة منها.
فضح ما يسمى بتنظيم «داعش» هذه المجموعة ومن وراءها بكل ما تناولوه حوله. وعبّر عن نوازع لهم في سير هذا التنظيم ومالاته في المنطقة. والغريب ان «داعش» بما يحمله من توجهات وأفكار ظلامية واضحة لم يجد عند اصحاب الليبرالية الجديدة نقداً صريحاً إلا بمقارنته بمن هو ضده اساساً. بل وجدوا فيه دلالتهم على عدم مكافحة المطلوب منهم الدفاع عنه في الهدف والمبتغى، وهو الصمت امام العدوان والكيان الصهيوني والترويج له (تنشر مواقع صهيونية، منها موقع وزارة خارجية الكيان الاسرائيلي مقالات لبعض الاسماء منهم ولم يحتجوا عليها - لماذا؟- هل تم برغبة منهم ام هي عملية تبادل منافع وغيرها بأشكال اخرى؟!). وأصبح حديثهم عن «داعش» ضمن التفاصيل وتركيزهم الواضح على كل من رفض الوجود الصهيوني والاستعماري وناضل ضده بأية وسيلة ممكنة. بل تحولت اقلامهم وبرامجهم ومؤسساتهم الى محاربة مفكرين عالميين وقفوا ضد الاستعمار والاستغلال، كما شنت وسيلة اعلامية جديدة أخيراً حملة على المفكر الشيوعي الايطالي غرامشي او المناضل في الثورة الجزائرية فرانز فانون. ولم يسلم منهم كاتب روائي عربي مشهور، فضح مموليهم في شرق المتوسط. وليس غريباً رؤية عناوين مثل «الصهاينة العرب» او «الكتاب العرب الصهاينة» وأمثالها لكتاب هم من ينطبق عليهم هذا العنوان، وكأنهم يرمون او يسبقون بالرمي لغيرهم وينسلون منها، ولكن الوقائع لا تخفى بغربال، كما يفهمون ذلك، بل يستغلونها ابشع استغلال لمآرب اخرى وغايات ابعد من كلماتهم وصولاتهم وجولاتهم. وهي شهادات دامغة على الانحدار الذي يعيشون، مهما بلغت لديهم الان فرص بيع الذمم وتوسعت عندهم وسائل النشر ومعاهد التحريف والتخريف.
للأسف يسيطر امثال هذه الاصوات على تيار فكري وسياسي يمكن ان يصب مع غيره من تيارات الكتلة التاريخية في خدمة الاهداف الليبرالية التقليدية التي تسعى الى تعزيز الحريات والبناء والتحديث ومحاربة الاستعباد والدكتاتورية واستلاب الانسان. ولهذا فضح هذه المجموعة مهمة واجبة تقتضي العمل عليها والدعوة معاً الى خطاب جديد ونضال كفاحي متواصل من اجل الانسان والمستقبل.
* كاتب عراقي