من المعروف أنّ من أفعل ألعاب الهيمنة أنّها لا تقدّم نفسها وعناصرها ومبادئها كـ»إيديولوجيا» أو كموقف، بل كـ»حقيقة»، أو بداهة، لا تحتاج الى نقاشِ وإقناع. وهذه العملية تجري بأكثر من طريقة، كافتراض مسارٍ محدّد و»طبيعي» للتاريخ، كما مع الديمقراطية الليبرالية، التي تُقدّم ــ أوّلاً ــ كصيغة وحيدة ممكنة للديمقراطية (لا كتشكيل تاريخي له ظروفه ونواقصه وخرافاته)، و ــ ثانياً ــ كنتيجة طبيعية ونهائية ومحتمة لتطوّر التاريخ ومفهوم الشرعية السياسية.
الهيمنة تخبّئ نفسها أيضاً عبر سوق افتراضات مسبقة عن الطبيعة الانسانية تشرعن، انطلاقاً منها، مؤسسات وسياسات وانحيازات على أنّها انعكاسٌ مخلص لطينة الفرد وفطرته («الفرد»، هنا، كما تعرّفه الايديولوجيا). وهذه النزعة تتبدّى بوضوح من خلال الدعاية التي رافقت صعود فكرة «السوق الحرّة» منذ الثمانينيات.
الخديعة هنا تبتدئ من التسمية التي تفترض أن المنظومة النيوليبرالية ما هي إلا عمليّة «تحرير»، تسمح للسوق بأن تأخذ مسارها الطبيعي، بينما السياسات المخالفة، أو الاشتراكية، تنطوي على «تدخّلٍ» ما في عمل السوق، يقيّدها ويفرض عليها من فوق (وهذه نظرةٌ راجت الى درجة أنّ اليمينيين يقبلونها من دون نقاش كما خصومهم اليساريون).
بشكلٍ متّصل، تفترض إيديولوجيا السوق أنّ الفرد، بطبيعته، «ليبرالي»، فيبدأ الكثير من المنظرين الاقتصاديين المحافظين محاججتهم عبر ترداد مقولة آدم سميث الشهيرة عن «نزعة الانسان الفطرية للتجارة والمقايضة والتبادل»، معتبرين أنّ مفهوم «السوق الحرّة» ليس بنياناً إيديولوجياً، بل تعبيرٌ تلقائيٌ عن هذه الفطرة الانسانية.
من جهةٍ أخرى، ومنذ عقود، جهد معسكرٌ كبير من المفكرين والباحثين في إثبات خطأ هذا التصوّر وإظهار الطابع الاصطناعي للسوق «الحرّة»، ولكن من غير أن تؤدي هذه الكتابات الى أي تغيير في الخطاب السياسي (فالإيديولوجيا هي كالهوية القومية، لا يكفي نقدها تاريخياً أو التدليل على تناقضاتها الداخلية حتى تضعف وتندثر).
السوق الحرّة تحديداً، يقول أتباع المدرسة المؤسسية الجديدة، هي أكثر أنماط السوق تنظيماً وقوننة، ولا يمكن تخيّل سوقٍ «حرّة»، تجري فيها الرساميل وعمليات التبادل والانتاج بلا قيود، من دون شبكات كثيفة من المؤسسات التي تحدّد قواعد اللعبة: قوانين التجارة وحقوق الملكية وتبادلية العملة و، قبل ذلك كلّه، سوقٌ وطنيّة موحّدة يتمّ بناؤها على مدى عقود – وكلّ هذه العناصر ليست معطاة سلفاً، بل تقرّ عبر معارك سياسية وصراعات وتسويات تاريخية، وهي التي تعطي كلّ سوقٍ «حرّة» بنيتها الخاصة وشكلها المميز.
في المبدأ، «السوق»، بمعنى القنوات والقواعد التنظيمية التي تسمح بتبادل السلع وتوزيعها، ليست موضوع خلافٍ إيديولوجي؛ حتى الشيوعيون يحتاجون الى سوق فعّالة وكفوءة. أساس النقاش يجري حول القيم والمبادئ التي تستبطنها هذه السّوق وتحكم عملها، وهنا مكان الإيديولوجيا.