أيّاً كانت المبررّات الداخليّة للحرب التي دمّرت ولا تزال تدمّر سوريا، فقد غابت هذه المبررّات منذ الأشهر الأولى للأزمة، وبالتحديد منذ أصبح العنف والّلجوء إلى السلاح وسيلة التغيير، وبرز دور القوى الخارجية، إقليميّة ودوليّة، كمصدر لتمويل، وتسليح، ورعاية المسلّحين، واتخاذ موقف بشأن من يجب أن يحكم أو يغيب عن الحكم في سوريا.صحيفة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في ٢٧ أيلول الماضي تتساءل «أين هي الحرب الأهليّة مع تدفّق ٣٠٠٠٠ عنصر أجنبي من أكثر من مئة دولة في غضون بضعة أشهر، منهم ٢٥٠ أميركياً؟».

الموقف الأميركي

الرغبة الأميركية في تغيير النظام الحاكم في سوريا والعمل على استغلال جميع نقاط الضعف فيه يعود إلى سنين طويلة سبقت بَدء الأحداث في سوريا، والبيّنات على ذلك دامغة، بدليل ما سرّبت «ويكيليكس» ومنها التقرير المرفوع من القائم بالأعمال في السفارة الأميركيّة في دمشق بتاريخ ١٣/١٢/٢٠٠٦. وبالنظر لفشل الولايات المتحدة في حربها على العراق، والتكاليف الباهظة، بشرياً ومادياً ومعنويّاً، التي منيت بها، وقرار الإدارة الأميركية، نزولاً عند رغبة شعبية، في عدم الدخول بقوّاتها وأموالها في حروب جديدة في الشرق الأوسط، بخاصة بعد اكتشافها السلاح الأفتك، والأفعل، والأرخص في بلوغ أهدافها، وهو تنمية وتفعيل الهويّات الطائفية والمذهبية، واستغلال كل ما تثيره من هواجس ومخاوف، اعتمدت الولايات المتحدة على حلفائها الإقليميين في تمويل وتسليح ورعاية وتسهيل تنقّل منظمات تعتمد الإسلام السياسي، والتكفيري بشكل خاص، منهجاً لعملها، معززّة بجهود إعلامية ضخمة لتعميق الاستقطاب المذهبي لتكون هي القوى الفاعلة في زعزعة أركان الدولة السورية. فقد أصبح من الصعب القول إنّ الدولة التي تعمل على إضعاف، لا بل القضاء على، أنظمة الحكم التي هي الضامن الأساسي لمكافحة الإرهاب، كما حصل في العراق وليبيا وما يجري في سوريا، فضلاً عن شدّها إزر أقرب الحلفاء لها في رعاية وتمويل وتسليح وتسهيل عمل المنظمات الإرهابية بأنّ هذه الدولة ليست راعيةً لنمو الإرهاب وانتشاره. ليس لعاقل أن يقتنع بأنّ الولايات المتحدة، بالنظر لما اختارت من حلفاء ووسائل في تحقيق أهدافها في سوريا، كانت ترغب في إقامة نظام بديل يتبنّى الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن، ومحاربة الفساد، وكل ما يتطلّع إليه مواطن سوري يتمنّى الإصلاح الفعلي في وطنه. الأهداف الأساسية وراء استعداء النظام السوري الحاكم الذي صعب إدخاله بيت الطاعة الأميركي هي:
أــ تدمير الدولة السورية وتعطيل دورها في دعم المقاومة والدفاع عن الحق العربي في فلسطين، وبذلك تحقيق أهمّ الأهداف والأماني الإسرائيلية.

أدركت روسيا منذ بداية
الربيع العربي خطورة توظيف الإرهاب في حلّة دينية

ب ــ إضعاف روسيا وإخراجها من البحر الأبيض المتوسط كليّاً بعد النجاح في فكِّ كل ارتباط لها في ليبيا، وكذلك السيطرة المنفردة على مقدّرات الطاقة في منطقة هي المنافس الأكبر لروسيا على صعيد عالمي.
ج ــ إضعاف إيران وحصارُها ومنعُها من الاعتماد على حليف قوي في سوريا، وكذلك منعها من دعم فاعل للمقاومة في لبنان وفلسطين، وبذلك أيضاً تحقيق رغبات ومصالح إسرائيلية ملحّة.
لم تتحقق التوقعات الأميركية في القضاء السريع على النظام القائم في سوريا، وأخذ توظيف الإرهاب في بلوغ أهداف سياسية يتفاعل إقليمياً ودوليّاً وينمو، الى حدٍّ بعيد خارج السيطرة الأميركية، بحيث أضحى يطال مصالح أطراف عدّة منها حلفاء للولايات المتحدة، فضلاً عن خصومها، إقليميّاً وأوربياً وأصبح يشكل تهديداً وقلقاً على صعيد عالمي. في الجانب المقابل، أدركت روسيا وإيران والمقاومة أنّها المستهدفة الرئيسية في الحرب الدائرة في سوريا، فبدأت باتخاذ ما استطاعت من تدابير في ما يمكن اعتباره دفاعاً عن النفس.
لقد عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الحلف الأطلسي على تطويق روسيا بحزام من الأزمات، خاصة في الدول المحيطة بها، والتي يشكل الروس جزءاً مهمّاً من سكّانها، بدءاً بالحرب في جورجيا عام ٢٠٠٨، وذلك عن طريق تشجيع هذه الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية جمّة على الانضمام الى الحلف الأطلسي، فضلاً عن نشر الدرع الصاروخيّة في بولونيا وتركيّا، ومحاولة إدخال أسلحة استراتيجيّة الى دول البلطيق، إضافة الى عقوبات اقتصاديّة فرضت على روسيا، وتخفيض مفتعل لأسعار النفط لحرمان موسكو من موارد مالية مهمّة. كل ذلك بهدف إضعاف روسيا وحرمانها من أن تصبح قوّة دولية تشكّل تحدّياً للأحاديّة القطبية التي تحاول الولايات المتحدة تكريسها عالميّاً. فقد قال الرئيس أوباما جواباً على سؤال وجّه إليه إبّان الأزمة الأوكرانيّة واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم: «إنّ روسيا دولةٌ إقليميّة تستسهل العدوان على جيرانها لكنّها ليس باستطاعتها التحرّك بشكل فعّال على صعيد دولي».
لم يكن كل ذلك بخافٍ على الرئيس بوتين الذي اعتمد سياسة تستدعي خطوات حازمة بهدف تفكيك حزام الأزمات المحيط بروسيا، وقد مارسها بنجاح منذ الحرب الجورجيّة التي عاقب فيها رئيسها ساكاشفيلي، الذي تجرّأ على الخروج عن طاعة الكرملين، وصولاً الى أزمة أوكرانيا التي اقطتع منها شبه جزيرة القرم، وأثبت أنّ باستطاعته اتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة الأزمات.
في ما يتعلّق بالوضع في سوريا، أدركت روسيا منذ بداية ما يدعى الربيع العربي خطورة توظيف الإرهاب في حلّة دينية، وراقبت بدقّة تطورات هذا التوظيف. كما أنّها لاحظت سلوك بعض دول الحلف الأطلسي، التي فضلاً عن محاولتها الاستغناء عن الغاز الروسي وإبعاد خطوط وأنابيب الغاز عن المناطق الحيويّة لروسيا، كانت تسعى لتفجير المجتمع الروسي بنقل الإرهاب بغطاء إسلامي الى الداخل، حيث يزيد عدد المسلمين على عشرين مليوناً. ثمّ أنّ الجماعات الشيشانية والقوقازية التي أتت بها الاستخبارات التركية الى سوريا ولّدت مخاوف جدّية لدى موسكو بأن تكون البؤرة السورية مجرّد تمرين لهذه الجماعات، وأن تقوم الاستخبارات التركية في ما بعد بنقلها الى القوقاز وتفعيلها، ما يشكّل تهديداً خطيراً للأمن الروسي. وقد ألمح الرئيس بوتين الى ذلك في خطابه في الخامس عشر من شهر أيلول/ سبتمبر المنصرم في افتتاح قمّة دوشانبي لـ«منظمة الأمن والتعاون» التي تضمّ، بالإضافة الى روسيا، ست جمهوريات سوفياتية سابقة، حيث أبدى مخاوفه من تمدّد نشاط «داعش» في أفغانستان، وعودة العديد من الإرهابيين لينشط في روسيا وبلدان «منظمة الأمن والتعاون». لقد راقبت القيادة الروسيّة التطوّرات على الساحة السورية بدقّة، واتخذت مواقف تنسجم مع أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لجهة احترام سيادة الدول، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها واختيار حكّامها من دون تدخّل خارجي. وبشأن محاربة الإرهاب الذي بات يشكّل تهديداً للسلم العالمي، دعت لتحالف دولي يضم جميع دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، لتوحيد الجهود في محاربة الإرهاب بفعالية. وعندما لم تجد استجابة من جهة القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عمدت الى التنسيق مع إيران والحكومة السورية لوضع خطّة تضمن القضاء على الإرهاب بفعالية وبالاشتراك الفاعل للقوى الروسية. المرجّح أنّ ما عجّل في بدء تنفيذ الخطّة، هو اقتناع موسكو بأنّ توافقاً جرى بين تركيّا والولايات المتحدة على إقامة منطقة حظر جوّي، من دون موافقة مجلس الأمن، تمكّن المعارضة السورية المدعومة من تركيا، والمقيمة في فنادق اسطمبول، ولا تأثير لها يذكر على الأرض بالتمركز داخل سوريا، فتصبح المعادلة صراع بين نظام يملك أرضاً وشعباً من جهة، ومن جهة أخرى معارضة تسيطر على أرض عليها شعب ولها إدارة ذاتية، فتسهل عمليّة تقسيم سوريا وإضعافها وإبقائها مسرحاً للفوضى والصراع الداخلي والنشاط الإرهابي.
ربما من السابق لأوانه تقييم تداعيات التصعيد العسكري الروسي في سوريا على الصعيدين العربي والإقليمي وكذلك الدولي، ولكنّي سوف أحاول تسليط الضوء على ما أعتبره وقائع وتطورات بارزة.
لقد أفادت روسيا من أخطاء فاضحة ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون، في اعتمادهم تنمية الهويّات والهواجس الطائفية والمذهبية، وتوظيف الإرهاب الذي يستظلّ الدين لبلوغ أهداف سياسية، ضاربة عرض الحائط بالروادع القانونية والأخلاقية، فبدى جليّاً أنّ القوى الإرهابية التي لا تتمتع بأية قيمة خلقيّة وتشكّل شرّاً بذاتها، هي القوى الوحيدة الفاعلة على الأرض والتي تتمتع بتأييد الولايات المتحدة وحلفائها، أكان ذلك بشكل ظاهر أو مقنّع، في عمليّة الدمار التي عمّت عدداً من الدول العربية وليس فقط سوريا. إنّ الضرر الذي عمّ انتشاره على صعيد دولي بسبب رعاية وتوظيف الإرهاب، أعطى التدخّل العسكري الروسي الدعم المعنوي والقانوني والرغبة بالتعاون حتّى من بعض أقطاب الحلف الأطلسي، كألمانيا وفرنسا، إضافة إلى الرأي العام العالمي الذي يشعر بخطر انتشار الإرهاب وبضرورة القضاء عليه.
هناك عوامل عدّة تدفع للاعتقاد بفعالية العملية العسكريّة الروسية وفي قدرة روسيا على تحدّي أحاديّة القطبية الأميركية وتوسيع دائرة النفوذ العسكري والسياسي الروسي. فالحشد الواسع للقوات الجوّية والبحريّة الروسية واستعمالها بفعالية، وكذلك توسيع رقعة القصف الجوّي، وإطلاقها صواريخ متوسطة المدى من على متن سفنها المرابطة في بحر قزوين، حملت لا شكّ، رسائل رعب لأطراف أوروبية وإقليمية متعدّدة. وهناك أمر لم يتناوله الإعلام كثيراً ولكنّه بعيد الدلالة، وهو وجود حاملة طائرات صينية تشارك في حماية الأجواء والشواطئ السورية، وذلك لأول مرّة بتاريخ جمهورية الصين الشعبية. فالصين تشارك روسيا مخاوفها بشأن انتشار الإرهاب نظراً لنقل الأتراك آلاف المقاتلين الأويغور من جماعة «الحزب التركستاني الإسلامي» الى سوريا مع عائلاتهم. وقد لعب هؤلاء دوراً أساسياً في غزو منطقة جسر الشغور وشاركوا في عمليات عسكرية عدّة. وتكشف بعض مصادر المعارضة السورية أنّ أكثر من ٣٥٠٠ من هؤلاء استوطنوا قرية الزنبقي المحاذية للحدود مع تركيا في ريف إدلب، بعد طرد سكّانها السوريين منها.
وما يعزّز مصداقية روسيا في محاربة الإرهاب في سوريا، هو النجاح الذي حققته عملياتها العسكرية في إصابة أهدافها، وفي إنجازاتها الميدانية بمدة قياسية، مقارنة مع نتائج العمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين يعلنون أنهم يحاربون «داعش» منذ سنة تقريباً. لا شك أنّ للحضور الفعّال على الأرض لحلفاء روسيا، وما يجري من تنسيق وتبادل للمعلومات بشأن مناطق وجود المسلّحين، وكيفية التصدّي لهم، له تأثير هام في هذا النجاح. ويبدو أنّ الإنجازات الميدانية السريعة لروسيا وحلفاءها قد أحرجت الولايات المتحدة التي سارعت لإدخال بعض التعديلات على استراتجيتها سيما داخل الأراضي العراقية خوفاً من تحوّل أنظار الحكومة العراقيّة نحو موسكو طلباً لمساعدتها في مكافحة تمدّد «داعش».


توقعات وتمنّيات

في ما يلي، سوف أذكر بعض التوقّعات نتيجة التدخّل العسكري الروسي التي تبقى في خانة التمنّيات إن لم تتوافر لها الجهود اللازمة لتحقيقها.
على الصعيد السوري أوّلاً، أرى أنّ التدخّل العسكري الروسي سوف يساعد في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وإجهاض مخططات التقسيم وإطالة عمر الحرب التي تسعى إليها الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الإقليميين، إسرائيل وتركيّا على وجه التحديد. وأتوقّع كذلك مزيداً من الوعي، خاصة لدى المواطنين والنخب السورية، لحقيقة الحرب الدائرة في سوريا وأهداف ودور القوى الخارجيّة فيها، وأتمنّى أن يصحب ذلك إدراك لخطورة الخطاب السياسي الذي يستظلّ الدين وقد شكّل ويشكّل السلاح الأفتك في التمزيق الاجتماعي والمآسي التي يعاني منها كلّ مجتمع يطاله هذا الخطاب، فتتجه الجهود لوضع وتبنّي خطاب سياسي عقلاني وطني ضامن لوحدة المجتمع وقوّة الوطن وحافظ لحقوق جميع المواطنين من دون استثناء. وأتوقّع كذلك تطوّراً يدفع ببعض الدول العربية لإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا ومزيداً من الوعي والتقدير الشعبي العربي للتضحيات وللدور الذي تلعبه سوريا في دعمها المقاومة والحقّ العربي في فلسطين. على صعيد إقليمي، أتوقّع اهتزاز الثقة ببعض الدول والأنظمة العربية، وبخاصة تلك التي شاركت بفعاليّة في تدمير سوريا وسواها، والتي عملت بجهودها وأموالها ووسائل إعلامها على تنمية الخطاب الديني ولهويات المذهبية وحركات الإرهاب التكفيري، وقد نرى سقوط بعض الأنظمة فيها. بالنسبة للولايات المتحدة أتوقّع توسيع دائرة الوعي للدور الأميركي في تنمية الإرهاب وتوظيفه في تمزيق النسسيج الاجتماعي في معظم الدول العربية، خاصة تلك المناهضة لإسرائيل. وكذلك أتوقّع إضعاف الدور الأميركي إقليمياً ودولياً خاصة إذا استمرّت في الدفاع عن إسرائيل في كل ما ترتكب من جرائم فضلاً عن إظهار واشنطن بأنّها لا تحترم القانون الدولي وتعمل على تقويض الأمم المتحدة.
بالنسبة لروسيا أتوقّع أن يحصل بعض التعديل في مواقف بعض دول الحلف الأطلسي، وكذلك بعض الدول الإقليمية وتعزيز الدور الروسي والصيني على صعيد عالمي.
* أستاذ في القانون في جامعة «جورجتاون»