تصادف هذه الأيام ذكرى مرور ستة قرون بالتمام على احدى أشهر معارك التاريخ: موقعة أجينكور التي احتدمت بين الجيشين الانكليزي والفرنسي في 25 اكتوبر 1415، وانتهت بإبادة أفواج الخيالة الفرنسية الثقيلة، وزهرة الارستقراطية الملكية، على يد رماة الأسهم الانكليز والويلزيين ــــ يتقدّمهم، راجلاً، ملكهم هنري الخامس الذي رفعته حملة اجينكور الى مصاف الأسطورة في المخيال القومي البريطاني.
في التاريخ العسكري، ترمز أجينكور الى انتصار السهم على الدّرع والحديد، وهي جزء من سباقٍ عسكري قديم يضع، تكراراً، القوّة الصلدة (السيف مثلاً) في وجه المقلاع الخفيف، والتحصينات في مواجهة المدفعية، والدبابة ضد الصاروخ الموجّه الخ… في أجينكور، مال الميزان معلناً نهاية أربعة قرون من هيمنة الخيالة المدرّعة على مسرح الحروب. لم يثبت القوّاس الماهر، المزارع ابن الطبقات الفقيرة، بأنه قادرٌ على هزيمة الفارس النبيل فحسب، بل أنّ هجمة الخيالة الأسطورية صارت انتحاراً في وجه تشكيلاتٍ منظّمة من الرماة (قُتل أكثر من 8000 فرنسي مقابل مئات الضحايا الانكليز).
تبدأ جولييت باركر كتابها الممتع عن المعركة بشرحٍ لصعود نظام الخيالة الثقيلة. حين احتلّ النورمانديون انكلترا، مع «وليم الفاتح» اثر معركة هاستينغ، دشنوا نمطاً جديداً في استخدام الخيالة: بدلاً من استغلال سرعة الأحصنة للاقتراب من العدو ورمي الرماح القصيرة عليه ثم الانسحاب، صار الفارس يضع رمحاً ثقيلاً تحت ابطه، ويعتمد على وزن الحصان وطاقته الحركية لاختراق خطوط المشاة وتروسهم. وحين تضع آلاف الفرسان المدرّعين جنباً الى جنب، ويتسارعون سوية صوب خطوط العدو، تصير الهجمة كالسيل الذي يستحيل ايقافه (تنقل باركر شهادة نبيلة معاصرة، وصفت صولة الخيالة بأنها قادرة على «خرق أسوار بابل»). من هنا ولدت ثقافة المبارزة بالرمح ومسابقاتها، التي تعلّم الفرسان الانضباط الفائق، وكيفية توجيه حصانهم وسلاحهم بدقّة؛ ثمّ زوّد النظام الاقطاعي الجيوش الملكية بآلاف النبلاء القادرين على احتراف الفروسية (وتحمّل أكلافها) والتدرّب منذ الصغر على الخيل والقناة.
في الثلث الأول من القرن الرابع عشر، أعلن الملك الانكليزي ادوارد الثالث انه يملك الحق الوراثي في حكم مناطق واسعة من شمال فرنسا، وأن انتقال العرش فيها لم يجرِ على نحوٍ شرعي. هكذا ابتدأت حرب المئة عام، حيث جعل ادوارد شعاره الرسمي «(من أجل) الله، وحقّي»، وأرسل الى غريمه، الملك فيليب السادس، رسالة تهديد مقتضبة ينهيها برجاءٍ لتجنّب الحرب «بحقّ جسد يسوع المسيح، أعد (لي) ما تدين به»، ثمّ شنّ الحملة الانكليزية الأولى في فرنسا.
بعدها بنصف قرن، كان حفيد ادوارد، هنري الخامس، يتحضّر لشنّ أشهر الغزوات الانكليزية في الحرب، وكان رماة السهام هم سلاحه «السري». عام 1410، قبل المعركة بخمس سنوات، أصدر هنري الرابع أمراً يلزم كلّ الرعايا بين سن السادسة عشرة والستين بتعلّم الرماية على القوس الطويل. كان عليهم أن يذهبوا، كل يوم أحد وأيام الأعياد، للتدرّب على رمي السهام في ميادين خصصت لذلك. الاعتماد على مهارة العامّة (وانتاج الاف الرماة المحترفين) كانت الوسيلة الوحيدة لمواجهة ارستقراطية فرنسية ضخمة، بإمكانها أن ترسل الى الميدان أعداداً من الفرسان والمشاة النبلاء المدرّعين لا يقدر العرش الانكليزي على مجاراتها.
لم يكن استخدام القوس أمراً سهلاً، وتلزمه سنوات من التدريب، غالباً منذ الصغر، قبل أن يتمكّن الفتى من استخدام القوس الطويل بحجمه الكامل. القوس هنا ليس أداةً للصيد، بل سلاح حربي طوله يقارب المترين، وتلزمه قوّة ضغطٍ تفوق الخمسين كيلوغراماً لإطلاق السهم الواحد. والرامي الماهر قادرٌ على اصابة هدفٍ به من ثلاثمئة متر، وخرق درعٍ معدني من مئة متر. حتى يُقبل بالجندي كرامٍ محترف في الجيش، كان يفترض به أن يطلق، على الأقل، عشرة أسهمٍ موجّهة خلال دقيقة من الزمن؛ والرامي الماهر كان يطلق عشرين، والمعدّل في معركة أجينكور كان 15 سهماً في الدقيقة. كانت السهام تباع في رزمٍ من 24 سهماً، والرامي يحمل في المعركة ما بين 60 و70 رميةً، يطلقها جميعها في «قصفٍ» محمومٍ يستغرق أقل من ست دقائق (وضمن تنسيقٍ معقّدٍ مع نظرائه يقرّر وتيرة الاطلاق والمدى).
تكشف باركر في كتابها عن تحضيرات العرش الانكليزي للحملة، وسبل استقدام الأخشاب وريش الأوز لصنع كميات ضخمة من السهام (كانت كلفة السهم الواحد تعادل دولارين بأسعار اليوم، والحملة بأكملها استلزمت مئة مليون دولار). حين وجد هنري الخامس نفسه أمام الجيش الملكي الفرنسي، وهو أكبر من جيشه بخمسة أضعافٍ على الأقل، كان الامتياز الوحيد الذي حرص عليه هو في أن يموضع قواته بين غابتين، حتى لا يتمكن الخيالة الفرنسيون من الالتفاف على رماته واجبارهم على عبور الوادي الضيق في مواجهة صلياتهم.
حين انطلق هجوم الخيالة الفرنسية، وخلفهم الاف المشاة المدرعين (بينهم، ايضاً، عددٌ كبير من النبلاء)، في الحقل الموحل قرب أجينكور، انهمر عليهم ما معدّله خمسة وسبعون الف سهم في الدقيقة، بحسب تقديرات باركر. وحين انكسرت الموجة الأولى من الفرسان وعلق المشاة في الوحول بين الأحصنة الهائجة وسهام الانكليز، كانت المعركة قد انتهت فعلياً وما تبعها محض مقتَلة. قبيل المعركة، تعاهد 18 نبيلاً فرنسياً على أنهم سيشقون طريقهم الى الملك هنري شخصياً، ويضربوا عن رأسه التاج المزيّن بزهر الزنبق (وهو شعارٌ مستفزّ يرمز الى ادعاء الملك الأحقية بعرش فرنسا). الشبان الـ 18 تمكنوا بالفعل من الوصول الى موكب الملك، وقد قتل آخرهم وهو يسدد ضربة أطاحت احدى الأزهار عن تاج هنري.
(تقول خرافة شعبية أن شعار النصر - V - نشأ اثر أجينكور. اذ أمر الملك الفرنسي الحانق بعد المعركة بأن كلّ انكليزي يقع في الأسر تُقطع سبابته والوسطى، حتى لا يتمكن من الرمي بالقوس مجدداً. فصار الجنود الانكليز، حين يشاهدون خصومهم عبر خطوط الجبهة، يرفعون الاصبعين لهم استفزازاً).