السؤال الأول المطروح عليّ يدور حول موقع الحراك من الحركات الاحتجاجية خلال وبعد الحرب الأهلية... ما يفترض تحديد ماهية هذا الحراك قبل تحديد موقعه.
I



من الاجتماعي الظرفي... إلى السياسي الثقافي

* قضية الحراك الأولى (الوحيدة؟) هي النفايات التي لولاها لما بدأ هذا الحراك. ما يعني أنه لو كان هناك «خطة ب« (مثلاً للكهرباء والماء والتلفون، «موتورات« الزبالة أو «صهاريجها«) عند اللبنانيين، لما كان هذا الحراك... بالتالي الحراك في بدايته اجتماعي ظرفي...

وجود «طلعت ريحتكم« الناشط أمّن وعاء عندما طفح الكيل عند الناس، عند المواطنين العاديين وصولاً إلى قواعد الاحزاب كافة... أي عندما شعروا جميعهم أن الزعماء (زعماؤهم الذين أعطوهم كل شيء... حتى شرفهم!) قد غدروهم، وبالزبالة هذه المرة... عندما خافوا أن تبقى الزبالة في شوارعهم أو في... بيوتهم! في 29 آب، جزء من هذا الجمهور العريض شكّل مادة الحراك البشرية وربما أكثريته... والحراك كان قد أمّن له قبل أسبوع «وعاء« سمح له بإيصال صوته للمطالبة بفك حصار الزبالة عنه وعن أولاده. بهذا التفاعل في الاتجاهين بين طرفين، أي الحراك والرأي العام، صار الحراك – وعى ذلك أم لا - سياسياً ولو بالمعنى الثقافي.
* لعب أيضاً الحراك في أزمة النفايات دور المحمض (revelateur)... أو ظهّر إذا شئتم ما آلت إليه حقبة كاملة من اللامحاسبة امتدت برأيي على طول 40 سنة (15 سنة حرب و25 ما بعد الحرب)... وماذا يبقى من أي نظام ولو مثالياً – حتى لو حكمه الله - بعد 40 سنة من اللامحاسبة؟ فكيف بنظام زعمائنا المافيوي (تقاسم مناطق نفوذ، دور أمني مزدوج من الحماية إلى الابتزاز، خلافات تحل حول «الطاولة«) الذي نهش الدولة مرة أولى خلال الحرب ثم لم يردعه استيلاؤه عليها عن تفكيكها مجدداً... بل بالعكس.

المافيات والغضب الشبابي

* أياً يكن، دلّ هذا «التحميض« (أو «التظهير«) على ظاهرتين فاقعتين لم نكن نوزّنهما في حياتنا وتحاليلنا كما يجب قبل الحراك:
1) كشف الحراك إفلاساً مبرماً لطبقة سياسية بكاملها قائمة منتظمة حول المحاصصة والفساد، كنّا نعرف أنها مافيوية، اكتشفنا الآن أنها «دوّدت«. طبقة يُرمز إليها بعدد من الزعماء (من 2 إلى 8، كما تريدون) و/أو بألقابهم... كشف أيضاً كم صاروا ليس فقط معطِّلين لشؤون الوطن (وهو أمر مسلّم به)، بل أيضاً معطَلين (أي أنهم باتوا لا يرون ولا يسمعون حتى «جماعتهم«). لا أستهين هنا بقوتهم (استغفر الله) ولا بقوة أحزابهم وموازناتهم ومصالحهم وطوائفهم... التي هي هي. فقط أقول الآن أنهم فقدوا حيويتهم، وأنه طبيعي أن يحدث ذلك بعد 40 سنة لم يختلفوا ولم يتفقوا إلا بين بعضهم البعض... والبحث يطول حول مسؤولية كل فئة أو مسؤوليتهم المشتركة. اقترحت على LBCI تنظيم مسابقة بين الزعماء مع سؤال واحد: «ما مسؤوليتك أنت وليس الزعماء الآخرين بما آلت إليه أوضاع البلد؟«.
2) كشف الحراك أيضاً عمق غضب الشباب اللبناني المقيم (العاجز عن الهجرة؟)، شباب 20 و30 و40 سنة... وقد نصل إلى «شباب« عمرهم 60 سنة، فهؤلاء كان عمرهم 20 سنة عندما بدأت الحرب وتعطلت البلد (ومن الملفت هنا أن استطلاعات الرأي تعطي أكبر نسبة لتأييد الحراك أي لرفض طبقة المحاصصة والفساد بين الفئة العمرية الأكبر أي فوق الـ55). ما يعني أن هناك غضباً مجتمعياً عارماً يحضن غضب الشباب في الشارع. وهذا الأخير جذري ومقدام، لا يريد أكثر من «حياة كالحياة« ويراها تبتعد منه (ومن أهله) كل يوم. مزاجه يشكل نقضاً مطلقاً لحكم الزعماء (ابن الـ20 يقول إنهم خطفوا منه 20 سنة من عمره، وابن الـ30 ثلاثين سنة، ولولا الحياء لقال «الشاب« الأربعيني 40 سنة...). نحن أمام زلزال جيلي كبير، هوة عميقة بين لغتين وعالمين... المشكلة أنه بعد مرور أكثر من شهرين على بداية الحراك، لست متأكداً أن طبقة الأصنام فهمت ما حدث. في كل الأحوال، لم يتوجه أحد من هؤلاء الأصنام إلى هذه الشبيبة بل وجّهوا عليها كل أنواع «أسلحتهم« (بعد «الترحيب« به... ولكن) فيما تحاول الفئة الأوعى من الناشطين توجيه هذا الغضب «الجيلي« (الذي تتمناه السلطة عنيفاً لعزله) نحو المحاسبة، نحو المحاسبة الغاضبة أو نحو الغضب المحاسب (دون تقويم الآن ماهية هذه المحاسبة أو عمقها...).
هنا تكمن برأيي عبقرية شعار «طلعت ريحتكم« التي ربطت بين قضية الزبالة وإفلاس الطبقة وغضب الشباب.

الإحتجاج بعد الحرب وخلالها

أناقش الآن مسألة موقع الحراك من الحركات الاجتماعية خلال وما بعد الحرب... سأكتفي بالتأكيد باختيار بعض النماذج:
أ - أبدأ بما بعد الحرب، وإذا شخّصنا الحراك بأنه مطلبي... في نهاية الحقبة التي نعيش، دخل نمط التحكم بالبلد (وبنا) مرحلة التعطيل والإفلاس. وبسبب طبيعته هذه، بقي الكثير من قضايا هذه الحقبة بحكم العالقة. من الأقرب إلى الأبعد، أسئلة مثل التي طرحها أهالي المفقودين في حملة «40 الحرب« (حكام لبنان وينكم؟ مواطنو لبنان ويننا؟...) قبل أشهر قليلة تدل عن مزاج قريب من مزاج الحراك. كوادر الحراك الأساسية خاضت معاً تحت اسم «الحراك المدني للمحاسبة« نضالات السنوات الأخيرة ضد التمديد وغيرها... ما ساهم في ترسيخ الصفوف بينهم. قبل ذلك، هؤلاء وغيرهم عاشوا تجربة أولى غنية عام 2011 (إسقاط النظام الطائفي) استخلصوا منها خبرة وعبر. الحراك أيضاً هو نتاج مأزق نضال نقابي عريض دام سنوات حول السلسلة ولم يؤدِّ إلا إلى تكتل طبقة المحاصصة والفساد نفسها (التي يتكلم عنها الحراك) ضد حنا غريب (اليوم هو رمز من رموز الحراك). الحراك نتاج أيضاً ما آلت إليه خندقة 8 و14، كما يقول الناشطون («14 و8 عملوا البلد دكّانة«)، من دون نسيان «ثقل« الوضع السوري السياسي والمجتمعي و«القراءة السعودية – الإيرانية« لأبسط الأمور... وقبل ذلك إن شئتم في ذاكرة الحراك، «بلدي بلدتي بلديتي« كنموذج لحملة خلّاقة أحبها الناس وحققت إنجازاً... وحصلت على 70 ألف توقيع خلال 6 أشهر في حقبة ما قبل الإنترنت.

تقلقني دائماً في لبنان الأرض الملغومة، والمستنقعات الممزوجة بالنفايات والفساد



ب - الآن، خلال الحرب، وإذا شخصّنا الحراك هذه المرة بأنه سياسي، من المهم التذكر بأن الثمانينيات شكلت نقلة نوعية في العمل الاحتجاجي ضد الحرب وأحياناً ضد الميليشيات (التي صارت عبئاً على الناس). هناك حقبتان: 1983-1984 حيث صارت كل بيانات الاتحاد العمالي تبدأ بمطلب إيقاف الحرب، كما أذكُر إيمان خليفه أستاذة ما كان يعرف بالـBUC، وكيف «تملكت« معبر المتحف... كما أذكر إقفال المعابر من قبل أهالي المفقودين خلال أيام عدة بعد انتحار نايفة نجار (1984). ومن بعد حقبة عامي 1987 و1988 بدءاً بـ«مسيرة المعوّقين من أجل الوحدة والسلام« من حلبا إلى صور... وصولاً إلى الإضراب العمالي العام، وقتها بقيادة أنطوان بشارة والذي دام 6 أيام وحيث تحولت «هيئة تنسيق« آنذاك إلى «ناطق باسم الشعب«.
برأيي (مع فارق الظروف والوسائل) أقرب شيء مما يحدث الآن... حملة «الرئيس الحل« في نهاية عهد أمين الجميل، وقبل الوقوع بالفراغ الرئاسي (حتى انتخاب رينيه معوض) والتي حملت برنامجها (أول نقطة فيه «حل الميليشيات«) إلى كل لبنان (تحت الاحتلال الإسرائيلي وتحت الهيمنة السورية وتحت رحمة الميليشيات) والتي جمعت 50 ألف توقيع خلال شهرين قبل عهد الإنترنت...
أركز على نضالات الثمانينيات السياسية لأن ميزتها المشتركة أنها قاربت الميليشيات ككتلة واحدة (شيء يشبه مقاربة الحراك اليوم لـ«طبقة المحاصصة والفساد«). إنه تكتيك يفاجئ «الخصم الجماعي« للوهلة الأولى (لأنه متمترس ومتموقع ضد بعضه البعض)... قبل أن يعود وينتظم لمحاربتنا... وفي الوقت نفسه، هذه المقاربة («البنيوية« إذا صح التعبير) أمنت وتؤمن حصانة وخط دفاع (ولو موقت) لهذه الحركات كما للحراك اليوم... في حقل ألغام الحرب وفي حقل النفايات اليوم... يبدو أنه أسهل لهذه الحراكات مقارعة جميع الأطراف من محاربة طرف واحد.

II


هذه هي الجذور إذا صح التعبير، ولكن الأهم هو الجديد. وأود أن أتطرق إليه قليلاً الآن في السؤال الثاني المطروح: هل تعدد المجموعات وتوجهاتها الفكرية والسياسية تصب في مصلحة الحراك، ولماذا؟

Los indignados

دعوني أوضح بداية أن الصحافي المتقاعد يرى في الحراك اللبناني شكلاً من أشكال حراكات عرفناها في الـ5 أو 6 سنوات أخيرة تحت خانة ««los indignados أي الغاضبين أو الساخطين (وقد غطيت بعضها)، وقد رأينا نماذج عنها في البرتغال (2009 و2010) وفي إسبانيا وفي إسرائيل (2012) وفي البرازيل خلال كأس العالم (2014) وفي اليونان... الميزة المشتركة لكل هذه الحراكات الداخلية (بطبيعتها لأنها لا تحمل «هوية«) أنها تحدث تحت ضغط أزمة اقتصادية من نوع جديد و/أو فضائح فساد، في مجتمعات مخندقة تقليدياً و/أو حزبياً (وقد جرّبت كل الأحزاب دون جدوى)، ما يؤدي إلى فقدان المرجعيات أو البوصلة التقليدية لدى الرأي العام يفقد وإلى خلخلة الأطر التي كان ينتظم حولها... هي حركات دون رأس و/أو مع رؤوس عدة... ويلعب فيها التواصل الاجتماعي دوراً يتخطى دوره كمجرد وسيلة اتصال... أكتفي بهذا الحدّ وأضيف فقط أن هذه الحراكات بسبب طابعها المضخم والمتعدد والظرفي وغير المنظم إما ننجح بالتحول إلى قوة ثالثة (كما حصل في إسبانيا أو اليونان) أو تتلاشى (من يتذكر ما بعد حراك إسرائيل الذي بدأ حول أزمة السكن؟).

فوارق في أنماط العمل

أعود إلى لبنان، حيث لحراكنا الغاضب ميزة شبابية في قرصه الصلب وقد عَبَرَت المجتمع كالتيار المكهرب، وحررت اللغة، والبعض علّق على هذا التيار قضايا أخرى كانت بقيت عالقة (في 29 آب تحديداً).
أنا لا يقلقني تعدد المجموعات (وهي سمة عامة لهذا النوع من التحركات الغاضبة) وقد أجد ووجدت فيها أوجهاً تغني الحراك. في الحراك المركزي – البيروتي إذا شئتم – هناك 6 أو 7 أو 8 أو 9 «مجموعات شبابية« حسب كيفية تصنيفها... حسب نمط تشكيلها، انطلاقاً من صداقات و/أو نضالات سابقة، أحياناً انطلاقاً من ائتلافات «حزبية« تقليدية أو جديدة. هناك أيضاً أطر من طبيعة مختلفة كـ«المفكرة القانونية« التي أراها مثل «الأخت الكبيرة« للحراك (لا تشبه «التيار النقابي المستقل« – حنا غريب، أول ضحية لطبقة المحاصصة والفساد الذي لا يشبه بدوره «فرح العطاء« – أحلى عطاء للحراك)... والحركة البيئية تدخل وتخرج من الحراك حسب قانون خاص بها. وقد تقصدت السلطة وأعوانها شقها واستخدامها ضد بعضها البعض وضد الحراك! ولم يعرف الحراك التعاطي مع هذه الظاهرة... يحاول الحراك تنظيم صفوفه وقد نجح (إلى حد) بعد 22 آب في تنظيم «الفوضى الخلاقة« وفي إيصال «عربة المجموعات« تقريباً سالمة حتى المحطة الحالية. وهو جهد يجب أن يستمر لتحسين التنسيق والشفافية، احتراماً لكل من يثق بنا ويحضننا.
سأزعّل أصحابي في كل المجموعات على الأكيد إن قلت أني لم أجد فيها هذه التوجهات الفكرية والسياسية التي يوحيها السؤال... أولاً لأن في الحراك لا وقت لها. وثانياً لأنها إجمالاً هويات ما قبل حراكية. وحتى المجموعات التي ولدت مع الحراك فليست اليوم كما كانت قبل شهرين. هناك في المقابل، فوارق في أنماط العمل وهو ما شكل حتى الآن محور النقاشات ومادتها.

مصادر القلق

هناك أشياء كثيرة تفرحني وتطمئنني في الحراك، ولكن لن أحدثكم الآن إلا عما يقلقني (احتراماً لصرح العلوم السياسية الذي يجمعنا اليوم) ومكتفياً الآن بالعناوين، نعود إليها إذا شئتم في المناقشة.

1 ــ في الحراك

يقلقني أحياناً التهاء المجموعات بنفسها وبتنافسها. وإذا اختلفت بين بعضها، أكيد أنه سنصل إلى مشكلة. ولكن إذا اتفقت، أحياناً يوجد مشكلة أيضاً لأن النقطة التي يتفقن حولها قد لا تهم الجمهور العريض. وإذا صح أن 29 آب هو نقطة تقاطع لا نقطة التحام، فمن الممكن ألا يملك الحراك أدوات كافية لفهم أو تأطير ما يطلبه هذا الجمهور الذي تقاطع معه يوماً. والأهم من كل ذلك، ما سبق ينطبق بنسبة مضاعفة على الجمهور الأعرض – أي الشعب اللبناني - الذي هو حاضن الحراك (لأنه غاضب أيضاً على طريقته) دون أن يشارك بنشاطات الحراك (حتى بداية تشرين، 15% من المستطلعين كانوا قد شاركوا ولو مرة بنشاط من نشاطات الحراك).
للأسف حراك «عالم المجموعات« لا يعرف الكثير عن هذا الجمهور العريض ولا يقدر حقيقة «الكوة« التي فتحها الحراك ككل. كل جهده موجه لتحقيق «انتصار« في ملف النفايات... مع أن المطلوب «متابعة« خلاقة للملف الذي لن يؤدي بالضرورة إلى «انتصار« ونقطة عالسطر... فقد سبق وحققنا الكثير في هذا الملف بالذات. مطلوب مع أننا حققنا الكثير. برأيي، هناك أطراف في الحراك لم تستوعب بعد الكفاية انه، وحتى هذه اللحظة، عندما يخيّر هذا «الشعب المستطلع«بين «طبقة الفاسدين« و«الحراك«، ما زال يختار الحراك لأسباب تتخطى أو تخطت أزمة النفايات. هذه مسؤولية كبيرة وكبيرة جداً، يرهبني أن الحراك لا يوزّنها كما يجب.
- النزعة الفردّية تقلقني أيضاً. أمضينا يومين نرد على نقولا شماس؟! وتطلّبت جهداً إعادة الحراك إلى النفايات.
– يقلقني صعود الذكورية في العلاقات ولو قرأت النساء البيانات. مع أن المشاركة النسائية كانت وما زالت مميزة في هذا الحراك... ومع أن الحراك بأمس حاجة إلى صفات «نسائية« لا أقول نسوية، وغير مهم صراحة جنس من يحملها.

2 ــ في توسيع الحراك وتعميقه

يقلقني عدم استعداد (بمعنى التجهز) الحراك لاستقبال آخرين، حلفاء وجدوا قبله مثل الدالية أو المعوقين أو المفقودين أو النضالات النقابية القطاعية أو هيئات محلية أو مستقلين أو مبادرات فردية... أو استقبال كل ما هو قادم... إذا كتب للحراك أن يستمر... وعليه أن يستعد.
تقلقني إشكالية التطور المناطقي. ما الذي يعمق الحراك في المناطق؟ أن تفتح مثلاً طرابلس «ملف المحاصصة والفساد« في طرابلس أو أن «تلتحق« بالحراك المركزي؟ والباب الغليظ الذي نجحنا في شقه في بيروت لا يجب أن ينسينا وجود أبواب ليست أقل غلاظة في كل منطقة، ومهمة شقها ليست أسهل (بالعكس) من شق الباب البيروتي، وإن أصبحت أسهل من قبل بعد شق الباب المركزي. ويقلقني السؤال التالي «هل طرابلس تستطيع أن تحاسب طرابلس إن لم تحاسب بدورها النبطية النبطية؟«. وفهمنا جميعاً الكفاية عن أرضنا الملغومة الخ... كل ما أنا متأكد منه أن الحراك في الحقبة المقبلة إما أن يكون لامركزياً أو لا يكون... وعليه أن يجد صلة وصل
تقلقني أيضاً إشكالية التعمق القطاعي، خصوصاً الجامعي. كيفما أنظر إلى الحراك، أفكر بالجامعة اللبنانية... ولو كانت معافاة، لكانت معمل الحراك 7/7 و24/24... متى ستفتح الجامعة اللبنانية ملف الجامعة اللبنانية؟ متى سيفتح التعليم الرسمي ملف التعليم الرسمي؟ متى سيُفتح ملف المحاصصة والفساد في الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي؟ يقلقني غياب (حتى اللحظة) حراكاً طلابياً وجامعياً... حتى في الجامعات الخاصة، الحراك في بدايته وليس بديهي التعويض بسحر ساحر عن غياب نضالات وطنية طلابية منذ أربعة عقود. في المقابل، ومن ضمن القطاعي، علاقة اتحاد المقعدين أو حملة الدالية مع الحراك (مبادرة في ملفها ومشاركة في الملفات الباقية) تبدو لي صحيحة وصحية...

3ــ في مقاربة الوضع العام

مع حراك أو من دون حراك، تقلقني دائماً في لبنان الأرض الملغومة، المستنقعات الممزوجة بالنفايات والفساد والطائفية. عمر الحراك شهران وقد انفجر فيه عدد لا يستهان به من الألغام... وما زال موجوداً في العاصفة التي تحاول السلطة إغراق فيها الحراك، تبسيط المقاربة أحياناً ضروري ولكن لا يجوز أن يغني عن تعميق القراءة... المقاربة البنيوية لن تخدم إلا لحقبة محدودة ولن تعوض بعد الآن فقدان «العقل« الجماعي لمواكبة المرحلة، علينا أن نفكر على الأقل «يومين إلى الأمام«.
- وتقلقني أخيراً وليس آخراً إشكالية الدولة أو (وهذا أدق) «ما تبقى من الدولة«، وكيفية التعاطي مع هذا الباقي؟ سؤال مربك للبنانيين بشكل عام وللحراك بشكل خاص.

III



أن تعيش «البنّوت« ستة أشهر

أنتقل إلى السؤال الأخير: أي مستقبل للحراك وضمن أي أطر؟ وأعدكم بجواب أقصر.
أولاً - لا مجال للتنجيم حول مستقبل الحراك، فالكثير يتوقف على الخصم وعلينا أيضاً. ولا أجوبة شفافة بعد، فنحن مثلهم نتاج «حقبة 40 سنة من دون محاسبة«. في أول الحراك، بدأنا بالقول «المهم ألا نخلق إحباطاً جديداً، المهم ألا نبّعد من الشأن العام بدلاً من أن نقرّب منه«. أعتقد (أتمنى) أننا اجتزنا هذه المرحلة... حتى لو انتهى الحراك قبل أسبوع لدينا أسباب كافية لئلا نُحبَط ولكي نستمر ونتطور. بعد أسبوعين، تجرأنا القليل وصرنا نقول: «بدنا الولد يعيش 6 أشهر«. «البنوت« صححت لي ناشطة نسوية من الكورة. فليكن: أن تعيش «البنوت«، أن يعيش الحراك... هذه مسؤولية كل واحد منا، لأننا نعلم أن فشلاً ذريعاً للعراك يعني تمديداً آلياً لعشر أو 20 سنة لهؤلاء المحاصصين/الفاسدين... وهذه مسؤولية كل واحد منا أيضاً لأن الحراك أمّن للجميع فرصة لم تكن بالانتظار، وعلى كل واحد أن يملأها الآن، أينما أراد، في الحراك أو خارجه. بعد شهرين، أرى اليوم أن الأهم هو أن ننجح في إيجاد أطر لكي يستمر مبدأ المحاسبة والحقوق... لكي يبقى الحراك موجوداً حتى لو خرج مؤقتاً من الشارع. لكي ننجح في دفن عهر «الفكر الوحيد المتاح« إلى غير رجعة، فكر «اتفاق الزعماء بعد نهاية خلافاتهم«... الذي يتحكم بنا وبمثقفينا وبإعلامنا منذ ربع قرن، ومفاده أنه بعد أن يفضّ الزعماء خلافاتهم أو «مناقصاتهم«، لا يبقى مجال أو فسحة للأمل أو للاعتراض أو للتفكير أو للرفض أو للتغيير... المهم بعد اليوم أن تبقى دائماً فسحة أي خيار آخر للبنانيين... في النفايات وفي الأزمة الوطنية وفي كل شي... قبل وبعد اتفاق الزعماء. وإذا تحقق ذلك، فهو أجمل إنجازات الحراك.

ختاماً كلمة وحيدة: الاستمرارية...

الظرفية في مجتمع مثل المجتمع اللبناني (قائم على عصبيات نائمة وأرضية غير راسخة) ستخسر دائماً أمام الاستمرارية... هي المقتل. الناس سيبتسمون لك، سيتحمسون لك، ثم ينبذونك إن لم تبقَ معهم، خصوصاً في أيام الشدّة الداخلية والمجهول الإقليمي كالتي نعيشها. وكسب ثقة الناس ليس قفزة... إنه مسار قد يتحول بعد وقت إلى نقلة. وفي كل الأحوال، إنه يتطلب وقتاً ووجوداً دائمين من قبلنا... وتأكُداً وتجريباً دائمين من قبلهم... الاستمرارية ليست ألعاب نارية، أيّاً كان لمعانُها، وبعد البريق، ستعود العتمة... فالأحزاب باقية معنا، والطوائف باقية معنا، والمشاكل باقية معنا، ويبقى علينا نحن أن نبقى أبداً مع أنفسنا ومع شعبنا، وشكراً.
(مداخلة في ندوة « الحراك الشعبي، ثورة أو فورة«، ضمن سلسلة «حوارات جامعة« (جامعة القديس يوسف) في 7 تشرين الأول 2015)
* ناشط وصحافي لبناني