كم كانوا رائعين، هل تذكرين؟بقاماتهم الفارعة، أحراراً
وكانوا ينشدون وإلى الأمام يسيرون
حاملين الصاري عالياً، عالياً
غير مدركين أنه بلا راية
يانيس رتسوس


عادتْ السيكولوجية السياسية لليساريين لتصنع «وهماً إيديولوجياً» قديماً جديداً. لم يعدْ بالإمكان ضبط القوى المتناقضة في ثنائية المحافظة على النظام والتكيّف مع التغيير الاجتماعي. لذلك ينبغي تثوير المجتمع عبر حركة احتجاجيّة تدفع النظام الطائفي إلى التهاوي. ترواحتْ المواقف اليساريّة بين توظيف الحراك للضغط على النظام ليصبح أكثر عدالة اجتماعية وأكثر ديموقراطية وأقل طائفية، إلى إعلان نهاية النظام وبداية مرحلة انتقالية، وصولاً لرؤية مسار ثوريّ مشابه لسيناريو 1905 في روسيا بدأ مع الحراك وقدْ ينتهي بثورة بلشفيّة.

تكاد تختصر السّردية اليساريّة المشهد (وهي أقرب للنعيّ منها لتحليل النّظام): شعب في مواجهة نظام طائفي برجوازي متسلط نعيش فصوله الأخيرة. لا تعبّر هذه السّردية عن فهم مشوّه للنظام الطائفي فحسب بل تفتقد أيضاً لرؤية حركات الاحتجاج التي شهدها لبنان في العقود الماضية.


يسار بلا تاريخ

كان لبنان في الحقبة الممتدّة من عام 1964 إلى عام 1975 مسرحاً لسلسة غير متقطعة من الحركات المطلبية والإضرابات. قادتها الاتحادات العمالية، التي كانت شديدة التّسييس وناشطة في القطاعات الاقتصادية المختلفة. بعكس الحراك الحالي تميزتْ الحركات المطلبية بطابعها المسيّس وأهدافها الاجتماعية، رفعتْ عناوين واضحة، انتشرتْ في المناطق كافة وغلبَ على التحركات الطابع التضامني.
بالرّغم من مشاركة معظم القطاعات الاقتصادية في الاحتجاجات، مثل مستخدمي قطاع النفط والنقل العام وشركة الكهرباء والمصرف المركزي، احتلتْ القضية الزراعية واجهة الحركات الاحتجاجية حينها. كانتْ تحرّكات المزارعين واسعة ضد الاحتكارات في الصّناعة الزراعية والاستغلال الذي تمارسه عليهم الشبكة التجارية المالية. اتّخذ نضال الحركات الفلاحيّة أشكالاً مختلفة سلمية وعنفية. في الجنوب اتّسمتْ الحركة الفلاحيّة بالطابع السّلمي، امتنعَ مزارعو التبغ عن تسليم محاصيلهم إلى إدارة حصر التبغ والتنباك «الرّيجي» إلا بعد الاتفاق على شروط تسعير أفضل. حذا حذوهم مزارعو الشمندر في البقاع. لم تكنْ تحركاتهم وحيدة بل تضامنتْ معهم النقابات الزراعيّة في المتن والشوف وعاليه ولبنان الشمالي معلنةً الإضراب الشّامل. تميزتْ الحركة الفلاحيّة في الشمال بطابعها العنفيّ، انتفضَ فلاحو سهل عكار عام 1968 بالسّلاح بدعمٍ من منظمة الصّاعقة الفلسطينية. في طرابلس أحرق المتظاهرون مكاتب اتحادات نقابات الشّمال الموالية للحكومة.

لا تصحّ مقولة اليساريين
عن نظام تسلّطي يقمع شعباً

كان التحرك السّياسي الناشط لطلاب الجامعات ملفتاً في السّبعينيات، إذ باتتْ التظاهرات الطلابية مشهداً يومياً مألوفاً في شوارع المدن اللبنانية يصل حجمها أحياناً إلى 25000 طالب وطالبة. برزتْ الحركة الطلابية كلاعبٍ سياسيّ قويّ وكانتْ الكثرة من طلاب الجامعات مسيّسة على أسسٍ إيديولوجية وتسعى للتغيير الجذري. في عام 1972 شهدَ لبنان إضراباً على المستوى الوطني شمل 16000 أستاذ في التعليم الرّسمي يطالبون بزيادة الأجور والحقّ في التنظيم النقابي والتقاعد.
وضعتْ هذه الحركات الاحتجاجيّة القادة السياسيين والقادة النقابيين موضع تساؤل، مع ذلك لم يحققْ اليسار أو الحركات النقابية أيّ إنجاز ملموس. لم ترتبط المسألة بعدم استعداد البرجوازية اللبنانية بشقيها المسيحيّ والمسلم للتنازل عن امتيازاتها لصالح قضيّة الإصلاح. فصعود اليسار لم يكن انعكاساً للبنية الاجتماعية الطائفيّة المسيطرة ولا تعبيراً عن تحوّلات تلك البنية بل ارتبط الصّعود اليساري بالوجود الفلسطينيّ المسلح والأموال العربية وحرّية الحركة والتعبير السّائدة في إطار النظام اللبناني الطائفيّ. ليستْ المشكلة بالبرجوازية أو الدولة الطائفية إنّما بفهم اليساريين المغلوط للبرجوازية والطائفية ضمن البنية الاجتماعية اللبنانية.

لا سلطة ولا شعب

لا يرتبط تبيان حدود الدولة بفساد النظام السياسي إنّما بالتكوين التاريخيّ للطوائف اللبنانية. في دراسته عن «الإيديولوجية المجتمعيّة» لمجتمع جبل لبنان، لاحظ جان شرف أنّ مبدأ الدولة كسلطة فوقية أمر مستحدث في وجدان الطوائف، يحمل بذاته تناقضاً مع الوجدان التاريخي. تماشياً مع هذا التناقض اتّخذ بناء الدولة مساراً مزدوجاً ومتناقضاً أيضاً. يُعرّفه فريد الخازن «بثنائيّة التركيب»: دولة مركزيّة ونظام سياسي طائفي لا مركزي. الدولة هي الأداة الأساسية للوحدة الوطنية أما النظام الطائفي فهو سبيل تمثيل الطوائف والممارسة السياسيّة. لم يكنْ هذا المسار متوازياً اتّسعتْ الهوّة بين الدولة الموّحدة المركزية والنظام السياسي الطائفي اللامركزي، ضعفتْ المهمّة التوحيديّة للدولة بينما ازدادَ النظام الطائفيّ قوةً ورسوخاً على حساب الدولة. ببساطة، ليستْ الدولة بناءً منافساً للطوائف. انعكاساً لهذا الأمر، تنشد الديموقراطية الطائفية (التّوافقية) إجماع الطوائف الكبرى، وتتحقق شرعية الدولة عبر احترام الاستقلال الذاتي للطوائف في شؤونها الخاصّة، لا تكسب الدولة شرعيّتها عبر الرّضى والقبول الشعبيّ لسلطتها إنّما لأنّها تتنازل عن احتكارها الكامل للسلطة. أنتجتْ هذه الممارسة نمطاً غير عاديّ من توازن النظام، شرعية الدولة هي إلى حدٍّ ما نتاج الاستقلال الذاتي لدى الطوائف. هكذا لا يعود مفاجئاً، بحسب أحمد بيضون، أنْ لا تعكس الحكومة مجلس النواب بقدر ما تعكس المجتمع السياسيّ الطائفيّ. ولا تُلغى المعارضة من النظام بل تدخل إلى الحكومة. أمّا حين يُصاب النظام الطائفي بأزمة بنيويّة لا ينهار بل يُعدّل ليتناسب مع تبدّل أدوار الطوائف.
لا تصحّ مقولة اليساريين (ومعهم الليبراليين) عن نظام تسلّطي يقمع شعباً، فالدولة في لبنان تفتقد القدرة على تحديد العديد من القواعد التي يُفترض أنْ توجّه السّلوك الاجتماعي للناس، أو تنظّم العلاقات الاجتماعية وتحديد وجهة توظيفها بصورة حاسمة. لذلك تعتمد على التركيب المتعدّد الطوائف للسلطة داخل المجتمع لأداء هذه الوظيفة. ينتج عن ذلك دور للنخبة موازٍ بتأثيره دور المؤسسات، وهذا أيضاً يرتبط بالتكوين التاريخي للطوائف في لبنان.
نحن أمام بنية اجتماعية مختلفة تماماً عن مفاهيم اليمين واليسار، لم يصبح الصراع لدينا حتى الآن بين الطبقة العاملة والبرجوازية على فائض القيمة المحقق من العمل، بحسب روبير البشعلاني. لا تزال الطائفة البنية الاجتماعية المسيطرة، والفساد آلية من طبيعة هذه البنية الاجتماعية المسيطرة وفساد النخبة لا يُنتج طائفية، بل فهمُ الفساد ودوره يتعدّى مجرد الإثراء الشّخصي. تلجأ الطائفة في سعيها للسيطرة وضبط أيّ توجّه مخالف داخلها إلى آليات وسيطة تبدو كعمليات رشوة أو فساد، من أهمّ هذه الآليات تقنيّة الواسطة. تمثّل الواسطة في ظلّ الاقتصاد الرّيعي والبنية الاجتماعية الطائفية قناة توزيع الرّيع الذي تحصل عليه الطائفة ككلّ، وتعمل على توزيع الريع بحسب عدل الشرائح العليا من الطائفة بما لا يضمن العيش الكريم خارجها. لذلك أيّ صراع اجتماعيّ بظاهره أو بباطنه لنْ يطول به الأمر حتّى ينقلب إلى صراع طائفيّ. لكن انتظام عمل الطوائف مرهون باعتمادٍ دائم للتسوية السياسيّة والتوافق الطائفيّ بلا ضغوط إقليمية. سبق لمالكوم كير ملاحظة أنّ «الديموقراطية الطائفية ستنهار عندما تصبح الحلول بالتراضي أمراً مستحيلاً بسبب الضغوط الخارجيّة». في ظرفنا الحالي تقترن الضّغوط الخارجية بأزمة داخلية تطال أدوار الطوائف المتخصّصة، بحسب عبارة أحمد بيضون، التحرير الشيعي في مواجهة الإعمار السّني. لا صراع داخل الطائفتين السّنية والشيعية من أجل القبض على مقاليد السّلطة الاجتماعية والتمثيل السياسي، فلا «تيار المستقبل» يواجه معارضة حقيقية ولا تمثل «حركة أمل» في انهيارها البطيء تحدياً أمام سيطرة «حزب الله» الشاملة. كلاهما مدرك فشل الاعتماد على فرقاء من داخل الطائفة الأخرى، فالقوّة الطائفية لا تُجيّر في زمن الأزمات. كلاهما ينال دعماً خارجياً هائلاً من مشروعين يتقاتلان في معظم دول الإقليم.
تعاني كلتا الطائفتين من زيادة سكانيّة كبيرة وتوزيع غير كفوء للريع بالتوازي مع مشكلة حقيقية أنّ الرّيع لم يعدْ كافياً. تبدو المشكلة في إعادة توزيع الرّيع داخل الطائفتين وكيفيّة زيادة مصادر الرّيع. المعضلة الفعليّة حين تسعى أيّ حركة لتعديل آلية توزيع الرّيع عبر تجاوز الطائفة، فذلك يعني في البنية الطائفية أمراً واحداً خلط الاجتماعي بالمذهبيّ، فاحتمال حرب طائفية.
السّنة والشيعة أقوياء والطائفة القوية ضعيفة في البيئة اللبنانية. مزيد من التسلح لنْ يقترن بعودة السنّة إلى المجال الذي كان يحمي المقاومة قبل التحرير، في المقابل لنْ يتمكّن «الإعمار السّني» مهما بلغَ له من إشاعة ضمان السّيطرة على التنظيمات السّلفية ولنْ يتمكّن أيضاً من استمرار احتكار الإنماء ومواقع السّيطرة الفعلية في أذرع السّلطة الحقيقية. أمّا التسوية السياسية والتوافق الطائفي فرهن معركة إقليمية يُعتبر «حزب الله» ركناً رئيسياً فيها. تُساهم تسوية إيرانية سعودية بإعادة انتظام العلاقات بين السّنة والشيعة في لبنان ضمن تسوية مقبولة للطرفين. قد تعني هزيمة المشروع السّعودي في السنوات المقبلة تبدّلاً كبيراً في أدوار الطوائف اللبنانية، تستكمل فيه الطائفة الشيعيّة إنجازات هائلة حققتها بعشرات السّنين مقارنة بمئات السّنين في تجارب الطوائف الأخرى.
* باحث لبناني