حسام تمام *«النكسة» و«ضرب اليسار» مقولتان شهيرتان في تفسير الصعود الإسلامي في مصر والعالم العربي. ساد القول بهما، واستقرّا في غالبية الدراسات والأدبيات في حقل الإسلام السياسي، على الأقل في الحالة المصرية، وهي التي انتقلت منها «الصحوة الإسلامية» إلى بقية الوطن العربي والإسلامي. ويبدو أن المقولتين بحاجة إلى قراءة جديدة، إن لم يكن مراجعة جذرية.
يبالغ الباحثون في تقدير حجم تأثير النكسة (هزيمة 1967) في صعود الإسلام السياسي أو انبعاثه في موجة ثانية غير الموجة الأولى التي كان يمثّلها الإخوان المسلمون. حتى بدا الأمر كأننا أمام مشهد مسرحي يزخر بطقوس الإشارات والتحولات. فما إن تقع النكسة حتى تنطلق الإشارة إلى الجموع والحشود بالتوجه إلى السماء بدلاً من الأرض التي أخلدوا إليها، فتفتح أبواب المساجد التي كانت قد أغلقت أو هجرها الناس، وتخرج كتب الدين من مخابئها وتدور عجلات المطابع بالمزيد، ويصطف الخلائق يبتهلون ويصلون ويجأرون بالدعاء إلى الله ويدخل الناس ـــــ بعد سنوات الإلحاد أو العلمانية ـــــ في الإسلام السياسي أفواجا... ثم يكتمل التحول بصعود السادات إلى السلطة وصراعه مع اليسار الذي ألجأه إلى اصطناع الجماعات الإسلامية في الجامعات، التي كانت بداية كرة الثلج التي سرعان ما نزلت تجتاح الأخضر واليابس وتملأ الأرض إسلاماً سياسياً بعدما مُلئت ـــــ زمناً ـــــ أيديولوجيات وأفكاراً غير دينية أو معادية للدين!
إذا توقفنا عند المقولة الأولى، يمكننا القول إن التفسير السائد بأن النكسة كانت المسؤولة عن ظاهرة العودة إلى الإسلام أو المد الإسلامي، وأنها كانت الجدار الذي انكسر فأخرج لنا المارد الإسلامي من القمقم، تبدو بنظري، وبتعبير أستاذنا عبد الوهاب المسيري، أقل قدرة على التفسير، فضلاً عما تستند إليه من قراءة خاطئة للحقبة التي سبقت النكسة ووضع الإسلام فيها.
ومهما قلنا عن تأثره بالأفكار القومية والأيديولوجية الاشتراكية، فلم يكن المشروع الناصري في جوهره مضاداً للإسلام أو رافضاً له من حيث المبدأ، حتى وهو يدخل في صدام دموي مع جماعة الإخوان المسلمين التي كانت أكثر من تعرّض للظلم والعدوان، وعاين أسوأ ما في الحقبة الناصرية. إذ دائماً ما ظل للإسلام حضور وازن ومؤثر في المشروع الناصري، وإن جاء استحضاره في سياق دعم وشرعنة مشروع تحديثي جذري يمس بنية المجتمع المصري، بل ويطمح للامتداد في الفضاء العربي والأفريقي وما يعرف بالعالم الثالث.
نعم، يمكن أن نتفق أو نختلف حول ما إذا كان للأمر صلة بقناعات حقيقية بالإسلام أم أنه محض توظيف للدين في خدمة المشروع الناصري. ولكن لا يمكن إطلاقاً قبول عقد مقارنة بين جمال عبد الناصر وكمال أتاتورك في تركيا، أو حتى الحبيب بورقيبة في تونس مثلاً، في الموقف من الدين ورؤية موقعه في الدولة والحياة عموماً. فلم يكن لدى ناصر هذا العداء أو الرفض المبدئي للدين، ومن ثم لم يؤسّس مشروعه على استئصال الدين أو إبعاده كاملاً عن المجال العام، بل كان واعياً لأهمية الدين في هذا المشروع «التحديثي»، فلم يقدم ـــــ حتى في لحظات التناقض ـــــ على الصدام مع الدين مباشرةً، وكان أقصى ما يفعله هو البحث عن اجتهاد ديني يتواءم ومشروعه، كما يبدو من النقاشات التي كانت تدور حول قضايا المرأة والتأميم وحجم الملكيات المسموح بها. وهي تظهر حرصاً بالغاً على تقديم اجتهاد ديني يدعم هذا التوجه الجديد، ولم يكن بها استخفاف أو قفز على سؤال الدين.
لم يتصادم ناصر مع الدين في حياته الشخصية. فقد كان معروفاً بمحافظته وحرصه على الالتزام بمنظومة الأخلاق السائدة في الطبقة الوسطى الغالبة في مصر وقتها، بل كثيراً ما نصّب نفسه مدافعاً عنها ضد من ينتهكها أو يحاول التجرؤ عليها، كما فعل حين رفض في لقائه مع الصحفيين رسوماً كاريكاتورية تدور حول الخيانة الزوجية وترسم امرأة تخفي عشيقها في دولاب غرفة النوم!
وفي سياسته، وخاصةً الخارجية، سنجد حضوراً مهماً للإسلام في كثير من القضايا والملفات. فناصر الذي كان يصادر الأزهر لمصلحته ومشروعه داخل البلاد، هو الذي أطلق يده خارجها، وخاصة في أفريقيا، التي عرفت أكبر حضور للأزهر في عهد ناصر متوسعاً في إرسال البعثات الأزهرية إلى دول القارة السمراء مطلقاً إذاعة القرآن الكريم التي كان لها تأثير بالغ في هذا الصدد.
بل أكثر من ذلك، يمكننا القول إن النظام الناصري الذي شنّ حرباً دموية على جماعة الإخوان المسلمين، الممثل الحصري ـــــ وقتها ـــــ للإسلام السياسي، كان لديه القدرة على استيعاب قطاعات من الإسلاميين وإدماجها ضمن مشروعه، بل وتوظيفها ضمن هذا المشروع، بالقدر الذي عجز عنه النظام الحالي! يمكن أن نتكلم عن رموز إسلامية كبيرة تولّت ملء الفراغ الذي تركه الإخوان، بل وأكثر من هذا شاركت في بناء ما يمكن أن نسميه الرؤية الدينية للمشروع الناصري. يمكن أن نذكر أحمد حسن الباقوري (تولى وزارة الأوقاف) والبهي الخولي ومحمد البهي (تولى كل منهما مسؤوليات كبرى في إدارة الدعوة والإرشاد بالأزهر الشريف) وعبد العزيز كامل (تولى منصب نائب رئيس الوزراء) والشيخ سيد سابق والشيخ محمد الغزالي وعدد من الشيوخ الأزهريين الذين خرجوا من جماعة الإخوان إبان الانقسام الذي نجم عن خلافها مع الثورة وكانوا رموز الدعوة الإسلامية في العهد الناصري. ما سبق ليس محاولة لنفي تأثير النكسة وما ولّدته حالة الانكسار التي خلفتها من رغبة في العودة إلى الدين والالتزام به. إنما هي رغبة في وضع الأمور في حجمها الطبيعي الذي يظهر أن الدين لم يكن غائباً في هذه الحقبة بالشكل الذي تصوّره الكتابات الشائعة، بل كان له حضور حتى في المجال العام، وهو حضور قد لا يلبي الحد المطلوب من رغبات الإسلام السياسي، كما لم يكن بالمستوى الذي عرفناه لاحقاً، إلا أنه يبدو متسقاً مع عصر عرف بوهج الأيديولوجيات الكبرى وصراعاتها الكونية.
أتصور أن الصعود الإسلامي، بدءاً من نهاية الستينيات، لا يقرأ بمعزل عن التحولات الكونية التي بدأت في هذه الفترة، والتي كانت تصب في اتجاه استعادة حضور الدين في المجال العام، على غير ما كانت عليه الحال منذ بدأ ظهور الدولة الحديثة العلمانية وسيادتها عالمياً. وهو ما استدعى لاحقاً إعادة النظر في معظم الدعاوى التي كانت رائجة عن عصر العلم وسيادة العلمانية ونهاية الدين، أو على الأدق نهاية حضوره في المجال العام، والتي مثّلتها مقولة «المدينة العلمانية».
لقد عانى عالمنا أزمة هوية يعمّقها انهيار الأيديولوجيات والعقائد السياسية الكبرى التي كان بإمكانها أن تستوعب الناس في مشروعات سياسية، وهو ما فتح الباب لكي يصبح الدين الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعطي للعالم وللحياة به معنى، وهو ما أدى بدوره إلى أن يصير الدين المورد الأهم ليس للفعل السياسي فحسب، بل لكل ما يتصل بالحضور في المجال العام. نعم حدث ذلك عندنا بعد انهيار المشروع الناصري والقومي، ولكننا لم نكن بدعاً في هذا التحول الذي هو تحول عالمي يجب التوقف عنده كثيراً.
يمكن أن نرصد ـــــ منذ نهاية الستينيات وطوال حقبة السبعينيات ـــــ في هذا الصدد تصاعد الحركات الكاريزمية في أميركا الجنوبية وأفريقيا، وحركات الإنجيليين الجدد (البانتكوتيزم) في أميركا الشمالية واللاتينية والجنوبية، والثورة الإسلامية الإيرانية، وحركة «تضامن» في بولندا، التي كان للكنيسة فيها دور مركزي، وتكوّن وانتشار المجموعات الأصولية المختلفة سواء المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية، بما يؤكد أن الأمر ظاهرة عالمية لها أسباب يمكن دراستها وتحليلها بدلاً من الكلام السطحي عن الصدمة التي أحدثتها النكسة، فأدخلت الجماهير في حالة عودة إلى الدين تبدو كأنها حالة غيبية أو مرض نفسيّ بحاجة إلى طبيب أكثر منه إلى باحث في العلوم الاجتماعية!
أما الأطروحة القائلة بأن الصعود الإسلامي كان صناعة سلطوية اصطنع فيها السادات الجماعات الإسلامية لأجل «ضرب اليسار»، فلا تصلح مطلقاً لتفسير هذا الصعود السريع، فضلاً عن الاستمرارية التي جاوزت ثلاثة عقود كاملة. فالتيارات الفكرية، فضلاً عن الحركات الاجتماعية، لا تُصطنع بقرار أو بصفقة، كما لا يمكن القضاء عليها بقرارات أو صفقات مضادة. كان بإمكان السادات أن يخرج الإخوان من السجون وأن يفسح للجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية ليضرب بهم خصومه من اليسار، لكن ما كان بإمكانه أن يحولهم إلى تيار عارم وحركة اجتماعية امتدت جذورها حتى استعصت على الاقتلاع يوم أن تحولت إلى خصم النظام الأول. تماماً مثلما لم ينجح النظام الحالي في اصطناع تيارات أخرى مضادة للإسلام السياسي بعضها يقوده «يساريون»، رغم رغبته في ذلك.
أتصور أن الأمر له صلة بطبيعة اللحظة التاريخية كما أسلفنا، وبشروط اجتماعية يمكن أن تفسر بعضاً من أسباب الصعود الإسلامي، بل تكاد تجعله ضرورة.
وللتوضيح، فلنتوقف قليلاً عند التحولات التي مرت بها مصر مع غياب جمال عبد الناصر وصعود السادات للحكم. لقد شهدت الدولة المصرية تحولاً مهماً كان باتجاه الانسحاب المنظم والسريع من معظم أدوارها ومسؤولياتها تجاه المجتمع، فبدأت سياسات الانفتاح الاقتصادي وفتح الباب للقطاع الخاص وتفكيك مشروعات كبرى، فتخلت الدولة عن معظم التزاماتها تجاه المواطن من التعليم والعلاج إلى التوظيف والرعاية الاجتماعية، بل وانسحبت حتى من خدمات الأمن والحماية.
إن هذا الانسحاب السريع والمنظم للدولة، والفراغ الهائل الذي تركته، ما كان له أن يجري دون أن تغطيه حركة اجتماعية يمكن أن تتناغم بشكل ما مع المجتمع فتسد عجزه وتلبي حاجته، وإلّا فستنهار الدولة ويتمزّق المجتمع.
لا يمكن أن نقرأ حالة التمدد الإسلامي في عهد السادات دون أن نلحظ كيف كانت تملأ كل فراغ تتركه الدولة بما يمنعها من الانهيار. فالمد الإسلامي ما جاء إلا مسنوداً على شبكة رعاية تضامن اجتماعي غطت كل مناطق العجز والعوز التي انكشفت بانسحاب الدولة بعد غياب ناصر، كما كان الإسلاميون الأسرع في التعاطي مع تداعيات هذا الانسحاب. ويكفينا فقط التوقف عند ما قاموا به في هذه الفترة من حركة واسعة في المجال الاقتصادي والاجتماعي أدخلتهم في كل شبر خلا بانسحاب الدولة. لقد شهدت السبعينيات أكبر حركة لإنشاء المدارس البديلة أو الفصول التعليمية المكملة للنظام التعليمي المتدهور، والمستوصفات والمنشآت الطبية الخاصة بدلاً من نظام صحي عاجز عن تقديم خدمة علاجية، وشركات الاستثمار العقاري في وقت كان المصريون فيه يعيشون أزمة سكن ألجأت قطاعات منهم إلى السكنى مع سكان القبور! بل ومشروعات النقل الخاص تفاعلت مع أزمة المواصلات التي عرفتها البلاد طيلة السبعينات والثمانينيات. أما السياسة فلم يكن للإسلاميين يوماً أطروحة سياسية متماسكة، وما التفت الجماهير حولهم يوما بسببها، وما كان حظهم من السياسة إلا خطابا بسيطاً حد السطحية ما كان له أن يعمر أو يتمدد إلا محمولاً على شبكة اجتماعية اقتصادية واسعة باتساع البلاد.
لذا سيلاحظ المتابع للحالة الإسلامية أنه بتوقف الإسلاميين، أو للتحديد، فصيل منهم، عن هذا الدور وهذه المسؤولية، ينطفئ نجمه ويخبو بريقه. وأن تراجع الإسلام السياسي الذي نشهده ليس عنوانا لنهاية الأسلمة والإسلامية بقدر ما يتصل بتحول يجري داخلها من الأطروحة السياسية التي ثبت فشلها أو تكسرت على صخرة الدولة إلى الإسلام الاجتماعي، حيث المجال الاستراتيجي للحضور والوجود والتمدد، وحيث القيمة الحقيقة للإسلاميين والمبرر الأهم لوجودهم.

* باحث في شؤون الحركات الإسلاميّة