وائل عبد الفتاحاجتماع سرّي بين مبارك وبو تفليقة. العنوان الرئيسي في صحيفة مصرية عن اقتراح من الوسيط بين الرئيسين (العقيد القذافي) لعقد مثل هذا الاجتماع. وساطة وصلح ما بعد موقعة الخرطوم الكروية، وهي الأزمة التي تطرّف المتابعون وتوقعوا استخدام القوة المسلحة نهاية لها، إن لم يكن الاحتمال الأقرب قطع العلاقات الدبلوماسية، على غرار ما حدث بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، حين كانت الجزائر في صدارة الدول التي قادت المقاطعة العربية لمصر.
الأزمة هذه المرة ليست في مستوى السياسات العليا. لكنها أزمة من نوع جديد تقود فيه الشعوب الدول. ليس بالمعنى الديموقراطي (حكم الشعوب) ولكن بمعنى السير وراء فوضى العواطف.
أزمة كرة القدم ليست الأولى في غواية القيادة «الشعبوية». القذافي قديم في هذا الاتجاه، ووضع نظريّته العالمية «الثالثة» في منتصف سبعينيات القرن العشرين لحل مشكلات الديموقراطية والاشتراكية. وهذا على ما يبدو سرّ حماسته للوساطة بين القاهرة والجزائر في أزمة تقودها روح «شعبوية» لا تضع اعتباراً للتاريخ والصور القديمة لمصر (قائدة التحرر العربي) ولا للجزائر (بلد المليون شهيد).
الجماهير ذاكرتها مؤقتة. تشتعل على إيقاع عواطف خشنة. تقترب من غرائز القتال في القبائل القديمة. والغرائز موجودة دائماً. لكنها هنا تصعد إلى المقدمة وتقود. أتتبع الدولة جماهيرها المشحونة والمحتقنة في نوع جديد من أزمات كانت بدايته القوية مع أزمة الرسوم الدنماركية، حين تحركت الدول إرضاءً لغضب شعبي من رسّام متطرف؟
الغضبة عادية. لكنّ حركة الدول خرجت عن حدود مصالحها أو احترامها لعلاقات دولية أو للحقوق الشخصية. لم يتوقف ردّ الفعل على الغضب الشعبي. ركبت الدول على أزمة الرسوم وتمادت في احتقانها، غافلة عن أنّ الرسّام ليس الدنمارك، ولا يصح في الدول الحديثة منع الخيال ولو كان متطرفاً.
وفي كرة القدم، التفوّق مطلوب، وأمل عزيز لاقتناص البهجة. وجمهور اللعبة لا يخلو من عصبية معتادة تروّضها القوانين والدول. لكنّها الآن، وهنا، تقود دولة خطفها سائق عجوز، شهوته عارمة لاستمرار الخطف. شهوة مجنونة، بلا عقل أو قوة توقفها، ربما وجودها وحده هو السرّ أو الدافع الوحيد للحياة. هكذا أصبحت السلطة أكبر من شهوة صاحبها، ومع ذلك يريد استمرارها.
والثروة بالنسبة إلى البعض تجاوزت قدرتها على الأمان والمتعة. أصبحت متعة في حدّ ذاتها. متعة لا يوقفها شبع ولا تحدّها وظيفة أو دور في الحياة. لم يعد مهماً لحكام العالم العربي ماذا سيفعلون بالسلطة؟ انتهت موضة الجنرالات أصحاب المشاريع، مثل عبد الناصر. وانتهى من قبلهم وبعدهم حكام الرفاهية، الذين يتعذّبون في بناء دولة ليستمتعوا بالملك بما فيه من نعم وخيرات.
ملوك (مثل فاروق ومن شابهه في الدول العربية) أو رؤساء (مثل السادات ومن حكم تالياً من زعماء التحرر) ذاقوا آلام الحكم لينعموا بفخفخة السلطة. لم يبق غير حكام السلطة للسلطة، والثروة لمجرد امتلاك الثروة.
هذه صفات تفرض أسلوبها على الحكم والمجتمع سواء، ولها ضرائب باهظة. أولاها أن الحكام يخافون غضب الشعوب ويوجّهونها إلى أيّ عدوّ بعيد عنهم. التوجيهات بدأت بالإرهاب، وانتهت بمباراة الجزائر مثلاً. والأزمات الأخيرة قادت فيها الشعوب الدول.
تحوّلت الدولة الغوغاء وأصحاب الصوت العالي (صوت العواطف الخشنة من دون عقل) إلى رمز للجماهير التي يجب أن تسمع صوتها. وتتحرك الدولة لدغدغة عواطف الغوغاء، لتقول إنها دول ديموقراطية تسمع كلام شعبها.
والحقيقة أنها اختارت الغوغاء والعاطفيين وكلّ من يلغي العقل لكي لا يحاكمها العقل على احتكارها للسلطة والثروة أو على وقوفها خارج التاريخ أو على رأس قوائم دول متدنيّة في الحقوق السياسية والاقتصادية، ومتقدمة في القمع. دول شعوبها فقيرة ويتصارع مليارديريّوها. دول انقسمت بين جزر النعيم الأرضي وحدائق بشرية للمتوحشين.
وهذا ما يجعل أزمة مباراة في الكرة تنتقل من جمهور المدرّجات إلى كواليس الحكام. من اللعب إلى السياسة. تسييس مراوغ يخرج طاقة الاحتقان في قضايا من هذا النوع (الرسوم والمباراة) بديلاً من التفكير في عقد جديد بين السلطة والشعب.
الدولة تريد أن تقول إنها في خدمة الشعب، وهي في خدمة غوغائيّته وتتعامل معه من منطق هذه الغوغائية. ولهذا تتراكم أهرام الزبالة وتفرض قوات الأمن المركزي طوقاً على دور سينما قلب القاهرة خوفاً من التحرّش الجنسي، ولا تفكّر في مواجهة حاسمة (للزبالة أو للتحرّش). الدولة تهندس الدولة المناسبة لشعبها الذي تستمع إلى هدير عواطفه الغاشمة.