محمد بنعزيز * بينما كان الرجل على سطح بيته يحاول إمساك الخروف لذبحه في العيد، قفز الخروف من فوق السور القصير للسطح وصار معلّقاً في الهواء... حظي هذا الحدث بآلاف المشاهدات وعشرات التعليقات في موقع إلكتروني مغربي، وتكرر ذلك مع فتوى الفقيه البرلماني عبد الباري الزمزمي الذي أجاز مضاجعة الحائض باستعمال العازل الطبي... أما المقال المقابل لصورة الخروف المتدلي على الشاشة، مقال عن التعليم المغربي، وهو عرض لبحث جامعي أنجز في أميركا، فلم يعلّق عليه إلا عدة قرّاء.
من باب الفخر بالإقبال، تحرص الكثير من مواقع المنابر الإعلامية على الإنترنت على إبراز المواضيع الأكثر مقروئية. وحين نفحص هذه المواضيع، نجد أن الجنس والعنف وفضح الحياة الشخصية هي في صدارة ما يُقرأ. ويُصاغ ذلك في حكايات لا تراعي الحقيقة بل تستهدف جذب انتباه القرّاء، مثل ذكر ما قاله الضحية قبل موته، ووصف مراحل الاغتصاب، وذكر معلومات يستحيل الحصول عليها عملياً ضمن التحقيق الصحافي... وقد شملت هذه العدوى الجرائد الورقية، فأصبحت تكتب عن الحوادث العابرة والتنجيم، لاستقطاب القراء بواسطة خطاب هامشي يشوّق ويرضي الفضول اللحظي.
يجد من يحتقر هذه الأساليب في التخاطب نفسه خارج الاهتمام الإعلامي، خارج المقروئية. من يرفع المستوى يفقد كثافة المتابعة. يطرح هذا المعطى خياراً صعباً على هيئات تحرير الصحف: هل تصوغ خطها التحريري أم تطارد الأحداث العارضة التي تستقطب الشعب؟
شهرية لوموند ديبلوماتيك تتسوّل على موقعها على الإنترنت: ادعمنا لنستمر، تبرّع لنبق مستقلين، بينما الجرائد التي تعتمد التبسيطية والشائعة وتركز على الطرائف العارضة وأخبار الاغتصاب والحمل وفتاوى الجنس تزدهر... وقد أفتى أحدهم بإرضاع الموظفة لزميلها في العمل لتثبت أمومتها له، فلا يكون الشيطان ثالثهما في المكتب. فتطوّعت مئات المنابر لنشر الفتوى وتحليلها والرد عليها.
كون ثلاثين مليون مصري يشربون من مياه الصرف الصحي، أمر تافه. أما كأس العالم فأمر جلل
انتقلت هذه التبسيطية إلى السياسة أيضاً، والمثال الأفضل هو سيلفيو برلسكوني الحاضر في الواجهة الإعلامية، لا لأنه أصلح إيطاليا بل لأنه شتم القضاة والصحافيين ولأن عاهرة تحكي كيف ضاجعها... وحين لا تحكي عنه العاهرات يحكي هو عن مغامراته الشخصية مع المراهقات كفارس مغوار. أما القذافي، فهو يصنع الحدث بحكايات نصب خيمته الشخصية. في الحالتين الإيطالية والليبية، انتقلت الغوغائية من العامة إلى قيادة الدولة. وبسبب شخصنة الفعل السياسي، والضغط الإعلامي والرياضي، صار التوريث وارداً بدعوى أنّ نِعَم كاريزما الأب تنتقل إلى الابن فينتقل معها حبّ أو رعب الشعب وولاؤه. ويمهّد الإعلام لذلك بالحديث عن عواطف الرئيس وحزنه وحماسته الكروية، وهو بفضل هذه الحكايات يتماهى مع الجماهير، مع القطيع (هل يبلغ مرتبة رأي عام؟) الذي يسهل التواصل معه بالحكاية والفرجة بدل الأفكار. وهذه ظاهرة كونية.
حكت جريدة لوموند الفرنسية عن «ملحمة» ساركوزي، والملحمة نوع أدبي سردي شعري بطولي، وقد صارت تُخرج وتُصوّر. حكت عن وصول ساركوزي إلى كوبنهاغن برفقة المناضل لولا والفقير الإثيوبي زيناوي. واستخلص كاتب المقال أن المتفرّج سيفهم من الحكي أن ساركوزي في صف الفقراء ودول الجنوب وضد التلوث. في المغرب، تتحف القناة التلفزيونية الرسمية المشاهدين كل ليلة بحكاية مصورة عن النشاط الملكي وعن الجماهير تتسابق على الأرصفة للتملّي بطلعة عاهل البلاد.
للحكايات دلالات وأدوار. فحين خسر جون كيري انتخابات 2004، انتبه خبراء الحملة الانتخابية في الحزب الديموقراطي إلى أن السبب هو نقصان السرد الروائي ـــــ storytelling ـــــ عن شخص المرشح. وقد صحّح الديموقراطيون الخطأ في حملة باراك أوباما.
وقد عاد إلى الموضوع الكاتب كريستيان سلمون، وهو صاحب كتاب بهذا العنوان، ليخبرنا بتأسيس مركز للحكي المستقبلي Center for Future Storytelling بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا الشهير، وذلك بهدف الانتقال من سرد تقليدي إلى سرد مرن قادر على أن يأخذ في الاعتبار غنى الحياة وتعقيدها، وعلى إيجاد روابط بين الأشياء، وبالتالي تكييف الأشكال التقليدية للسرد مع وسائل الاتصال الحديثة: المحمول، الإنترنت...
بعد نهاية الانتخابات الأميركية، طلع النهار على الحكايات التي صاغها خبراء التواصل عن الأمل والسلام اللذين يحملهما أوباما للعالم، حتى أصحاب نوبل للسلام صدّقوها، فأسمعهم الرئيس خطاب حرب، بينما 30000 جندي في طريقهم إلى أفغانستان. غير أن الحكاية مرتبطة بالتسلية والتعليم، بينما السياسة مرتهنة للنتائج. وعندما تخلط الحكاية والسياسة تنبت خدعة، وهي خدعة رائجة بفضل التبسيطية التي تسمع الناس ما يريدون سماعه: يريدون الحديث عن التغيير، بينما يعضّون على وضعهم بالنواجذ، وهذه هي الشعبوية.
«الشعبوية هي مناهضة العقلانية». هي تغذية الحس العمومي بالخطاب والسلوكات نفسيهما، وهي عجز عن بذل الجهد الفكري. هي السلبية والخمول والتأثر بالسطحي والعابر، والخضوع للرغبات والغرائز واعتبارها حقيقة مطلقة. الشعبوية هي الخوف من الحرية والنقد والاختلاف. هي نقيض الحرية، فالحرية صعبة لتمارس، وهي تتطلب مجهوداً فكرياً، مسافة مع اليومي، بينما الشعبوية هي الاقتصار على التموقف من الدين الطائفي والهوية العرقية والأخلاقية الجنسية والعداء للآخر، وهذه مواضيع مثيرة ومهيّجة لعواطف الجمهور العريض.
ما هو الدور السياسي للعواطف؟ تُشغل الناس، تنسيهم جراح مخالب الأزمة الاقتصادية المغروسة في أجسادهم حتى العظم، تمكّنهم من تنفيس منحرف للقهر الذي يعيشونه. فكون مدينة جدّة هشّة وتشمّ مسك المراحيض، وكون أكثر من ثلاثين مليون مصري يشربون من مياه الصرف الصحي ويأكلون خبزاً غير صالح للاستهلاك الآدمي، وكون زعيمة المقاومة الجزائرية تتسوّل... كل ذلك أمر تافه. أما حلم تأهّل المنتخب إلى كأس العالم، فأمر جلل. إن التفاعل العاطفي الفوري تشويق وتسلية، وهو يحل محلّ التفكير والتحليل، وهذا ما سبّب انهياراً رهيباً للنقاش العمومي. تراجع الحس النقدي وصار يُنظر إلى أصحابه كعدوانيين يريدون تعكير جوّ بهجة الجمهور الذي يذوب في شخصية جماعية تدافع عن عبوديتها.
إذا طبّقنا نظرية أفلاطون في توصيف النفس البشرية على المشهد السياسي والإعلامي الحالي، نجد أن مركز الثقل قد نزل من النفس العاقلة إلى النفس الغضبية والشهوية، فسيطرت الشعبوية على وسائل الاتصال في بداية القرن الواحد والعشرين. نزل مركز الثقل من الرأس إلى البطن، بل إلى المؤخرة، وهذا ما يفسّر ذوق المصورين الذين يلتقطون صوراً لزعيمة الأمة العربية، هيفاء وهبي، من الخلف. وسبب إقراري لهذه الزعامة أن عشرات الآلاف تقاتلوا للاقتراب من المنصة التي تتبختر فوقها في مدينة مغربية. وهذا زحام لم يحظ به إلا عبد الناصر أيام زمان. وقد قطع عدد من رعايا مؤخرة هيفاء، الذين تحدثتُ إليهم، أكثر من 30 كلم على أقدامهم على أمل مشاهدتها وتشنيف سمعها بكلمات جنسية تردد جماعياً. ولكي تستفيد كل الجماهير من هذا الخير، فقد نُقلت السهرة مباشرة على عدة قنوات إشباعاً لتعطّش الأمة إلى حركات هيفات المهيِّجة وسكناتها. وقد أظهر الإعلام هنا أنه على مقاس الأغلبية، أي «الشعب».
* صحافي مغربي