مشهد الطائرة المحطّمة والأشلاء المتطايرة وتفجّع أهالي الضحايا أضفت حزناً إضافيّاً وقتامة على كآبة الطبيعة. أهل ما يُسمّى الدولة ـــ اعتباطاً طبعاً، وكلّه بالاعتباط في لبنان ـــ تقاطروا إلى المطار أمام عدسات التلفزيون. وسارعت أجهزة الدولة إلى إنشاء «غرف عمليّات». وغرف العمليّات في مسخ الوطن لا تعني أكثر من غرفة مجهّزة بثلاثة هواتف أرضيّة وخريطة قديمة على الحائط. الوجوم سيّد الأحكام في يوم كهذا. ومسرحيّة الدولة تكتمل بوصول رموز الطوائف الكبرى
أسعد أبو خليل *
كان وصول سعد الحريري الى مطار بيروت مشهداً نافراً في ذاك اليوم الحزين. رئيس وزراء لبنان يبدو صبيّ الدولة، لا رجلها (رغم ذكوريّة معيار الوصف هذا الذي يُستسهل استعماله على حلفاء بوش عندنا، من سلام فيّاض إلى فؤاد السنيورة). يبدو الشيخ سعد متردّداً باستمرار وتشعر أنه دوماً يطلب النجدة من هاني حمّود الذي يرافقه كالظلّ خشية الخطل والإحراج، أو الفضيحة. رئيس وزراء لبنان أصبح مادّة للتندّر والهزل الدولي على موقع الـ«يوتيوب» بسبب قراءته لبيانه ـــــ بيانه هو، عليك أن تصدّق ـــــ الوزاري. يبدو رئيس مجلس وزراء لبنان مفتقراً إلى صلاحيّة ترؤس ناد طالبي في مدرسة ثانويّة. لكنّها الإرادة سعوديّة، وهي تقضي. طلب الأمير مقرن لا يُردّ في لبنان. سعد الحريري أراد أن يتحدّث كالعالِم أمام الكاميرات، فطفق يردّد كلاماً عاماً عن «الصندوق الأسود» وكأنه صندوق من التفاح.
وكان حديث البشرة ولونها غالباً في التغطية الرسميّة والإعلاميّة للمأساة. وزير الصحّة اللبناني أعلن أن جثّة إثيوبيّة قد تحدّدت بسب «لون البشرة». لكن الأبلغ كان وزير الدفاع اللبناني الذي يستحق أن يُدرج في مناهج تاريخ الكوميديا (غير المقصودة) في لبنان. وما علاقة وزير الدفاع بالأمر؟ ولماذا هو وزير للدفاع أصلاً؟ يُقال إن ميشال سليمان يشعر أنه مدين له لأنه سهّل له القبول الأميركي بترشيحه ـــــ والدول الخارجيّة تنتخب رئيس الجمهوريّة في لبنان، أو تتصارع في الاختيار كما حدث في عام 1970. هل توزير المرّ (الذي اكتشفه رستم غزالة) هي عودة لهزليّة المنصب على نسق قيادة مجيد أرسلان لفرقة القنّاصة في معركة المالكيّة ـــــ موقعة البطولة الوهميّة؟ ولماذا لا يعود الياس المرّ إلى اختصاصه الحقيقي، أي تغطية شرّ عبدة الشيطان المستطير، الذي قضى ساعات طوالاً في الحديث عنه على برنامج «كلام (بعض) الناس»؟ ثم ماذا حصل لمقاتلات الياس المرّ الروسيّة؟ يبدو أن سلاحه الجوّي يفتقر حتى إلى طائرة إنقاذ مدنيّة واحدة، هذا الذي حاول أن يسوّق طائرة رش مبيدات أميركيّة كطائرة مُقاتلة. الياس المرّ، وهزليّة موقعه، هما تجسيد لاستراتيجيا 14 آذار الدفاعيّة.
لم يكتف المرّ بالإشراف على عمل غوّاصات الجيش وطائراته الحربيّة وفرقاطته في عرض البحر، بل زاد عليها إعلانات تليق بالطبيب الشرعي. أحصى الضحايا لوسائل الإعلام. أعطى أعداداً محدّدة لعدد الضحايا وتوزيعهم من حيث الجنسيّة، لكنه غيّر طريقة العدّ في ما يتعلّق بالأفريقيّين والأفريقيّات. قال إن هناك «أكثر من عشرين» إثيوبياً من الضحايا وإن هناك واحداً «أفريقياً» عُرف من «لون البشرة». «أكثر من عشرين»؟ لماذا الدقة في العدد في الضحايا من كلّ الجنسيّات إلا من الجنسيّة الإثيوبيّة؟ ثم هل يظن وزير الدفاع اللبناني وقائد أساطيله وقواته المجوقلة أن القارة الأفريقيّة هي جنسيّة واحدة؟ وماذا يعرف وزير الدفاع من لون البشرة؟ كيف تحدّد أنه أفريقي؟ أليس هناك لبنانيّون وعرب من ذوي البشرة الداكنة؟ أم أن المرّ يتحدّر من عائلات أوروبيّة بيضاء تتخصّص في تحديد الأعراق وفق المعيار النازي ونحن لا ندري؟ وهل استعان المرّ في تحديد الجنسيّات من «لون البشرة» بأطباء نازيّين؟ هل أصبح للدولة اللبنانيّة خبراء في الجماجم البشرية وفي تصنيف البشريّة على أساس لون البشرة؟ هل تحدّدت هويّة الضحايا من الإثيوبيّات عبر التمعّن في غلاظة الشفاه؟ كاد الياس المرّ يقول إن قسماً من الضحايا ينتمي إلى فئة «العبيد». كاد أن يقولها الياس المرّ، لكنه لم يقلْها.
كاد الياس المر يقول إن قسماً من الضحايا ينتمي إلى فئة «العبيد»
وهلّل المرّ لخبر وصول سفن وطائرات أميركيّة... بعد انتهاء عمليّات البحث عن الضحايا. كان واضحاً أن التدخل الأميركي كان من باب الحشرية الأمنيّة لا من باب المساعدة الإنسانيّة. لم نسمع بوصول طائرات وسفن مساعدة عندما كانت حمم القنابل الأميركيّة تهطل مطراً فوق رؤوس الآمنين والآمنات في عدوان تمّوز. لكن أي نسمة من الأميركي تحظى بالترحاب في بلديّة المرّ الدفاعيّة. وكعادته، يلجأ لبنان إلى التفريط بالسيادة في أقرب فرصة. فأعلن وزير الأشغال أن لجنة التحقيق اللبنانيّة ستضمّ في مَن تضم... فرنسيّين. لماذا لا يزال لبنان يحتفل بعيد الاستقلال؟ هو لا يريد استقلاله، وسعى وثابر ليؤجّله إلى أجل غير مسمّى.
منى صليبا (المهنيّة عادة في تقاريرها على غير عادة زملائها وزميلاتها في محطة القوات اللبنانيّة المنشقّة، «إل بي سي») تحدّثت في تقريرها عن جثث ذات بشرة فاتحة وجثث ذات بشرة داكنة. لماذا ميّزت بين الجثث على أساس اللون؟ عنصريّة حتى في تغطية الموت يا منى صليبا؟ ولماذا قررتِ أن لون البشرة ذو صلة بالتقرير؟ وجريدة «الأخبار» نشرت في اليوم التالي للفاجعة أخباراً متنوّعة عن الضحايا من دون أن تفرد قسماً للضحايا الإثيوبيّات. لا بل إن آمال خليل في مقالتها تحدّثت من دون وجل عن لبنانيّين مهاجرين في أفريقيا «سقطوا قتلاً على أيدي أفارقة بهدف السرقة أو الإرهاب». السرقة والإرهاب؟ متى نكتب عن معاناة الأفارقة على أيدي لبنانيّين ولبنانيّات، في لبنان وفي أفريقيا؟ أما موقع «بي.بي.سي»، فقد نشر تقريراً عن المهاجرين اللبنانيّين في أفريقيا ذكّر فيه بالارتباط الوثيق بينهم وبين سلطات القهر هناك، كما أنه ذكر أن الأفارقة يعبّرون علناً عن كراهيّتهم للبنانيّين بينهم. لا يسأل شعب لبنان عن سبب الكراهية. لو أن جثث الإثيوبيّات تنطق لنطقت بالحقيحتل اللبنانيّون في عدد من البلدان الأفريقيّة موقعاً مقيتاً إلى جانب شلل حاكمة وظالمة، كما أن التجّار هناك راكموا سمعة استغلال السكان الأصليّين، بالإضافة إلى نفور اجتماعي عنصري من قبلهم. واحد ـــــ واحد فقط ـــــ من العائلة المهاجرة من بلدة القليلة الجنوبيّة تزوّج من امرأة أفريقيّة سوداء. نشأتُ والعائلة والبلدة تكنيه بغير اسمه: لقبه «زوج العبدة» ساد بين الناس. ثم ألا نقتل من الإثيوبيّات في لبنان خلال سنة (إما مباشرة أو عبر دفعهن للانتحار) أكثر مما يُقتَل من اللبنانيّين في كل القارّة الأفريقيّة؟ إلا إذا كنّا نتعامل مع ضحاياهم كما تتعامل الصهيونيّة مع الضحايا العرب في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. أكثر من ذلك، تحدّث عنوان مقالة آمال خليل في «الأخبار» عن «لعنة أفريقيا» (ووردت العبارة في تقرير لدارين دعبوس على محطة «الجديد»). لعنة أفريقيا؟ هل يعلمون تاريخ هذه العبارة؟ وهل يجوز استعمالها حتى لو صدرت عن بعض أقارب ضحايا كوتونو، لأن العبارة عنصريّة وهي من نتاج (لا)أدب الرجل الأبيض العنصري؟ قرن «اللعنة» بالأسود جزء لا يتجزأ من التراث الاستعماري الأبيض. المُستعمر الفرنسي المسؤول أكثر من غيره عن مأساة تاريخ هايتي اتهم السود هناك بـ«اللعنة» تاريخيّاً لتجرّئهم على أخذ شعارات الثورة الفرنسيّة على محمل الجدّ.
(زينة برجاوي، الحق يُقال، غطت في «السفير» الحدث من منظار القنصليّة الإثيوبيّة. كما أن «السفير» أشارت إلى التغطية الإعلاميّة المتجاهلة للإثيوبيّات، وإن عرضاً في قسم «صوت وصورة»). موقع جريدة «النهار» ــــ وهل نتوقّع إلا الأسوأ في الجريدة المندثرة ـــــ انشغل بأمر آخر: كان يهزج بخبر تعزية بضحايا الطائرة من البيت الأبيض. كاد موقع «النهار» أن يرقص فرحاً بخبر التعزية الواردة من واشنطن. هل تغطي «النهار» تعازي ترد إلى لبنان من حكومات أفريقيّة؟ أم أن غلاظ الشفاه لا يحتلّون مرتبة الأهليّة العرقيّة أو الطبقيّة أو الدينيّة في جريدة التراتبيّة الاجتماعيّة والعرقيّة والطائفيّة؟ كما أن موقع «النهار» بالإنكليزيّة أصرّ على لوم قائد الطائرة الإثيوبي. كادت «النهار» أن تلوم «عبداً أسود» على الكارثة. لم تنتظر الصندوق الأسود.
مراسلة «إن.بي.إن» سألت إثيوبيّة باكية أمام القنصليّة الإثيوبيّة بكل صفاقة: «أختكِ ماتت؟» وردّدتها للتشديد. مخدومة المفجوعة شكت أمام الكاميرا أن خادمتها الإثيوبيّة كانت متضايقة جدّاً البارحة. لا ندري إذا كانت عاقبتها بالسياط لأن الحزن شغلها عن مهمات تنظيف المنزل. أما الماهرة نانسي السبع، فهي من القلائل في الإعلام اللبناني (بالإضافة إلى قسم العدل في «الأخبار») اللواتي (والذين) يتعاملن مع الخادمات الأجنبيّات على أنهن بشر. أصرّت على سؤال وزير الصحّة اللبناني عن تحديد جثث الضحايا الإثيوبيّات وكرّرت السؤال عن طريقة تحديد الحمض النووي. كان يجب أن تسأله إذا كانت وزارة الصحة ستفصل بين دماء ذوات البشرة الداكنة وذوي البشرة البيضاء مخافة التلوّث البشري.
وجريدة «النهار» لا تخيّب ظنّاً، كعادتها، إذ إنها تتطرّف في شؤون العنصريّة والطائفيّة والطبقيّة البغيضة. هكذا أوردت خبر الضحايا في صدر صفحتها الأولى: «وتضمنت لائحة الركاب أسماء 54 لبنانيّاً و26 أجنبيّاً بينهم زوجة السفير الفرنسي دوني بيتون ماريا سانشيز بيتون». وحدها الفرنسية تستحق التسمية، على طريقة استئثار «ضحايا» إسرائيل بالتغطية الشخصيّة المحدّدة في الصحافة الغربيّة. ضحاياهم يُذكرون بالاسم والصورة، وضحايانا يذكرون بالكميّة مثل أكياس البطاطا. «26 أجنبيّاً» كان مجموع الضحايا في «النهار». كان على «النهار» أن تفصل بين زوجة السفير وغلاظ الشفاه. كان يمكن «النهار» أن تستشهد بأوصاف المتنبّي لكافور في أحايين الهجاء.
أما زوجة السفير الفرنسي (التي سبقت صورتها في جريدة «النهار» صور كل الضحايا، اللبنانيّين و«الأجانب» على السواء) فلها التعازي الحارّة. صورتُها نُشرت في معظم الصحف، بما فيها «الأخبار». لها الدموع والتعازي والأسى. من سينشر صور الإثيوبيّات غير الصحف الإثيوبيّة؟ والبطريرك الماروني الذي أقام قدّاساً خاصّاً بضحايا 11 أيلول، هو الذي لم يجد بعد سبباً لإقامة قداس خاص بضحايا عدوان إسرائيل في أرض فلسطين ـــــ لكن الأمر لا علاقة له البتة بالاتفاق السريّ المُوقّع عام 1946 بين الحركة الصهيونيّة والبطريركيّة المارونيّة ـــــ سيقيم قداساً خاصاً لها على الأرجح. وسيحضر علية القوم من 14 آذار، والفرقة تحرص دوماً على التشبّه بالأوروبي. هذا ما عناه راشد فايد عندما عيّر معارضة الحريري بأنها «عالم ثالثيّة». انضم راشد فايد إلى العالم الأوّل بمجرّد أن التحق بالحاشية الإعلاميّة لبلاط قريطم. سمير فرنجيّة تخصّص في إهانة الأفارقة في أحاديثه. لا يستطيع أن يسبغ المديح على مسخ الوطن من دون إضافة عبارة: «نحن لسنا في مجاهل أفريقيا»، أو «لبنان ليس الكونغو».
نشرة «المستقبل» الحريري أفردت صفحة كاملة للضحايا لم ترد فيها كلمة عن الإثيوبيّات. احتلت صورة زوجة السفير البيضاء حيّزاً من الصفحة. محطة «الجديد» كعادتها تنفرد بالتغطية وتتحدث إلى الإثيوبيّات. محطات التلفزة الأخرى لا تراهُنَّ وهن يبكين وهن يحزنَّ ويولولن. هنّ من كوكب آخر اسمه أفريقيا. كما تمشي الإثيوبيّات في الشوار خفيّات ـــــ إلا لمن يرى فيهنّ طريدة جنسيّة مُتاحة قانوناً وعرفاً ـــــ يمتن خفيّات. لا وقع لأقدامهن، ولا وقع لارتطام أشلائهن بسطح البحر. هناك في الصحافة اللبنانيّة من سيروي عن صوت هائل لوقع ارتطام جثة زوجة السفير الفرنسي. اسمها سيملأ كتب التاريخ في المنهاج الرسمي اللبناني، وأنصار الأم الحنون سيظهرون على الشاشات في مشاهد تفجّع حضاري. هي الضحيّة الأرقى.
زوجة السفير الفرنسي هي في رأس لائحة الضحايا الرسميّة. لعلّ هذا ما عنته منى صليبا في تصنيفها للون البشرة. أي إن زوجة السفير الفرنسي تحوز مساحة من التغطية لا تحوزها سواها. قل إنه نوع الجنسيّة. وفي بلد يطلق أسماء مُستعمريه (وحلفاء إسرائيل من الذين تمتّعوا باحتضان من رفيق الحريري والنظام السوري، ومن الذين ارتبط اسمهم بمجزرة صبرا وشاتيلا) على جاداته وشوارعه، يمكن أن يُطلق اسم الراحلة الفرنسيّة على جادة أو كورنيش. لمَ لا؟ ألم يُنصب تمثال لإرنست رينان في ساحة غزير؟ ألم يبعث الرؤساء الثلاثة بممثّلين عنهم لحضور حفل تكريمي للمطران مبارك، الصهيوني المُبكّر؟ هذا هو لبنان.
هل يمكن أن نتصوّر حزب الله وتيار المستقبل يصدران بياناً ذات يوم عن وضع العاملات الأجنبيّات؟
أما الإثيوبيّات العاملات اللواتي قضين على متن الطائرة المنكوبة، فهنّ منسيّات. منسيّات في الحياة ومنسيّات في الممات. إليهن أوجه كلامي، لا لغيرهن. هن عانين مرتيْن: في الحياة وفي الموت المفجع. هن اللواتي لا يستحققن إشارة في صحافة تقليد الرجل الأبيض في لبنان. هن لا ينتمين إلى مجتمع العقد العنصريّة في بلد لم يعرف موقعه الجغرافي على الخريطة بعد. العاملات الإثيوبيّات اللواتي كنّ على متن الطائرة، ماذا عساهن يقلن لو عدن إلينا؟ وماذا كان يدور في خلدهن وهن يغادرن لبنان؟ ماذا نقول نحن لهنّ، في الحياة وفي الممات؟ لن يقام لهن حداد خاص، ولن تطلق أسماؤهنّ على جادات وشوارع. غلاظ الشفاه هنّ، وداكنات البشرة.
لو كان لنا أن نصل في صندوق أسود إلى معرفة ما دار في أذهان ضيفاتنا من إثيوبيا فماذا كنّا سنجد؟ سنجد روايات حزينة جدّاً عن معاناة قاسية تلحق بكل العاملات الأجنبيّات في لبنان، وخصوصاً ذوات البشرة الداكنة. أقام لبنان ـــــ مُقلّداً كعادته أبشع ما يرد من الرجل الأبيض ـــــ هرماً من التصنيف العنصري ـــــ العرقي. الإثيوبيّات والسريلانكيّات كن دائماً في أسفل الهرم. هؤلاء، لو سمعن رواياتهن، ماذا كنّ سيقلن لنا؟ حكايات حزينة تماثل حزن الطائرة المفجوعة.
لو أن أجسادهنّ يتولين الرواية ماذا كن قلن؟ قصص متكرّرة من الضرب ومن الجلد ومن القصاص. قصص من الاغتصاب والتحرّش الجنسي. قصص عن تجاهل رسمي لتكرار «حوادث» سقوط العاملات الإثيوبيّات والسريلانكيّات من الشرفات. تتعامل الشرطة اللبنانيّة مع تلك الحوادث كما تتعامل مع «حوادث» سقوط الثمار اليانعة عن الغصون. انتحارات بالجملة في وطن ثورة (حراس) الأرز. لا نسمع مرّة واحدة عن تحقيق رسمي. هل هناك من يسأل ومن يحقّق في انتحارات عاملات المنازل؟ هل سيق مخدوم واحد للتحقيق؟ هل خضعت أجساد المُنتحرات للفحص على يد الطبيب الشرعي للتحقق من خلوّهن من آثار ضرب أو اغتصاب أو الاثنين معاً؟ أليس هناك من يطالب بفتح تحقيق في ظروف وفاة العاملات الأجنبيّات في لبنان أو انتحارهن؟
ولكن يجب أن ننظر إلى الموضوع من زاوية إيجابيّة. لنعلن توحّد الفريقيْن المتنازعيْن في لبنان وللأبد. قل ما تشاء عن الصراعات والحروب والنزاعات في لبنان، لكن هل هناك من ينفي أن فريقيْ 8 و14 آذار يختلفان على كل شيء لكنهما يتفقان بالكامل في تجاهل العاملات الأجنبيّات في لبنان واحتقارهنّ؟ هل يمكن أن نتصوّر حزب الله وتيّار المستقبل يصدران بياناً ذات يوم عن وضع العاملات الأجنبيّات في لبنان؟ حزب الله يصدر بياناً عنيفاً دفاعاً عن شخصيّة فقيه الاحتلال الأميركي في العراق، علي السيستاني، فيما يتفرّغ تيّار المستقبل للدفاع عن أمراء آل سعود وأصدقائهم. حتى الحزب الشيوعي اللبناني وحركة الشعب: لا يمكن أن نتصوّر أنهما يمكن أن يصدرا بياناً أو تقريراً عن وضع العاملات الأجنبيّات في لبنان. لو أن الحزب الشيوعي اللبناني يقوم بمهماته كنصير للطبقة العاملة، كان يمكن أن يعيّن لجنة خاصّة لمتابعة قضيّة استغلال العاملات الأجنبيّات واستعبادهن وتعذيبهنهل تظاهر حزب واحد في لبنان من أجل العاملات الأجنبيّات؟ هل كُرِّس برنامج لعرض قضاياهن من أفواههن وليس من أفواه مخدوميهن الذين واللواتي يشيدون ويشدن برفقهم ورفقهن بالإنسان والحيوان؟ لكن التجربة القاسية للعاملات الأجنبيّات في لبنان تستحق التحليل السياسي، وقد استحوذت على اهتمام الصحافة الأجنبيّة وبعض المنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان. الظاهرة ليست صدفة: هي نتاج طبيعي ومنطقي للفكرة المؤسِّسة للكيان ـــــ المسخ. أراد روّاد الفكرة الوطنيّة اللبنانيّة أن يعلِّلوا سبب إنشاء الكيان في عصر القوميّة العربيّة فزاوجوا سرّاً بين الفكرة اللبنانيّة والفكرة الصهيونيّة، ثم عادوا وأصرّوا على تمييز لبنان عن محيطه فعمدوا إلى إلحاق لبنان بـ... أوروبا. ظنّوا أن النطق بلغة أوروبيّة يكفي للانتماء إلى العرق الأبيض الأوروبي. فكرة «الميثاق الوطني» فكرة نصف منطقيّة إذ إن طرفاً صدّق قاعدة الطبيعة الغربيّة للبنان من دون أن يسأل عن ماهيتها أو نوعها. هل ارتباط لبنان بالغرب الأوروبي قائم على الجغرافيا أم التاريخ أم الحنين إلى العصر الصليبي؟ العنصر الأخير كان طاغياً في الأدبيّات السريّة أو في المذكّرات المُرسلة للرجل الأوروبي الأبيض من دعاة القوميّة اللبنانيّة. استعان المؤسّس اللبناني بأبشع ما وجد في حوزة العنصريّة الأوروبيّة البيضاء. وتحوّل التماهي مع المُستعمر الأبيض إلى أيديولوجيا وطنيّة تحول دون: 1) اندماج الكيان بما حوله من عالم عربي. 2) اندماج أبناء الوطن وبناته بالوطن. هنا أهميّة التباهي باللغات الأجنبيّة. النجاح يحتاج إلى معيار التقليد، لا الخلق ولا الإيغال في المحليّة.
لو كان لأشلاء الإثيوبيّات أن تنطق لنطقن برسائل وداع حزينة. من المشكوك به أن تغادر الإثيوبيّات لبنان بنزر من الحنين أو الشوق. الأرجح أنهن يغادرن بفرح وحبور. لا يمكن أن يمتلكن ذكريات سعيدة عن شهور أو سنوات الإقامة في وطن السيادة والحريّة. كل واحدة منهن عرفت زميلة لها رمت بنفسها من الشرفة، أو فكّرت برمي نفسها من الشرفة. كل واحدة منهن سمعت تحقيراً عنصريّاً. كل واحدة منهن تعلّمت كلمة «عبدة» بعد أيام من الوصول. هل اختلفت رحلة الرحيل إلى الكارثة عن رحلة العودة الكئيبة إلى بيروت، بالنسبة لهؤلاء؟ الضحايا من الإثيوبيّات يحتجن إلى دفن في بلد غير لبنان. لبنان لا ينفكّ عن ظلمهن، في الحياة وفي الممات. العلم اللبناني يجب في هذا اليوم أن يتّشح بالسواد، لكن لسببيْن، لا لسبب واحد.
ملاحظة: كتبت هذه المقالة في اليوم التالي لتحطم الطائرة

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)