سعد الله مزرعانيوليس من قبيل الصدفة، أنّ المتابعين والباحثين يتوقفون حصريًا، في تجارب الإصلاح اللبنانية، عند تجربة الرئيس الراحل وقائد الجيش الأسبق اللواء فؤاد شهاب. وهم يتوقفون أيضًا عند مشروع «الحركة الوطنية» اللبناني التي شارك في تأسيسها وترأس مجلسها السياسي القائد الشهيد الكبير كمال جنبلاط. فيما عدا ذلك لم تُسجّل سوى محاولات إصلاحية جزئية، كانت، غالبًا أيضًا، غير مؤثّرة. ولا ينتقص ذلك في شيء من تجربة المقاومة التي تقع في شقّها اليساري أو الإسلامي في حقل نشاط مهم وذي أولوية، وهو حقل التحرير. فالمقاومة في تجربة «الحركة الوطنية» اللبنانية كانت في الجوهر امتدادًا لبرنامجها للإصلاح السياسي والاقتصادي. ولقد كانت جبهة المقاومة الوطنية مشروعًا ذا بعدين. وهي تجربة رائدة، ولا شك، في مجال مقاومة العدو الصهيوني وفرض الانسحاب عليه دون قيد أو شرط، وكذلك لجهة طرح هواجس توحيد اللبنانيين وإصلاح نظامهم السياسي الطائفي. أما في تجربة «حزب الله» فقد باتت المقاومة مسألة قائمة بذاتها ومنفتحة أكثر، على مدى الصراع الإقليمي، مؤمّنة لنفسها نجاحات وإنجازات واستمرارية، غير مسبوقة في الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، بفضل هذا الترابط وبفضل كفاءة قيادتها وتضحيات مناضليها وشهدائها.
لماذا يريد عون إخضاع الشباب لاختبار الأهلية في القدرة على الاختيار وتحمّل المسؤولية؟
في سياق ذلك تبدو، بالفعل، المحاولات الإصلاحية الراهنة، على محدوديتها، معزولة وشبه يتيمة. ليس ذلك فقط، بل إنّ بعض الذين وافقوا سابقًا على قرار خفض سنّ الاقتراع، قد عادوا وتخلّوا عنه عندما بات طرحه مسألة تتطلّب مواقف واضحة ومحدّدة، وليس مجرّد إعلان نوايا! وفي هذا الصدد (أي خفض سنّ الاقتراع إلى الثامنة عشرة) يجب التذكير بعدد من المسائل التي يجب ألا تغيب عن أذهان قوى أساسية، وخصوصًا في تحالف المعارضة السابقة: أوليس الشباب هم قوة التحرير والمقاومة الرئيسية. أوليس معظم الشهداء والأبطال الذين واجهوا الدبابات الصهيونية وكل جحافل العدو عام 2006، قد تراوحت أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والواحدة وعشرين عامًا؟! ألم يكن الأمر على هذا النحو أيضًا في تجارب «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» و«القوات اللبنانية» وحزب الكتائب. ألم يكن الأمر على هذا النحو أيضًا في تجربة «التيار الوطني الحر» في الصراع والمواجهة مع القوات السورية وقوات السلطة اللبنانية الحليفة لها طيلة خمسة عشر عاماً ويزيد؟!...
فلماذا إذاً يريد العماد ميشال عون على سبيل المثال، الآن، إخضاع الشباب لاختبار الأهلية في القدرة على الاختيار وفي تحمّل المسؤولية، بينما هم قد نجحوا سابقًا، وبامتياز، في ميدان الكفاح الأصعب: في الشارع، وفي التصدّي لقوى القمع وفي الصبر على قساوتها وتعسّفها؟! لقد اشتقّ العماد ميشال عون نظرية المرور بتطبيق المشاركة (المناصفة الفعلية كما قال) قبل الانتقال إلى البحث في إلغاء الطائفية السياسية. هذا والموقف من تأهيل جيل الشباب والشابات في المدرسة والجامعة قبل الحصول على حق الاختيار، ليس مقبولاً ولا مفهومًا. وهو في مؤدّاه يصبّ في خدمة مواقف القوى الرافضة للإصلاح والمستفيدة من بناء نظام سياسي وعلاقات بين اللبنانيين تقوم على أساس العصبيات والاستقطابات المذهبية والطائفية. لم يعد يقنع أحدًا بأنّ «معالجة الطائفية تبدأ بمعالجة الفساد». فالفساد ثمرة أساسية للطائفية ولن يستقيم أمر مكافحته أو استئصاله بدون التخلّص من البنية الطائفية التي يريد البعض ربطها بالجينات اللبنانية نفسها! ثمّ إنّ المطروح هو بحث في إلغاء تدريجي للطائفية السياسية. والتدرّج يتيح الوقت والآليات الكافية للتحضير. فلا يجوز رفضه أو تأجيله بذريعة التأهيل أو بحجة تطبيق فعلي للمناصفة.
الارتداد على مواقف إيجابية سابقة هو أمر سيّئ في مسيرة أيّ قوة سياسية. فكيف إذا وُضعت اشتراطات عرقوبية أيضًا، من نوع ربط خفض سنّ الاقتراع بتمكين المغتربين من ممارسة حق الاقتراع، أو علمنة كلّ البنية السياسية والاجتماعية، أو بناء نظام فيدرالي، أو إقامة فيدرالية سياسية كما يهدّد البعض سرًّا أو علنًا. يفاقم في هذا التردّي عدم تنظيم تحرّك شبابي جدّي وفعّال للضغط من أجل فرض خفض سنّ الاقتراع، ومن أجل فرض أن تحترم القوى السياسية مواقفها فلا تتراجع عنها دون تبرير أو دون محاسبة!
يفاقم في هذا الأمر كذلك، غياب القوى الديموقراطية عن ساحة الفعل والتأثير والاستقطاب. وهذا وسواه، ما يجب أن يتحوّل إلى صفارة إنذار من أجل إيجاد الصيغ والبرامج المناسبة لكي لا يبقى الإصلاح أمرًا يشبه طرحه عملية حضور الكرام على مأدبة اللئام، أو يبقى أمره منوطًا في الأساس، بحركة مصالح القوى نفسها التي طالما استخدمت الطائفية والمذهبية وكلّ أشكال الغرائز والعصبيات لحجب قضايا الصراع الحقيقية، ولتأمين سيطرتها على اللبنانيين دونما تمييز.
* كاتب وسياسي لبناني