حسان الزينفور وقوع حادثة الطائرة الإثيوبية، استنفر الطاقم السياسي بوجهه السياسي، ولا سيما برؤوسه الثلاثة، فاستعاد رئيس الجمهورية صورته في وزارة الدفاع، واستحضر رئيس مجلس النواب صورة الأبوّة والأمومة للاغتراب اللبناني، وخصوصاً الشيعي ـــــ الأفريقي. وفي الوقت نفسه، كان دخول رئيس الحكومة على الخط ضمن عمله لرسم صورته كرجل دولة على رأس السلطة التنفيذيّة.
ومع هذا المشهد، أو خلفه، حضر وجوه الصف الثاني، الوزراء. وليس مستغرباً أن يكون وسط الكارثة، لكل رئيس حصّته، لرئيس الجمهورية وزارتا الدفاع والداخلية، لرئيس مجلس النواب وزارة الصحة، ولرئيس الحكومة وزارة النقل. توزيع عادل في حكومة الوحدة الوطنيّة المستعدّة دائماً للكوارث.
هكذا، سار العمل التنفيذي، إنقاذاً لركاب الطائرة وبحثاً عنها وعن الصندوق الأسود وتحقيقاً في أسباب وقوع الكارثة وسقوط الطائرة، من دون مشاكل ظاهرة. ما يدل على العبقريّة التي يستبطنها العقل الكارثي للطاقم السياسي، وهي موهبة لا تقل أبداً، في قدرتها على قراءة المستقبل والتوقّعات، عن طاقة التنجيم التي تتقاطع معها عن العديد من الكواكب والأجرام.
المشهد الكارثي الذي قدّمه الطاقم السياسي الممسك بالإدارات والوزارات والبر والبحر والغلاف الجوّي، هو أفضل ما يمكن تقديمه. مشهد مسرحي أمام الكاميرات مباشرة. وقد استطاع الممثّلون سريعاً توزيع الأدوار على أنفسهم وعلى الآخرين. بل تجاوز الإبداع الارتجالي ذلك إلى رواية القصّة وعقدتها... وصولاً إلى نهايتها، وأدخلوا عناصر تشويقيّة عديدة واستبعدوا أخرى، وسمحوا لأنفسهم، حرصاً على أدوارهم ومسرحيتهم، بالتدخل في التحقيق مع غطاء «أخلاقي» شرع به رئيس الجمهورية وأكّده رئيس الحكومة الذي رسم خريطة الطريق الإنسانية في التعامل مع الكارثة والضحايا... وكلنا أهلهم.
إذاً، نال الطاقم السياسي دوره في اللحظة الإنسانية التلفزيونيّة، علامة 14 من 90. وحتى الساعة يمكن القول إن أداء وزراء هذا الطاقم يسعون إلى تحسين النتيجة، فالرؤساء وفِّقوا حين أعطوا الخبز للخبازين الذين يطمئنون إليهم، إذ لدى كل واحد من هؤلاء خبرته في مجاله، من وزير الصحّة الطبيب أصلاً، إلى وزير النقل الذي يشتغل بكفاءة السياسي المحنك، إلى وزير الدفاع الذي يحرص على فصل برودته وبيروقراطيته عن حيوية المؤسسة العسكرية الوطنية.
هذا هو مفهوم الطاقم السياسي للدولة: حضور في المشهد الكارثي التلفزيوني وخبّازون. عقل مشهدي يخفي ما يخفيه من الواقع، واقع الإدارات وإمكاناتها ومغاراتها، واقع الكارثة. هل شاهد المواطنون كيف عملت وتعمل تلك الإدارات؟ والاعتراف شبه بديهي في العجز عن القيام بدور يتجاوز تلقف الجثث وأشلاء الطائرة التي قذفها البحر! ماذا فعلت تلك الإدارات أكثر من الانتظار وأداء دور أم العروس؟ تحليق الطيران، انتشار الزوارق في البحر، تهدئة الأهالي، القيام بدور الحانوتي المخلص لشعار إكرام الميّت دفنه، الوقوف أمام الكاميرات وأداء أدوار التكنوقراط، الاهتمام بتبرئة برج المطار واستبعاد احتمال العمل التخريبي... وقبل أن ننسى: التغنّي بالحمض النووي، هذه التعويذة التي كررها «المعنيّون» كما يعلك المشعوذون لغتهم المجانية، محاولين إقناع المأخوذين بقدراتهم الخارقة التي لا تُسمع من علماء و«رجال دولة ومؤسسات».
رغم الشعوذة التي قام بها الطاقم السياسي ونجاحه في خطف كارثة الطائرة الإثيوبيّة، إلا أنه لم ينجح في تغطية بؤس مفهومه للدولة. فالإدارات التي يقدمها بوصفها مرافق الدولة، هي في الحقيقة مغارات بدائية، وقدراتها أقل من اللحظة ومسؤوليتها والمترتبات العملية المفروضة عليها. وزارة الصحة مثلاً، ليست ثلاجة ومختبراً لفحص الحمض النووي وحسب. هذه أعمال يمكن أي شخص في بلاد المبادرة الخاصة أن يوفّرها ويتخذها تجارة له. وزارة النقل والأشغال ليست خلافاً على مرفأ للصيادين وتزفيتاً للطرق وبنية تحتية في هذه البلدة وتلك القرية. وزارة الدفاع ليست تحليقاً وإبحاراً مجانيَّين في الفضاء والبحر. وكذلك المطار ليس شرطي سير يختبئ من المطر تارة وإشارة السير عنده مطفأة.
لقد مارس الطاقم السياسي خدعة لا تقل هشاشة وقسوة عن الكلام العنصري والمذهبي الذي يتطاير في الهواء كالنار في الهشيم، مع الحديث عن الطيران الوطني، الذي يحكى عنه باعتباره «سوبرمان» متهماً بالتعامل المذهبي الانتقائي مع أبناء الوطن الواحد الموحّد، ما يؤدي إلى إهمال بعض اللبنانيين وحرمانهم طمأنينته، فيضطرون إلى ركوب طائرات غير كفوءة ما دامت هي من بلدان أدنى، في الهرم العنصري اللبناني. وطبعاً، وفق الثقافة الوطنية، الطيران الإثيوبي من إنتاج الرقيق وتحت إدارتهم وبقيادتهم. وكأن الركاب حينما اختاروا الطائرة الإثيوبية وصعدوا إليها كانوا كمن يجلس في بيته، والطيار الإثيوبي يقوم بعمله كما تفعل الخادمة الإثيوبية.
الصندوق الأسود الذي على اللبنانيين البحث عنه هو «الدولة اللبنانية» التي لم تقلع طائرتها، لكنها تغرق، والطاقم السياسي ليس إلا أشباحاً في هيئات ربّان وناجين وملائكة.