محمد بنعزيز * عرضت القناة الثانية في التلفزة المغربية بتاريخ 16/1/2010 «ربورتاج» عن تلميذ كسر ذراع أستاذه داخل الفصل الدراسي في إحدى الثانويات. التلميذ رهن الاعتقال والأستاذ في المستشفى.
بما أني أستاذ في الثانوية، سأقدم هنا صورة للوضع. فقد سبق أن دخلت الفصل ووجدت مسامير مغروسة في مقعدي، وبما أني ألبس سروالاً أسود، فإني أحرص على مسح المقعد قبل الجلوس عليه، لذا لم «أتخوزق». لم أصدق أن تبلغ الرغبة في إلحاق الأذى هذه الدرجة النابعة من العداء تجاه المدرس. فتحت نقاشاً تحسيسياً، ثم طلبت من التلاميذ أن يحددوا اسم التلميذ المسؤول عن «الفعل الإجرامي». لم أتلقّ جواباً، فشعرت بأن هناك تستراً متعمداً، مما يجعل الجرم جماعياً ويستوجب عقاباً جماعياً أيضاً. رفعت الكرسي بحيث يرى الأربعون تلميذاً المسمارين الكبيرين، ثم طلبت منهم ملء جدول استمارة لتشخيص سلوكيات المشاغبين: مظاهرها، أسبابها ونتائجها. بعد ربع ساعة، جمعت الأوراق التي حررها الأربعون تلميذاً، إليكم الخلاصات:

ماذا يفعل المشاغبون؟

يتعمدون التأخر في الدخول للفصل، وبعده يشوشون، يدردشون، يسرق بعضهم أدوات بعض، يضربون المقاعد، يجرجرونها، يبحثون عن التسلية عبر مناقشة الأمور التافهة وعن طريق طرح أسئلة لتضييع الوقت، يحاولون تعكير الجو عبر محاولة إخراج الأستاذ عن موضوع الدرس وإغضابه عن طريق التلفظ بكلام ساقط من معجم المراحيض.

ما أسباب هذه السلوكيات؟

المراهقة، الرغبة في التظاهر أمام الجنس الآخر، التحلي بالشجاعة في غير موضعها، انعدام هدف واضح في الحياة، الاعتقاد أن الحياة تافهة وبالتالي احتقار الدراسة، انقطاع العلاقة بين التلاميذ والأستاذ بمجرد خروجهم من القاعة، اليأس من التعليم بسبب بطالة حاملي الشهادات العليا، التفكير في الهجرة السرية... هناك أيضاً مشاكل شخصية واجتماعية لدى المتعلم: عدم متابعة الأبوين سلوك أبنائهم، غياب الأب لأسباب عدة، تكفل الأم وحدها بالتربية، التعرض لسوء المعاملة، قسوة الظروف المعيشية، استعمال بعض المخدرات داخل الفصل، تأثير وسائل الإعلام في أخلاق التلاميذ، البقاء في مستوى البيئة المحيطة وعدم بذل أي جهد للرقي بالأفكار الشخصية...

ما هي النتائج؟

تضرر التلاميذ المجتهدين بسبب المشاغبين، كراهية الأستاذ لعمله ومعاقبته التلاميذ بتقليص وقت الشرح وخفض مستواه والاعتماد على الإملاء، ضعف الاستيعاب وبالتالي الحصول على أدنى الدرجات، لجوء الأستاذ للعنف اللفظي ثم الشكوى للإدارة فحضور الأب باستمرار إلى المدرسة ومعاقبة التلميذ بالضرب والتهديد بالطرد من البيت، السقوط المستمر وبلوغ التلميذ سن العشرين في الثانوية، ضياع مصاريف كبيرة دون جدوى، الطرد من التعليم وضياع أمل الآباء في أبنائهم، دمار الحياة الشخصية بصفة عامة والندم بعد فوات الأوان.
العنف البدني والاقتصادي والنفسي هو ذاته الذي تعيد المؤسسة التعليمية إنتاجه، لتنتج فرداً مقهوراً
فرّغت هذه الأجوبة وركّبتها في جدول، فطبعتها ووزعتها في المؤسسة. تحولت الوثيقة إلى شتيمة لأصحابها، صارت سمعة فصلهم محط الأنظار وقد شهدوا ضد أنفسهم. حينها أدركوا حجم العقوبة التي تعرضوا لها، فتطوع بعضهم وأخبرني على انفراد باسم التلميذين المسؤولين عن الجريمة. بجهد كبير لضبط النفس أثناء حصة دراسية، طلبت منهما الوقوف أمام زملائهما وخيّرتهما بين الاعتراف بالجريمة أو تحرير محضر ضدهما للإدارة لعرضهما على المجلس التأديبي. اختارا الحل الأول.
حينها دخلت معهما في حوار أمام باقي التلاميذ، طرحت على كل واحد هذه الأسئلة:
على من تسدد؟ هل تعرف أعداءك؟ هل المدرّس واحد منهم؟
من خلال الأجوبة، يتضح أن التلميذين لم يفكّرا قط في هذه الأسئلة، وقد قاما بجريمتهما على أساس أنهما يلعبان فقط، وحين سألت أحدهما عن الفكرة التي تدور بذهنه وهو في الطريق إلى الثانوية قال إنه يريد أن «يجنّن الأستاذ».
تبين هذه الأجوبة مسألتين:
الأولى، أن تلميذ هذا الجيل، يتصرف دون أن يدري، على أساس أن المدرّس عدو مبين تتجمع فيه سلطة المجتمع ضد المراهق. وهذا عداء شخصي يخلو من أية دلالة سياسية، بخلاف أجيال سابقة، كانت تعتبر السلطة عدوّة، وهذا عامل تحريض لممارسة السياسة عبر تأليف جمعيات والانضمام للأحزاب.
الثانية، أن العنف، وبسبب شدة انتشاره لم يعد يُلاحَظ. صار جزءاً من الحياة اليومية، حتى أن دق مسمارين في كرسي يفسر كلهو فقط.
بعد الحوار أمام التلاميذ، طلبت من التلميذين إحضار والديهما، وهنا تغيرا تماماً، صارا يتوسلان لأسامحهما ويقسمان بأنهما لن يكررا فعلتهما.
أكدت على طلبي، فجاء التلميذ الأول بأمه التي قالت إن زوجها يعمل في منطقة بعيدة، ولا يقيم مع الأسرة ونصحتني بأن «أعجن وجه ابنها إن ارتكب أي خطأ». التلميذ الثاني أحضر والده، كانت عينا التلميذ مبتلتين بالدموع، وكان الأب هائجاً حين حاولت أن أشرح له جوهر المشكل، رد علي «أنا أعرف ابني أفضل منك، الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالعنف»، ولوّح بقبضته في الهواء أمام وجهي. حينها تذكرت أن أبي كان يقيد أخي إلى شباك النافذة الحديدي ويضربه بحبل مبلل بالماء، وأنا نجوت لأن جدتي تكفلت بتربيتي.
للإشارة تقع الثانوية التي أنجزت فيها الاستمارة وسط حي صفيحي ضخم ليس من السهل دخوله، حي يعيش البطالة والجريمة والدعارة، تسكنه أسر فقيرة مفككة أمية في معظمها، تعنّف أبناءها لأنها عاجزة عن توفير متطلباتهم، وأعترف بأني سعيت للانتقال من تلك الثانوية في أول فرصة حفاظاً على سلامتي البدنية والعصبية.
في تعليقه على كسر ذراع أستاذ مادة الفلسفة، قال مدير الثانوية التي جرى فيها الحادث «إن الأسرة التي لا تحترم المدرّس قد توحي لابنها باستخدام العنف». والعنف يولّد الحقد، والحقد يحوّل القلوب إلى رماد. وهكذا تصبح البيئة المحيطة ضد قيم المؤسسة التعليمية، وحينها يفقد باب المؤسسة دوره، لا يبقى حاجزاً بين عالمين، بل يزول لتصير المؤسسة التعليمية امتداداً للشارع، حيث العنف يومي وكثيف، عنف لفظي ومادي. وقد أكدت دراسة رسمية أن 63% من المتزوجات في المغرب يتعرّضن للعنف في المنزل، والذي يضرب حبيبته لن يوفر أولاده. وليس صدفة أن يشهد المغرب ست حالات طلاق كل ساعة، وحالة طلاق كل ست دقائق في مصر.
وهذا العنف البدني والاقتصادي والنفسي، هو ذاته الذي تعيد المؤسسة التعليمية إنتاجه، لتنتج فرداً مقهوراً، فرداً ينطبق عليه قول ابن خلدون في مقدمته «ومنْ كان مرْباه بالعسف والقهر من المتعلمين... سطا به القهر وضَيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحُمل على الكذب والخبث» (ص 538).
هذا الفرد المعنّف، الذي لم يعش مراحل نمو فكري سليم، تغلب عواطفه على عقله، لأنه تعوّد العنف والخصام، والخصام يوّلد الجفاء، بل «جفاف» الشخصية، لذا يجد هذا الفرد صعوبة في أن يترقى إلى مرتبة المواطن، لا يستطيع أن يشارك في نقاش هادئ، ويسهل تحريضه. وهكذا ينعكس سلوكه على المجتمع ككل، وكما يقول فرانز كافكا: «يتوقف مستوى الجماعة على مستوى وعي الفرد».
تظهر هنا العلاقة بين علم الاجتماع وعلم السياسة. فالخلل في بناء الفرد يسبب خللاً في بناء المجتمع، وهذا يسبب خللاً سياسياً، يتجلى في أحزاب وكيانات تمارس القهر وتضيق بالنقد، تخافه، كيانات سياسية كسولة تورَّث بسهولة، تخشى الشفافية فيعشش فيها الفساد، تسير بالكذب والخبث فتخشى المراقبة والمحاسبة... وهي بذلك تلفظ كل من لا يتقن هذه الألاعيب، وهو يبتعد عن تلك الكيانات لأنها تضيّق نفَسه وحريته.
حينها يخلو الجو للبيض الفاسد يطفو على سطح المشهد السياسي.
* صحافي مغربي