وسام الحاج *توفّيت والدة محمّد دحلان، القيادي في فتح، وعدوّ حماس اللدود. فأكدت هذه الأخيرة، على لسان أكثر من ناطق باسمها، على تعاملها مع القضايا الإنسانية بحساسية، في إشارة إلى إمكانية السماح بدخول دحلان للمشاركة في دفن والدته.
طبعاً، من حقّ دحلان أن يحزن، وأن يشارك في دفن والدته. ولا علاقة لذلك بتقييم الرجل، ومسلكه وعلاقاته ومن يخدم، وهي كلّها مدموغة بالسلبية الشديدة، وهو أقل ما يقال. ويجب على حماس أن تكون إنسانية في مثل هذه الحالات. لكن من حقي كفلسطيني، وغزّي عاش قذارة لحظات الاقتتال المريع (والمعيب) بين الطرفين ورعبه، أن أتساءل أين كانت الإنسانية حين عاش كل أهل غزة مواقف غير إنسانية: أوقف الناس فيها على الطرق وأطلقت النار على أرجلهم وأيديهم بسبب اللحية لدى بعضهم، أو بطاقة الانتساب للأجهزة الأمنية أو حتى بسبب تشابه في الأسماء.
يُرجّح بعض محترفي التحليل في الشأن الفلسطيني أن هذه التصريحات من حماس هي غزل سياسي للوصول إلى صلح ما مع دحلان وفريقه. ويرجح بعضهم الآخر أنها لا تتخطى الدبلوماسية الإعلامية حتى لا يجعل دحلان من نفسه شهيداً لسلوك حماس اللاإنساني من خلال حملة إعلامية، وهو رجل الإعلام بلا منافس منذ أن كان رجل أمن، فما بالك وقد أصبح مسؤول الإعلام! رحم الله والدة السيد دحلان، فلا ذنب للمسكينة التي ذهبت للقاء ربها، وأدام إنسانية حماس، علها تتسع قليلاً لترق على أمهات المعتقلين السياسيين الذين تعرّفوا على كرم الضيافة في السجون على الطريقة العربية. هنا يجدر التنويه للقارئ العربي أن الفلقة مثلاً، لم نعرفها في سجون الاحتلال، بل في روايات معارضي الأنظمة العربية، وأخيراً في السجون الفلسطينية بسلطتيها الوطنيتين. ما يضج به قلب كل فلسطيني، هو افتقادنا لإنسانية الطرفين تجاه المساكين الذين قضوا بالرصاصات الطائشة، وتصفيات الحسابات، أو غباء رجال الأمن، أو صلف السياسيين، أو كل هذا معاً.
لماذا «صبر» رئيس وزراء رام اللّه على ثلاث سنوات من التعذيب في سجون سلطته قبل أن يعترف ببعض الممارسات الخاطئة؟
هل لأحد أن يشرح لنا لماذا «صبر» رئيس وزراء رام الله على ثلاث سنوات من التعذيب في سجون سلطته (الوطنية)، ليعترف ببعض «الممارسات الخاطئة لضباط شذوا عن طريق الصواب»؟ أم أننا نفقد البصيرة والذاكرة إلى أن تأتي منظمات بريطانية ترفع قضية ضد حكومتها لدعم هذه الأخيرة حكومة تمارس التعذيب في السجون!؟ لكن، لأن الحكومة الشرعية لا تخطئ، سأحاول الاعتقاد بخطأ تحليلي، سيئ الظن، وسأصدق ما قاله (وما سيقوله) الناطق الرسمي بأن بعض المعتقلين الإسلاميين انتحروا، وبعضهم كان نصف ميت قبل أن يصل إلى المعتقل، وبعضهم الآخر مات فجأة دون سابق إنذار. وسأصدق الناطقين باسم حكومة حماس (الراشدة) بأن لا حالات اختطاف خارج القانون، ولا تعذيب يؤدي إلى الموت، ولا سلوك غير إنساني لأجهزتها الأمنية، ولا أم تُعتقل بدل ابنها المطلوب (!)، وتقضي في الطريق(؟؟).
لا سلطة مخطئة في فلسطين، بل هم أبناء الشعب الذين يخطئون بموتهم بين رصاصات المتقاتلين على السلطة أو في سجونها.
يحاول بعض الناس إقناعي بأن أبناء حماس دمويّون وقتلة وطالبان، ويحاول بعض الناس إقناعي بأن أبناء فتح عملاء وخونة ومتصهينون. وأنا مقتنع بأن هؤلاء الذين تربيت معهم في شوارع المخيم، هم لا قتلة، ولا عملاء. وما زلت أذكر عشرات المرات التي رأيت فيها أبناء هذا التنظيم يعيرون السلاح أو الذخيرة لأبناء التنظيم الآخر في مواجهة الاحتلال. كانوا إخوة وأصدقاء وجيراناً، يختلفون حيناً ويتفقون أحياناً. كل ما حصل هو أن الزعماء اختلفوا. فمات البعض في الاشتباكات، واعتقل البعض، وتمت تصفية البعض الآخر، وأصبح الآخر قائداً، واعتكف الكثيرون في بيوتهم من هول المأساة. اليوم يتذكر القادة أنهم بشر (مثلنا؟!) لحزن بفقد قريب عزيز، أو بلفتة «إنسانية».. هل سيفكرون في هذه المناسبة بأن يذكرونا بأن جيراننا ليسوا عملاء، أو دمويين قتلة، أو قادمين من كوكب المريخ؟ هل للطرفين أن يفكرا في موقف إنساني يحترم الملايين الأربعة من الأحياء، وعشرات آلاف الشهداء؟ هل للطرفين أن يبحثا عن مصالحة قائمة على المسؤولية الوطنية، وعلى المبادئ والمشروع الذي لاقينا فيه كل ما لاقينا منذ قرن مضى حتى يومنا هذا؟
للأسف، الحراك السياسي لكلا الطرفين يشير إلى أننا سنبقى بين الانصياع لقرارات سيد البيت الأبيض والذهاب لمفاوضات لا طائل منها مع احتلال لا يرى فينا إلا أهدافاً لبنادقه. وشرعية نتشبث بها لنحكم شعب من الأسرى، أسرى الشرعيتين، والاحتلال معاً.
* صحافي فلسطيني