وائل عبد الفتاحالسفير الإسرائيلي في مصر ابتسم وهو يعلن «التعاون الأمني غير المسبوق بين مصر وإسرائيل». الرئيس مبارك كان غاضباً وهو يرسل رسائل تحذير «لن نتهاون في ما يمسّ أمن مصر… وسيادتها».
بين الابتسامة والغضب مفاهيم غامضة لمصطلح «الأمن القومي». وغوغاء على الجانبين. صيّادو خيانة القضية على جانب، وجوقة الوطنية المصرية على الجانب الآخر.
مع الابتسامة والغضب، صفّق جانب من الجوانب. لم يتفقا أبداً. لم يسمحا أيضاً لطرف ثالث بأن يجد لنفسه مكاناً. صوت العقل لا يسمع. طنين الغوغاء يصمّ الآذان ويصيب القلوب بمزيد من الأسى. لا يمكن الإفلات من جاذبية الغوغاء، فترى نظام مبارك على جانب خائن وعميل وعدو ضليع في إشعال حروب أهلية ضد العروبة وأنظمة المقاومة، وعلى الجانب الآخر هو بطل العقلانية والحكمة والسيادة الوطنية.
يبحث الطرفان عن «مشروع» يُشغل به نظام مبارك. الطرف الأول يستدعي عروبة عبد الناصر، والثاني يفضل انقلاب السادات إلى مصرية منفلتة تماماً من مدارات العروبة.
بينما نظام مبارك لا يُشغل بالمشروع ولا بتداعياته أو بقدرته على «حل مشاكل مصر»، كما يرى عشاق البحث عن سبب فخم للأزمات. هؤلاء يرون أن كل الأزمات سببها غياب المشروع القومي، وأن وجوده يعني اختفاء الأزمات.
الرئيس مبارك لديه مفهوم خاص لفكرة «المشروع»، قاله عندما سئل في بداية عهوده الطويلة عن غياب المشروع القومي، استنكر وردّ ببداهة ملحوظة: «كيف تقولون ذلك؟ نحن لدينا مشروع المترو وإصلاح البنية التحتية».
المفهوم أثار الدهشة والاستغراب وصدم كل المؤمنين بمفهوم «المشروع»، الذي سبق مفهوم الأمن القومي في التحول إلى «حقيقة مطلقة» يخرجها المهتمون بالسياسة من سياقها التاريخي وتستخدم مثل أيقونات جلب اللعنة أو تحذير الغرباء من الاقتراب.
يتباهى الرئيس مبارك بتضحيات مصر في سبيل القضية الفلسطينية، ويردد كلاماً شعبوياً عن الفاتورة الباهظة التي دفعها المصريون وكانت سبباً في تدهور أوضاع مصر الاقتصادية.
التاريخ ملعب جيد بالنسبة إلى حكومة ترى نفسها زائرة. تتفرج. تنتقد غياب الدين المستنير في الأزهر والكنيسة، كما فعل الرئيس تعليقاً على أحداث نجع حمادي. تُدهش الحكومة أيضاً لوجود شحن طائفي. وتعجب من توترات المجتمع والتعاطف مع حصار غزة. دولة طيبة، ساذجة، تترفع على السياسة. تتحرك بغريزتها غالباً. غريزة البقاء. الطفو فوق كل الأحداث. وهي «سياسة» ناجحة حولت الحكومة إلى قدر، وسياستها إلى موديل ومعجزة. لا تفعل شيئاً، ومستمرة في موقعها. تتّكئ على تاريخ تعدّه سبب اللعنة.
وزارة الخارجية قررت إقامة غرفة عمليات لمتابعة مباراة مصر والجزائر المقبلة. الوزير أيضاً مهتم. بماذا؟ وكيف؟ لم تعلن مبادرتها، كأنها رابطة مشجعين أو كأنها وكالة تسفير للجمهور الكروي. لم تفعل ذلك في أزمات القراصنة أو المهاجرين غير الشرعيين. تفعل ذلك خلف منتخب كرة القدم.
تسييس في غير محلّه. وتفريغ للسياسة من مواقعها الأصلية. ما هي العلاقة بين رسم صورة النظام الحامي لجمهور مجروح وصورة أخرى عن نظام يحمي حدوده من «الأشقاء» ويتعاون تعاوناً وثيقاً مع أمن «الأعداء»؟
العيب طبعاً في «الأشقاء» المزايدين وحروبهم الإعلامية وليس في قدرة «الحكيم» على ترويض المتمردين على بطريركية الأب والمشتاقين إلى الحنان في الوقت نفسه.
الرئيس مبارك كان في برج العنف وهو يهاجم ويحذر بالوثائق الدامغة. ربما لأنه لم يصدق بعد أن مصر كبيرة من دون مزايدة، والأزمة ليست في كراهية مصر بل في أن محبتها تندفع باتجاه النوستالجيا لا إلى الواقع.
مبارك كان لديه فرصة تاريخية وهو يتخلص من إرث الوصاية المصرية على العرب. كان يمكنه بكل ما يمتلك من كراهية للإيديولوجيا والمشاريع الكبيرة أن ينقل مصر من الأبوة التاريخية إلى رعاية نمو الأشقاء وثقافتهم الخاصة.
مبارك فرصة ضائعة في تحرر العالم العربي من «المركزية المصرية» من دون العنف الحالي، لكن الذي حدث هو التمسك بالمركزية المصرية، ولكن من دون فاتورتها الباهظة ولا «مشروعها» الثقيل في التوحيد القياسي للعرب.
لكنّ النظام اختار الوقوف الذي يبدو أنه حركة. لا هو أرضى إسرائيل تماماً ولا انسلخ من الأجندة العربية تماماً، وأيضاً لم يستقل من وظائف الرعاية الاجتماعية للمواطنين. وفي الوقت نفسه لم يتحول إلى نظام إدارة فقط. والأهم أنها تبرمت من رسم السياسة حسب شعارات النضال لكنها لم تتخل عنها تماماً.
الغريزة تلعب على كل التناقضات. لعب ينهك قوى المجتمع الذي لم يعد أمامه سوى الانضمام إلى قوافل الغوغاء الباحثين عن فريسة يثبتون فيها وجودهم أو السخرية، كما فعل نقاد الموقف الرسمي من موقعة الخرطوم (مباراة التأهل إلى المونديال مع الجزائر) فصمّموا مجموعة على موقع «فايسبوك» عنوانها: «الحملة الشعبية لمنع الفنانة فردوس عبد الحميد من السفر إلى أنغولا».