ياسين تملالي*في 13 كانون الثاني/ يناير، وضعت العدالة الجزائرية رهن الرقابة القضائية الرئيس المدير العام للشركة البترولية سوناطراك، محمد مزيان، وأمرت بسجن بعض كبار معاونيه، ووجهت إلى كل هؤلاء تهمة الارتشاء وإبرام صفقات مشبوهة مع مكاتب دراسات أجنبية. وحسب ما أوردته الصحافة الجزائرية نقلاً عن مديرية البحث والأمن (وزارة الدفاع) التي تولت التحقيق الأولي في القضية، لا تقل قيمة الصفقات المذكورة عن مئات ملايين الدينارات.
وتعد هذه الفضيحة زلزالاً سياسياً حقيقياً. فسوناطراك أكبر مؤسسة اقتصادية في الجزائر (بل في أفريقيا كلها)، إذ تجاوز رقم أعمالها 61 مليار دولار في 2008، فيما بلغ صافي أرباحها في السنة ذاتها 9،2 مليارات دولار. ويكفي أن نعرف، لندرك دورها المركزي في الاقتصاد الجزائري، أن موارد الصادرات النفطية والغازية تمثل 98 بالمئة من عوائد البلاد الخارجية، وأن الجباية على إنتاج المحروقات تموّل نصف الميزانية السنوية.
وليست هذه أول مرة يلقي فيها الفساد بظلاله على هذه الشركة. ففي 2006، كشفت المفتشية العامة للمالية عن إبرامها صفقات كثيرة «بالتراضي» (أي دون مناقصات علنية) مع «بي آر سي»، ودفعها مبالغ باهظة إلى هذه الشركة لقاء خدمات كان يمكن الحصول عليها بأقل مما أنفقته بكثير.
وقبل أسابيع من رفع النقاب عن آخر قضايا الفساد في سوناطراك، أمرت العدالة بسجن مسؤولين سامين في وزارة الأشغال العمومية التي يسيرها الإسلامي عمار غول، ومنهم الأمين العام للوزارة ومدير ديوان الوزير. وقد وجهت إليهم تهمة الحصول على رشى من مجمع مؤسسات صيني (CITIC-CRCC)، مقابل إعطائه معلومات سرية مكنته من الفوز بمشروع إنجاز الشق الغربي من «الطريق السيار شرق ــــ غرب» الذي تبلغ تكلفته الإجمالية ما لا يقل عن 12 مليار دولار.
ويطرح السؤال: إذا نجحت المفتشية العامة للمالية سنة 2006 في إماطة اللثام عن تضخيم فواتير «بي آر سي»، فلماذا لم تكتشف التضخيم نفسه في صفقات أخرى أبرمتها سوناطراك؟ ولماذا لم تنتبه إلى أنها عقدت في السنوات العشر الأخيرة ما لا يقل عن 1600 صفقة بالتراضي؟ ويزيد هذا التساؤل إلحاحاً أن إبرامها هذه الصفقات وتضخيم عملائها لفواتير خدماتهم هما حديث العام والخاص منذ سنوات عدة.
يصعب تصديق عقد مؤسسة تشارك بنسبة الثلث في الناتج الوطني الخام كل هذه الصفقات دون علم المسؤولين في أعلى هرم الدولة. لهذا السبب بالذات، تبدو حملة «الأيادي النظيفة» التي أطلقتها الحكومة أخيراً شديدة الشبه بعملية تصفية حسابات داخل الجهاز الاقتصادي، هدفها إعادة توزيع مراكز التحكم في تسيير الريع البترولي. ويزيد من اقتناعنا بذلك أنها ليست الأولى من نوعها، فما زلنا نذكر أن الوزير الأول الحالي، أحمد أويحيى، أعلنها حرباً شعواء على الفساد في 1996، وأن هذه الحرب لم تسفر عن شيء سوى سجن العشرات من الأبرياء.
ويلاحظ أن الخطاب الرائج عن «خلقنة الحياة الاقتصادية» يتفادى مجرد الإشارة إلى مسؤولية الحكومة عن إرساء مناخ اقتصادي غير شفاف بسعيها إلى الحد من رقابة البرلمان على تسيير قسم لا يستهان به من الموارد المالية العمومية. هذا الخطاب يتناسى مثلاً أن النواب لا يعلمون شيئاً عن طريقة إنفاق فوائض موارد الخزينة (أكثر من 60 مليار دولار حالياً)، وأن التصرف فيها حكر على موظفين في وزارة المالية لا يعصون أصحاب القرار ما أمروهم، ويفعلون ما يؤمرون. وتهدف حملة «مكافحة الفساد»، من جهة، إلى التغطية على فقدان الحكومة صدقيتها بعد تبين التناسب العكسي بين إثراء الدولة الفاحش وتدهور الوضع الاجتماعي، ومن جهة أخرى، إلى حصر أسباب أزمة الاقتصاد في الرشوة وغيرها من الجرائم الأخلاقية. لذا لا نسمع فيها أي تساؤل عن عجز التوجهات الليبرالية خلال ما يقارب العقدين عن تطوير اقتصاد يملك كل مقوّمات النمو.
ومن المواضيع التي تثار كلما انكشفت قضية فساد هي «اللجوء المفرط وغير المبرر إلى الخبرة الأجنبية». وإذا عرفنا أن الحكومة تسعى حالياً إلى التضييق على الاستثمارات الخارجية، وأن دافعها إلى ذلك هو إفادة «الرأسمال الوطني» وبيروقراطية الجهاز الاقتصادي من ازدياد الريوع النفطية، نخمن أحد دوافع كشف فضيحة سوناطراك الأخيرة: إزاحة لوبي اغتنى بفضل إبرام صفقات مشبوهة مع جهات أجنبية بغرض تعويضه بلوبي «وطني»، سيبرم الصفقات المشبوهة نفسها مع جهات محلية وربما خارجية أيضاً.
وقد ازدادت فضائح الفساد بامتلاء خزائن الدولة بمئات مليارات الدولارات. فالجزائر تمتلك حالياً احتياطي صرف ضخم قدر بـ 144،3 مليار دولار في حزيران/ يونيو 2009، فضلاً عن عشرات المليارات الجاهزة للاستعمال في «صندوق معادلة نفقات الدولة» الذي تُصب فيه الفوائض الناتجة من تباين السعر المرجعي لبرميل النفط المعتمد في الميزانية السنوية عن سعره في السوق العالمية (بلغ الفرق بينهما في تموز/ يوليو 2008 مثلاً حوالى 120 دولاراً).
وبدءاً من 2001، أطلقت استثمارات عمومية لم تشهد الجزائر لها مثيلاً منذ الاستقلال. إذ بلغت ميزانية «برامج دعم النمو» حوالى 200 مليار دولار بين 2001 و2009 وحوالى 150 مليار دولار بين 2010 و2014. وزادت هذه الاستثمارات تكالب الرأسمال الأجنبي على ثروات البلاد، وأغرت مخصصاتها بعض المسؤولين بأن يغرفوا منها ما شاؤوا، سواء مباشرة عن طريق الاختلاس، أو بتسهيل عقد صفقات خيالية مقابل رشى خيالية هي أيضاً (تجزم بعض المصادر الصحافية بأن قيمة الرشوة التي قدمها المجمع الصيني لمسؤولي وزارة الأشغال العمومية لا تقل عن 530 مليون دولار).

تبدو حملة «الأيادي النظيفة» أشبه بعملية تصفية حسابات داخل الجهاز الاقتصادي
وبالطريقة نفسها، وفي ظل عجز أجهزة الرقابة عن أداء مهماتها، ازدادت فضائح الفساد في سوناطراك بتنامي استثماراتها في السنوات الأخيرة (32 بالمئة بين 2007 و2008 مثلاً)، ومنها بناء ميناء غازيّ جديد وتحديث مركبات تمييع الغاز الموجه للتصدير وإنشاء أنابيب جديدة لنقله إلى أوروبا، فضلاً عن رفع طاقة الأنابيب العاملة حالياً (زيادة طاقة أنبوب «جالسي»، بين الجزائر وإيطاليا، من 26 إلى 33 مليار متر مكعب سنوياً).
وتبرر الحكومة هذه الاستثمارات الضخمة (9 مليارات دولار سنوياً حتى 2012) بضرورة زيادة صادرات المحروقات، وهو نفسه ما بررت به في بداية الـ2000 قانوناً (تم التراجع عن أهم بنوده، لحسن الحظ) كاد أن يفتح باب الاستثمار في ميدان الطاقة على مصراعيه للشركات المتعددة الجنسيات.
ويزيد شرعيةَ التساؤل عن الدوافع الخفية لهذا الهوس الاستثماري أن الكثير من الخبراء (ومنهم من تقلد سابقاً مناصب عالية في وزارة الطاقة وسوناطراك) يحذرون من أن مآله النهائي هو ضخ كل بترول الجزائر وغازها في وقت قياسي إلى خزّانات الدول الصناعية. وعكس وزير الطاقة، شكيب خليل، الذي يلح على ضرورة «الاستغلال الأمثل للمحروقات» تحسباً لتراجع دورها في الاقتصاد العالمي، يدعو هؤلاء الخبراء إلى التقتير في تصديرها أخذاً في الحسبان لصعوبة استبدالها عاجلاً بمصادر طاقوية بديلة.
* صحافي جزائري