وسم صراع الأمراء الحكمَ في السعوديّة منذ وفاة المؤسّس. تفرّق الأبناء في أجنحة وفرق وعصابات وشلل. صحيح أن الملك فهد فرض سيادة الجناح السديري القوي، لكن صعود وليّ العهد عبد الله منذ التسعينيات قلّل من نفوذ السديريّين، وزاد من استعار الصراع بين الأمراء في معركة خلافة لم تُحسم بعد. وبندر هو الأمير الوحيد من بينهم الذي لم يخفِ طموحاته الملكيّة أمام صحافيّين غربيّين
أسعد أبو خليل*
يشغل الأمير بندر بن سلطان الكثير من التعليقات والمقالات والكتب. وهناك كتابان على الأقلّ صدرا بالإنكليزيّة عنه، بالإضافة إلى كتب أخرى تتطرّق إلى أدواره في السياسة الخارجيّة لأميركا. بوب وودورد يتخصّص في الترويج له. كتاب «الأمير» لمؤلّفه ويليام سمبسون، وهو نديم للأمير، يستحق أن يُدرج في إطار السير الرسميّة الدعائيّة. كانت رواية سمبسون مبنيّة على الرواية الذاتيّة للأمير، مطعّمة بمبالغات ومزاعم لا أدلّة أو قرائن عليها. كانت لا تقلّ عن الهاغيوغرافيا. ورواية سمبسون هي التي يوزّعها الأمير على أصدقائه وعلى من يلتقي بهم من الصحافيّين. أما الكتاب الجديد، للصحافي الأميركي ديفيد أوتوي، الذي يرصد التاريخ المعاصر للعلاقات السعوديّة ـــــ الأميركيّة من خلال دور الأمير بندر، فهو يختلف تماماَ عمّا صدر من قبل حول هذا الأمير ـــــ شرقاً وغرباً. وديفيد أوتوي صحافي رصين كتب

الفساد والرشوة مسموحان قانوناً في الغرب ... ولكنْ بمسمّيات أخرى
لجريدة «واشنطن بوست». صحيح أن بندر كان قريباً من معظم الصحافيّين في واشنطن ـــــ الذين كان يدعوهم إلى حفلاته الشهيرة في قصره خارج العاصمة، أو في قصره الأشهر في منتجع أسبن في كولورادو ـــــ يشير إليه الأهالي هناك بالبنان مستفظعين هذه الدعاية الفاقعة للثروة في مدينة صغيرة تفضّل التواضع في الغنى.
عمد بندر إلى التقرّب عبر السنوات من كبار الصحافيّين والمعلّقين في العاصمة، حتى لا نتحدّث عن السياسيّين. لا تذكر الكتب والمقالات المنشورة عنه أن نمط عمله الدبلوماسي كان في الظاهر أقرب إلى تجربة سفير الشاه في واشنطن، أردشير زاهدي. كان الأخير يتقرّب من النافذين والنافذات (حتى لا ننسى الصهيونيّة المتعصّبة، بربارة والترز، صديقة أنور وجيهان السادات) في وسائل الإعلام عبر الإنفاق السخي. الكتاب المرجع عن العلاقات الأميركيّة ـــــ الإيرانيّة في عصر الشاه، «النسر والأسد» لعالم السياسة الأميركي جيمس بيل، حلّل الأسس الحقيقيّة للنصرة الإعلاميّة الأميركيّة لنظام الشاه. رصد بيل طرق تقرّب زاهدي من إعلاميّي واشنطن. أغدق عليهم الأخير النفيس من الهدايا، من مجوهرات وسجاد عجمي وكافيار، بالإضافة إلى دعوات فخمة لزيارة إيران. وحصل على ما أراد. كان الإعلام الأميركي يعتّم على قمع الشاه ويهمل تغطية حركة المعارضة النامية في إيران ضد حكمه، وضدّ الدعم الأميركي لطغيانه. الفساد والرشوة لا يزالان مسموحين قانونيّاً في الدول الغربيّة، ولكن بمسميّات أخرى. هدايا وعمولات وعقود استشاريّة وما شاكل. هذا ما فعله بندر، وكانت حفلاته شهيرة، وكانت نخبة واشنطن تتنافس لتلقّي الدعوة إلى حضور حفلات ذكّرت من حضرها بما ترسّب في مخيّلة الاستشراق عن «ألف ليلة وليلة».
استفاد الصحافي الأميركي بوب وودورد من قربه من بندر، وبدأ منذ التسعينيات بنشر كتب عن السياسية الأميركيّة الخارجيّة تعتمد في الكثير منها على أحاديث بندر وخياله. وودورد، المعروف بإهماله معايير الصحافة الرصينة والاعتماد المفرط على المراجع غير المُسمّاة (المجهولة لدى القارئ)، يروِّج لمن يقبل بالتحدّث إليه وينتقد من يرفض أن يتحدّث. لعبته باتت معروفة لكنها ساعدته لأن نخبة السلطة تريد تغطية ممالئة. حتى بوش تحدّث إليه وحصل على تغطية ترويجيّة في عهده الأول. تستطيع أن تشبّه أسلوب وودورد بأساليب الصحافة الفضائحيّة. جعل وودورد من بندر «بطل» صنع السياسة الخارجيّة والماهر في صنع المؤامرات الاستخباراتيّة الخطيرة. ولم يكن مرجع وودورد عن بندر ومغامراته ـــــ منذ كتابه «حجاب» الذي وضعه عن عهد بوش ـــــ إلا بندر نفسه. وعندما نشرت مجلّة «نيويوركر» قبل أعوام (آذار 2003) مقالة طويلة ـــــ الأولى من نوعها قبل صدور كتب عنه ـــــ للصحافيّة إلزا ولش، لم تذكر المجلّة أن ولش هي زوجة وودورد، صديق بندر ونديم حفلاته الشهيرة. وكانت المقالة من دون مفاجآت ومن دون نقد. وفيها بدأ بندر بإعادة كتابة تاريخ السياسة الخارجيّة للسعوديّة، ولدوره فيها. تستطيع أن تتبيّن مدى رضى بندر عن مقالة وولش من خلال نشر المقالة على موقع السفارة السعوديّة في واشنطن، وهو لا يزال مثبتاً. وفي المقالة زعم بندر أن المملكة لم تكن راضية عن سلوك عرفات في قمة كمب ديفيد وأن السعوديّة حثّت عرفات على قبول عرض باراك. طبعاً، ليس هناك دليل على ذلك. على العكس، فمن المعروف أن عرفات اتصل بالحكومة المصريّة والسعوديّة آنذاك وامتنعت الحكومتان عن حثّه على القبول، خشية حكم التاريخ الظالم على نصيحة القبول. وأستطيع أن أؤكّد بعد استشارة مستشار في عهد كلينتون أن زعم بندر غير صحيح في هذا الصدد.
المهم أن كتاب ديفيد أوتوي هو غير هذا، ويتضح ذلك منذ البداية. في كتابات وودورد وزوجته، بندر يتحدّث والاثنان يدوّنان دون محاولة التحقّق من الروايات والمزاعم والبطولات والمغامرات التي يستسيغ بندر أن يعزوها لنفسه. أوتوي يتحقّق من كل مقولة ومن كل رواية وهو، للحق، يشير إلى تناقضات كلام بندر وإلى مبالغاته بالإضافة إلى كذبه. وهناك أكثر من مثال في الكتاب. لم يجد أوتوي، مثلاً، دليلاً على أن رونالد ريغان أيّد صفقة طائرات «إف 15» التي اقترحتها إدارة كارتر. (ص. 34). وجد أوتوي أن رواية بندر حول الموضوع وإشارته إلى عنوان جريدة «لوس أنجلس تايمز» كانت مختلقة من أساسها. كما أن أوتوي لم يجد أي دليل ـــــ وليس هناك من دليل ـــــ أن إدارة ريغان اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينيّة بضغط من الحكومة السعوديّة (ص. 75). الأمر أبسط من ذلك بكثير. اضطرّت إدارة ريغان للاعتراف بمنظمة التحرير لأنها وقعت ضحيّة لسياساتها هي: وضعت الحكومة الأميركيّة في عهد هنري كيسينجر شروطاً مفصّلة لا يمكن بدونها التفاوض مع منظمة التحرير، وكان أن عرفات قبل بتلك الشروط، لا بل إنه قبل أكثر منها، كما أنه قبل الإمعان في إذلاله على يد وزير الخارجيّة الأميركي جورج شولتز، الذي أرسل بالفاكس نصّاً كي يقرأه عرفات ـــــ ويتلعثم في قراءته، أمام عدسات الكاميرا. السعوديّة كانت متفرّجة لا أكثر.
لم تكن طفولة هذا الأمير عاديّة. ولد لخادمة يمنيّة في سن السادسة عشرة، اسمها خيزران. لا ندري تفاصيل أو ملابسات حملها، ولا ندري إذا كانت مُستعبدة، لأن معظم حاشية أمراء آل سعود كانوا حتى الستينيات ـــــ وما بعد ـــــ من العبيد والجواري. لكن ولادته فصلت بينه وبين إخوته من أبناء الأمير سلطان «الشرعيّين» وبناته ـــــ الشرعية بمقياس أمراء آل سعود، وبمقياس يميّز على أساس شروط الولادة وظروفها. لكن بندر كان قريباً من جدته، حصّة بنت السديري. كان يجب أن يُكتب سيرة عن تلك المرأة القويّة، لكن الكتابة عن نساء آل سعود من المحرّمات. وقربه ـــــ أو تقرّبه ـــــ من حصّة ساعده في التقرّب من عمّه فهد، الذي كان مسؤولاً عن صعوده السريع، لا أبوه الذي لم يكن يفضّله وكان يعامله بالكثير من القسوة والفظاظة باعترافه هو في شهادة كتاب سمبسون. حط رحاله في بريطانيا لدراسة الطيران الحربي، أو للتدرّب عليه، لكنّه لم يجلّ، باعتراف رفيقه في الطيران، سمبسون. ولا يعلم العرب أن ملوكهم وأمراءهم وزعماءهم الذين يتلقّون علوماً في الدروس العسكريّة مثل ساندهرست أو غيرها، لا يخضعون للدراسة المعهودة بل إنهم يتلقّون دروساً خاصّة ومُلطّفة ومختصرة، ليعودوا إلى بلادهم حاملين شهادات لا يستحقونها (وقد حصل على شهادة ساندهرست، الكثير من الزعماء العرب من حسين إلى ابنه عبد الله، أو خالد بن سلطان أو قابوس بن سعيد أو محمد بن زايد). قل إنها شهادة المُستعمِر من أجل تأهيل وكلاء الاستعمار المحلّيين للحكم في المستقبل.
لكن بندر بدأ بالحياة السياسيّة هنا في أميركا. وقد قرّر على ما يبدو مُبكِّراً أن يبني لنفسه قاعدة شعبيّة داخل الحكم في أميركا، لا في السعوديّة لافتقاره إلى شروط الدم والولادة والنشأة. وبعدما تلقّى تدريبات عسكريّة «خاصّة» طبعاً، باشر مهماته بالعمل لإقناع أعضاء الكونغرس بضرورة الحصول على صفقات أسلحة. وكانت الحملة الأولى لشراء طائرات إف 15 في عهد جيمي كارتر، ثم ألحقها بصفقة «أواكس» في عهد ريغان. لكن صفقة «أواكس» كانت بداية لعلاقة استراتيجية بين الولايات المتحدّة والمملكة السعوديّة. لم توافق المملكة فقط على وضع شروط وضوابط ومراقبة أميركيّة على عمل الطائرات واستعمالها، بل إن مستشاراً أميركيّاً، هو سام باميه، كشف في شهادة أدلى بها أمام الكونغرس الأميركي عام 1987 للتحقيق في تمويل الحركة الرجعيّة الأنغوليّة، لجوناس سفمبي، أن فهد بن عبد العزيز قال أمامه إن المملكة تعهّدت بأن تموّل كل الأعمال الأميركيّة ضد الشيوعيّة حول العالم مقابل طائرات «أواكس» (ص. 77). هكذا دشّن بندر بن سلطان نشاطه الدبلوماسي في واشنطن حيث عيّنه عمّه، فهد، مستشاراً عسكريّاً قبل أن يرقّيه إلى مرتبة سفير عام 1983. احتاج بندر لشهادة عليا، فرُتّب له أمر الحصول على ماجستير في مدرسة الدراسات الدوليّة العالية بجامعة جون هوبكنز (يلمّح أوتوي إلى أن مستشاراً لبندر هو الذي رتّب قبول بندر في «برنامج خاص» في الجامعة، وربما بالدراسة والكتابة عنه في مدرسة غير معروفة برصانتها الأكاديميّة) (ص. 40).
ومن الواضح أن فهد بن عبد العزيز هو الذي رفّع بندر وعظّم دوره، ولكن من الأوضح أيضاً أنه ما فعل ذلك إلا لإرضاء واشنطن. إذ إن فهد لم يكن ملمّاً بمجريات الصراع الذي دار بين اللوبي الصهيوني واللوبي السعودي في أول صفقة أسلحة (قبل أن تبدأ سنوات العسل بين اللوبيين في الثمانينيات)، لكن من المُرجّح أن واشنطن هي التي زكّت بندر لفهد. وتوّج تعيين بندر التفاهم الذي تمّ بين فهد ووليام كيسي (مدير وكالة الأستخبارات المركزيّة في عهد ريغان) على متن يخت فهد. أما عن دور بندر، فقد كان تنفيذاً لتعهّدات فهد منذ صفقة «أواكس». ويعترف بندر مثلاً بأن المملكة موّلت الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا عام 1985 بمبلغ 10 ملايين دولار لمنع الشيوعيّين من الوصول إلى السلطة. ويمكن التأكيد أن ما من انتخابات حرّة كانت تخوضها أحزاب شيوعيّة حول العالم لم تتدخّل فيها واشنطن (عبر المال السعودي) للتأثير على نتائجها ولدعم حلفائها ووكلائها. ولم تكن الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان ـــــ وهي كانت بحق أكثر انتخابات فساداً في تاريخ لبنان ـــــ إلا فصلاً من تاريخ من التعاون غير الديموقراطي بين أميركا والحليف السعودي.
لكن بندر أثار قلقاً ومخاوف أميركيّة أواسط الثمانينيات عندما دشن علاقات سريّة بين الصين والمملكة، أنتجت صفقة صواريخ «دونغ فانغ». علمت واشنطن بالصفقة السريّة في 1988 فقط، وهدّدت السعوديّة لأنها اعتبرت أن الصواريخ تهدّد الحليف الإسرائيلي. انتهت الأزمة بتأكيد سعودي لإسرائيل بغياب النيّات العدوانيّة أو الحربيّة من المملكة نحوها. (ص. 73). عندها، إن لم يكن قبلها، بدأت العلاقات بين بندر واللوبي الصهيوني في واشنطن. ولا يمكن تصديق مزاعم بندر أنه بادر إلى إنشاء العلاقة بمبادرة خاصّة منه. (ص. 92). الزعم هذا يتناقض مع طموحاته السياسيّة، كما أن صراع الأمراء على النفوذ يستبعد فرضيّة قدرة بندر على مجازفة كان يمكن أن تضعف دوره أو تقضي عليه. من المرجّح أن فهد وافق على المبادرة.
لكن العلاقة بين الطرفيْن توثّقت بعد حرب الخليج، وشعرت واشنطن بأن لها جميلاً لا يُردّ في الرياض. زادت الطلبات السياسيّة والماليّة من الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة، ولم يتورّع دينيس روس عن تهديد السعوديّة بحملة سياسيّة ضدّها في أميركا إذا لم ترسل وفداً سعوديّاً رفيعاً لحضور مؤتمر مدريد. (ص. 96). أذعنت الرياض، المرّة تلو الأخرى. وكافأت واشنطن بصفقات أسلحة عملاقة (27 مليار دولار بين 1990 و1993 فقط)، وكادت تلك الصفقات التي تحمّس لها بندر أن تصيب السعوديّة بالإفلاس. حرب الخليج وحدها كلّفت السعوديّة 65 مليار دولار، وفق تقدير السفير الأميركي السابق في السعوديّة تشاز فريمان. 65 مليار دولار كانت كافية لبناء جيش تحرير فلسطيني قادر على مقارعة إسرائيل. لكن أهواء آل سعود تختلف عن أهواء العرب. وقد أصابت بعض الطلبات الأميركيّة الماليّة السفير فريمان بالذهول، مثل طلب دعم (مالي) لأرمينيا ضد أذربيجان، أو طلب شراء خنازير لإطعام الروس. (ص. 105). نصيحة بندر كانت أنه يجب عدم رد طلب لواشنطن، ولم يختلف الملك فهد مع هذا التوجّه إلا لماماً.
طبعاً كان هناك بعض الخلافات بين الطرفيْن عبر السنوات. كانت إدارة كلينتون، مثلاً، تدعم توحيد اليمن تحت قيادة (أو ديكتاتوريّة) علي عبد الله صالح، فيما كان سلطان يدعم حركة الانفصال الجنوبي لأن اليمن المُوحّدة تقلق السعوديّة، على ما يروي أوتوي (ص.112 ـــــ 113 ). ما أشبه البارحة باليوم. لكن خدمات السعوديّة لم تنحصر في الأعمال «القذرة» حول العالم لتقويض اليسار والشيوعيّة والتحرّر، فالخدمات النفطيّة بالغة الأهميّة. والذي درس الوثائق التي نشرتها إيران في كتب تفوق المئة بعد الاستيلاء على السفارة الأميركيّة في طهران عام 1979 يدرك مدى اهتمام الحكومة الأميركيّة بمواضيع أوبك، ومستوى إنتاج النفط وتسعيره. ولا يدرك كثيرون أن النفط الذي تبيعه السعوديّة من أميركا يباع بأقلّ من سعره. ويقدّر خبير نفطي أن نفقات «دعم» آل سعود للنفط المبيع من أميركا يقارب الـ350 مليون دولار في السنة الواحدة.
الشكوك حول دور بندر تنامت في عهد كلينتون، لكن الإدارة، مثلها مثل كل الإدارات الأميركية منذ عهد روزفلت، لم تكن في وارد إغضاب الحليف المُطيع. غير أن فريق السياسة الخارجيّة في عهد كلينتون يعتقد أنه وقع ضحيّة خداع بندر حول نوايا حافظ الأسد قبل تلك القمّة الأخيرة بينه وبين كلينتون. وبندر لم يصدّق نفسه عندما وصل جورج بوش إلى الرئاسة. هناك من يعتبر أن بندر هو جزء من عائلة بوش: يحضر احتفالات أعياد الميلاد واللقاءات السنويّة في منتجع «كنيبنكبورت» في ولاية «مين»، وقد يكون بوش الأب هو الذي أطلق تسمية «بندر بوش» على الأمير السعودي تحبّباً. ويزعم بوش أنه شارك في تدريب بوش الابن على أمور السياسة الخارجيّة أثناء حملة الأخير الانتخابية، لكنه كان محقّاً عندما قال إنه كان قريباً من كل الفريق المحافظ الذي أتى به بوش إلى السلطة، وخصوصاً بول وولفيتز الذي قال عنه بندر إنه «أكثر موالاة للسعوديّة منّا» (دون حسبان موقفه من إسرائيل، كما أضاف أوتوي ـــــ ص 143).
كان لبندر طموحات هائلة في إدارة بوش. بدأ للمرّة الأولى المُجاهرة أمام أصدقائه في واشنطن بطموحاته الملكيّة. ليس هذا مألوفاً في تاريخ الصراعات في السعوديّة. الطموحات تبقى مضمرة، حتى يموت الملك، ويتداول الأشقاء (أبناء عبد العزيز) في أمر الخلافة. لكن صعود عبد الله بن عبد العزيز شكّل مصاعب لبندر. لو لم تحدث تفجيرات أيلول، لكانت أكبر أزمة في تاريخ العلاقات بين الدولتين ستكون حتميّة. بعث عبد الله برسائل غاضبة إلى بوش حول مواقفه من إسرائيل، وتدخّل بوش الأب لإصلاح ذات البيْن. كما أن أوتوي يضيف جانباً في لغز «استقالة» الأمير تركي من إدارة الاستخبارات قبل أيّام فقط من 11 أيلول. يقول أوتوي إنه أقصي من منصبه لقربه من الأميركيّين (ص. 151). لكن 11 أيلول غيّرت كل شيء، ودفعت بعبد الله لاقتفاء آثار السديريّين في التملّق لواشنطن، لا بل إنه زاد في قربه من واشنطن وكان أول ملك يفتح علاقات مباشرة مع إسرائيل. كله لكسب ودّ الكونغرس الذي كان يصرّ على دفع ثمن (لإسرائيل) مقابل العفو عن آل سعود.

لم يحاسب أحد الأمير على ملياري صفقة اليمامة فيما يُحاسَب تايلر أمام محكمة لاهاي على 14 مليوناً

يضرّ بمصداقيّة أوتوي أنه لم يتطرّق إلا عَرَضاً لما تسرّب عن صفقات بندر وشقيقه خالد بن سلطان وعمولاتها. صفقة اليمامة، مثلاً، التي، وفقاً لصحف بريطانيّة، بلغت نحو مليارين (وقد تكون أكبر عمليّة رشوة في تاريخ البشريّة، فيما يُحاسَب تشالز تايلر، الرئيس الليبيري السابق، أمام محكمة في لاهاي بسبب حساب سرّي بقيمة 14 مليون دولار). لكن بندر أعطى كما تلقّى، وكان يدفع الحكومة السعوديّة لـ«التبرّع» لكل القضايا العزيزة على من تكون السيّدة الأولى في واشنطن، بالإضافة إلى كل مكتبة رئاسيّة.(ص. 163). تفجيرات أيلول كانت أكبر من طاقة بندر على التحمّل. لعلّه أصيب بانهيار عصبي أو أكثر ـــــ هناك تلميح، أو أكثر، إلى ذلك. الأكيد، كما يذكر أوتوي، أن أمراضه لم تكن فيزيولوجيّة فقط. فعل المستحيل لإصلاح العلاقة مع واشنطن، والتقى إيهود أولمرت في عمان خريف 2006 (ص. 256). العدوان الإسرائيلي على لبنان قرّب بين إسرائيل وآل سعود.
قد يكون عام 2007 عام سقوط بندر الذريع. أعدّت محطة «العربيّة» على مدى 15 شهراً برنامجاً «وثائقيّاً» عن الملك عبد الله. شاهد الأخير الحلقة الأولى من لندن وأمر بوقف البث على الفور. غضب من الظهور الكثيف لبندر في البرنامج للترويج لـ... نفسه (ص. 269). وغاب بندر بالكامل عن اجتماعات بوش في المملكة عام 2008. راجت شائعات عن محاولة انقلاب بتدبير من بندر، ولكن لا دليل على صحة ذلك. يبقى من المؤكّد أن حملة بندر من أجل بندر تعرّضت لنكسة يمكن ألا تنجو منها أبداً. الساعي إلى الملك لا سلطة له، والعرش يضيق بالساعين من الإخوة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)