علاء اللامي * مع التحذير الذي أطلقه السيد مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، ومفاده أنه لن يسمح باندلاع اقتتال كردي/ كردي، ومع سقوط أول ضحية من أنصار قائمة «كوران» (أي التغيير) الكردية المنشقة عن حزب الطالباني برصاص الاغتيال في مدينة السليمانية، يكون الصراع الكردي الداخلي قد بلغ طوراً جديداً يتميز بالخطورة المتفاقمة والوضوح الشديد.
لقد تكرس واقع الانقسام السياسي الكردي الداخلي، وخصوصاً في صفوف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يقوده السيد الطالباني، وتحول هذا الحزب القديم، والمنشق بدوره عن «البارتي» أي الديموقراطي الكردستاني، في عهد البرزاني الأب، إلى كيانين سياسيين منفصلين وكتلتين برلمانيتين متخاصمتين. وبهذا التطور الفارق، يكون احتكار التمثيل الكردي من جانب التحالف الكردستاني المؤلف من حزبي السيدين الطالباني والبرزاني قد كُسِرَ إلى غير رجعة، لا سيما أن أداء قائمة التغيير بقيادة نوشروان مصطفى في الانتخابات المحلية الأخيرة في الإقليم، كان جيداً، واستعداداتها مستمرة وجادة لأداء تطمح لأن يكون متميزاً في الانتخابات التشريعية العراقية المقبلة.
فشل في فهم يوازن بين مقتضيات الاندماج الوطني والمحافظة على الحقوق القومية للمكوّن الكردي في العراق
ومع يأس الطالباني من استعادة الوحدة التنظيمية المفقودة لحزبه، واسترجاع احتكار التمثيل المنتهي، ومع قلقه البالغ من نتائج الانتخابات المقبلة التي قد لا تكون لمصلحته، كما تشير استطلاعات رأي عديدة، لجأ الطالباني شخصياً، وعدد من عناصر قيادة حزبه معه، إلى أساليب أخرى لمواجهة هذه المخاوف والأخطار. من ذلك مثلاً، لجوؤه إلى خوض سجالات صحافية مع نوشروان مصطفى، كشف فيها عن العديد من أسرار رفقتهما الطويلة، التي فاقت أربعة عقود. وقد اتهم الطالباني رفيقه القديم خلال تلك السجالات العلنية بارتكاب مخالفات بل جرائم قتل وقيادة حملات اغتيالات وتصفيات جسدية ضد من وصفهم الطالباني بـ«مواطنين أكراد أبرياء»، وذلك دون علمه كزعيم للحزب ودون علم مكتبه السياسي. كما اتهم الطالباني رفيقه السابق بأنه كان متواطئاً مع نظام صدام حسين في ارتكاب حملات إبادة الأكراد المسماة «عمليات الأنفال». وقد رد نوشروان على الطالباني بالطريقة الصحافية العلنية ذاتها، متهماً إياه بدوره بمجموعة متنوعة أخرى من المخالفات والجرائم والتجاوزات. وهكذا، وبعد أيام قليلة، انجر قياديون وكوادر من الحزبين للمشاركة في تلك السجالات التي بلغت ذروتها مع سقوط أول ضحية بالرصاص كما قلنا، وبصدور تحذير البرزاني السابق الذكر ومن ثم إعلان قراره بمنع تلك المساجلات. فما البواعث الخفية لهذا الصراع المتفاقم بضراوة، وما آفاقه؟
ليس من العسير رد هذا الصراع وتلك السجالات إلى السبب الانتخابي والتنافس بكل الوسائل على أصوات الناخبين في الشمال العراقي، وخصوصاً أن سلطات الحزبين المتحالفين الحاكمين غارقة في الفساد المالي والإداري، الذي صار شبه علني يتندر المواطنون به وعليه. غير أن هذا التفسير وحده غير كاف لإماطة اللثام عن جذور هذا الصراع. فهي تنغرس عميقاً في أزمة حركة التحرر الكردية المعاصرة التي قارب عمرها القرن من السنوات، ومن أبرز مآلاتها فشل القيادات الكردية في تحقيق أي هدف ذي قيمة حقيقية من الأهداف التي يتضمنها برنامج التحرر المعهود لحركات التحرر القومية في الدول المتعددة القوميات، أو في نسج أية علاقات تضامنية عميقة وراسخة مع شعوب المنطقة، بل تخريب الموجود منها عبر المجازر المرتكبة من المليشيات الكردية أو عبر التحالف مع الغزاة الأميركان والدخول في علاقات وتحالفات سياسية واقتصادية سرية مع دولة إسرائيل. وهناك أيضاً فشل تلك القيادات الكردية التقليدية، رغم تشدق بعضها بالنظريات والمصطلحات الثورية الكلاسيكية، كالماركسية، في تقديم فهم علمي صحيح يوازن ويربط علمياً وعملياً بين مقتضيات الاندماج الوطني في المجتمع العراقي، ضمن الدولة العراقية المعاصرة قبل الاحتلال، وبين ضرورة المحافظة على الحقوق القومية المشروعة للمكوّن الكردي في العراق. فالقيادات الكردية تحاول دون نجاح يذكر، وحتى دون وعي منها أحياناً، السير على حبلين زلقين: الأول هو حبل الظهور كممثل أوحد لمكون قومي يسعى لتحقيق أهدافه حتى بالتحالف مع قوى أجنبية إقليمية مجاورة ومعادية للعراق (كما في حالة تحالف البرزاني الأب مع شاه إيران في سبعينيات القرن الماضي)، أو مع قوات أجنبية غازية للبلد (كما في حالة الاحتلال الأميركي المستمر في أيامنا)، والحبل الثاني هو الظهور بمظهر الجزء الكردي من الكل العراقي المطالب بحصصه كاملة من الثروة الوطنية، (وزيادة أحياناً تصل إلى 4% من الدخل الوطني العراقي ينظر إليها البعض كنوع من الخوة أو الإتاوة السياسية)، إضافة إلى حصصه من الحكم والمنصب والسيادة المنقوصة أصلاً.
هذه المحاولة للسير على حبلين لن تكون سهلة، وقد تكون نهايتها مأساوية، وخصوصاً بعد رحيل قوات الاحتلال الأجنبي وانكفائها.
وبالعودة إلى سجالات الطالباني ونوشروان، يمكننا القول إن تلك السجالات التي كشفت الكثير من أسرار الماضي الدموية، وخلافات الحاضر الشديدة على كل شيء تقريباً، لم تستثنِ المستقبل، ولكنها لم تطل الوقوف عند تفاصيله، لسبب بسيط هو أن الطرفين يتقاسمان الأخطاء ذاتها في طريقة النظر إليه والتعامل معه. فلم يقدم حزب السيد نوشروان، ورغم النبرة الهادئة التي اتسم بها خطابه وسجالاته على عكس نبرة خصمه الطالباني المتشنجة والمهينة أحياناً، أي جديد على صعيد مستقبل المكون الكردي في العراق وعلاقته بالدولة والمجتمع العراقيين، ولا بطرح تصور مشروع متكامل في النظر لحل مشكلة الأمة الكردية ككل والمجزأة في أربع دول في الشرق الأوسط، بل كرر الشعارات والبرامج التقليدية ذاتها التي كان ولا يزال يطرحها خصمه التنظيمي والسياسي. ومع أن الطالباني ونوشروان خاضا في العديد من شؤون وشجون ماضيهما وحاضرهما وماضي وحاضر حزبهما، ولكنهما التزما الصمت المطبق كلاهما بصدد مجزرة «بشت آشان» التي ارتكبتها مليشيات حزب الطالباني بحق العشرات من الشيوعيين العراقيين من غير الأكراد، وقتل الأسرى والأسيرات على أساس الانتماء القومي، حيث أُطلق سراح الشيوعيين الكرد وقُتل الشيوعيون والشيوعيات العرب فقط. السبب وراء ذلك الصمت هو أن الطالباني، في آخر تصريحات له عن هذه المجزرة الشنيعة (التي اقترفتها مليشياته ضد مَن جاؤوا للقتال دفاعاً عن الشعب الكردي آنذاك تحت شعارات التضامن الوطني والأممي ضد «دولتهم» العراقية) يعتبرها انتصاراً كبيراً من انتصارات حزبه العسكرية. وحين طولب بالاعتذار عنها لذوي الشهداء، طالب هو باعتذار متبادل، وهذه قد تكون المرة الأولى في التاريخ التي يُسْمَع فيها عن مطالبة كهذه، يطالب فيها الجلاد ضحاياه بالاعتذار له. أما صمت نوشروان عن تلك المجزرة فمرده الوحيد هو أنه كان القائد العسكري المنفذ لأوامر الطالباني خلال ارتكابها.
إجمالاً يمكن وصف مأزق الأحزاب الكردية الحاكمة والمعارضة لها والمنشقة عنها، بأنها أزمة داخلية عميقة وقديمة ومن طبيعة واحدة، تتأثر إضافة إلى ذلك بأزمة أكبر منها هي أزمة الاحتلال الأجنبي للعراق ونظام الحكم الذي ولد في ظله والذي تعتبر تلك الأحزاب جزءاً عضوياً من منظومته السياسية والاقتصادية والأمنية، وهي بالتالي جزء عضوي من أزمته المركبة الشاملة التي ستنفتح يقيناً على احتمالات دراماتيكية لن تكون في مصلحة الأكراد العراقيين وغير العراقيين.
* كاتب عراقي