حسان الزينقدّم الطاقم السياسي في الأشهر الماضية، لا سيما في استحقاقي الانتخابات النيابية وتأليف الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري، مجموعة من الوجوه السياسية الشابّة، ممن يعرفون الطريق إلى خياطي الطقم السياسي ولديهم موهبة الدخول سريعاً في نادي الكرافات والشاشات. وقبل ذلك، ينشط الطاقم السياسي، من سنوات، في تأطير «جماهيره» في أحزاب وتيارات أفرزت وجوهاً جديدة من الببغاءات وعارضي الأزياء والخدمات. وبالرغم من ذلك، هذا الطاقم السياسي ليس متحمساً للانتخابات البلدية.
الأسباب كثيرة، أهمها ما يتعلّق بتغيّرات المرحلة الإقليمية والحراك الفوقي للقوى المحلية، وعدم مواكبة «القواعد الشعبية» لهذا الحراك. فالحالة الحريرية التي لم تهضم بعد زيارة رئيس الحكومة إلى سوريا، التي شُحنت تلك البيئة سياسياً ضدّها في السنوات الخمس الماضية، هي أبرز من تحرجهم الانتخابات البلدية. فمسرح الانتخابات في تلك البيئة غير ممسوك من «قيادة» تلك الحالة. وثمّة تخوف من تفلّت هنا وتمرّد هناك ودخول عناصر منافسة هنا وهناك. وكهرباء المنية يمكن أن تمسَّ أماكنَ أخرى. ومثل وضع الحريرية حال ميشال عون. وجوه الشبه بينهما عديدة في هذا المجال، إذ إن الاثنين هزّتهما ولادة التسوية، والاثنان تحركا عكس الخطابين اللذين شحنا بهما قواعدهما. فميشال عون يواجه، بلدياً، مشاكل مماثلة في بعض الجوانب لتلك التي يعانيها الحريري، ولديه مشاكل أخرى مختلفة، لكنها لا تقل تعقيداً وخطراً. عون في بيئات أرضها غير ثابتة، وحفاظه على رصيده النيابي، في انتخابات 2009، ساهمت فيه عناصر قوّة ليست موجودة بلدياً، منها الناخبُ الحليف. والحلفاء غير موجودين في البلديات، وهناك منافسون أقوياء موجودون في البلديات، سواء أكانوا من القوى السياسية (القوات والكتائب) أم من العائلات و«وجهاء» المناطق والبلدات والشركات.
باختصار، إن موعد الانتخابات البلدية غير مناسب لهذه القوى التي مشت في التسوية الإقليمية عكس خطابها المحلّي. وهنا المشكلة، فهي «ضرورة» إقليمية لتركيب النظام، لكنها لم تصغ بعد وضعها المحلّي.
والانتخابات البلدية، في الظروف الحالية، لا تُخرج هذه القوى بالحجم والصورة المطلوبين للحكم والشراكة. والأخطر هو أنها تُدخل آخرين إلى المنصة التي لا تحتاج هذه القوى إلى من يشاركها فيها. فالحريري في غنى عن أن تكون القوات اللبنانية، مثلاً، شريكاً مضارباً وحليفاً ضاغطاً عليه. وعون وتياره في غنى عن تظهير تقلصهما أكثر من البيئات المسيحية، وهما في غنى أيضاً عن أن يفسحا المجال للمساومات واتفاقات الإكراه مع زعامات محلية بلدية أو سياسية. فهما يريدان هدنة وعلاقة طيبة مع ميشال المر، مثلاً، لكنهما بالتأكيد ليسا متحمّسين للعودة إلى ابتزاز أبي الياس. والانتخابات البلدية ستفرض عليهما ذلك، وتفتح شهية مراكز قوى بلدية وعائلية إلى مساومات وعلاقات إكراه من هذا النوع.
صحيح أن هذه الأمور، وغيرها، يمكن حلّها فوقيّاً من خلال تجاوز نتائج الانتخابات والتقليل من أهميتها وحجم أي تغيير، أو من خلال تأجيل الانتخابات البلدية، إلا أنها تبقى نقطة ضعف في التركيبة الداخلية اللازمة للتسوية الإقليمية التي تقوم على قوّة كل من الحريري وعون والثنائية الشيعية.
ولائحة القوى المحرَجة من الانتخابات لا تقتصر على الحريري وعون. جنبلاط معهما، لكنه يتفوق عليهما، وعلى الآخرين، بقدرته على صوغ تحالفات بلدية وسياسية، لا سيما شوفيّة، أكثر مرونة. اللائحة هذه تضم أيضاً رئيس الجمهورية الذي لم يتمكن حتى اليوم من تأمين قاعدة شعبية فاعلة انتخابياً.
هكذا، تبدو هذه القوى حريصة على بعضها أكثر مما هي حريصة على حلفائها الآخرين، لا سيما أن مواقع اشتباكها محدودة وخريطة الاشتباكات تجعل من كل واحدة من هذه القوى تتنافس مع حلفاء الآخر: عون يشتبك مع حلفاء الحريري، والحريري يشتبك مع حلفاء حزب الله... وهكذا.
إذاً، كأن تأجيل الانتخابات البلدية هو خيار الطاقم السياسي، ليأخذ الوقت أكثر لترتيب أوضاعه وتمرين الأحصنة على الجري في هذا المضمار. وهذا ليس صعباً على الطاقم السياسي، وخصوصاً أن القاعدة الأساس في هذا المجال هي التبعية والمنفعة المتبادلة على حساب عناوين التنمية المحلية. ولم يعد خافياً على أحد أن الطاقم السياسي استطاع خطف استحقاق الانتخابات البلدية من المواطنين، منذ حملة بلدي بلدتي بلديتي التي أودت إلى انتخابات 1998. وقد أتقن الطاقم السياسي تعميم «أخلاقه» على الانتخابات البلدية ونقل العدوى إلى معظم من يخوضونها، إذ هجرتها فئات عديدة لديها الطاقات والتمنّع عن التطبيع مع تلك الأخلاق وممارساتها وسلوكاتها.
فكما الانتخابات النيابية كذلك الانتخابات البلدية باتت فرصة لا لانتزاع الطاقم السياسي «مشروعية ما» من المواطنين وحسب، بل لتعميم الفساد الذي يغذّي العائلية والمناطقية والمذهبية كأشكال ضمن النظام النفعي العام... ويتغذى هو من هذا المنجم الوطني.
لذا، يُستغرب أن يؤجل الطاقم السياسي الانتخابات البلدية، بينما يمكنه، إذا أراد، أن يحقق مآربه اليوم قبل الغد. فالخياطون موجودون ومحالّ الثياب الرسمية مفتوحة وكذلك شهية «الأزلام» الذين ينتظرون الفرصة لتقبيل الأيدي وافتعال المشاكل والتصويب على الآخر وعناوين التنمية المحلية، واستعمال الأسلحة المذهبية والمناطقية والعائلية والشخصية، ومنها بالطبع الشهادات التي يتوهّم وزير الداخلية والبلديّات أنها تساهم في تجديد المشهد الإداري والبلدي والاجتماعي والسياسي ودفع النخب إلى المسرح. وها نحن نرى «النخب» تنتظر جماعات عند أبواب الزعماء ويدخلون أفراداً على الديكور وميكرفوناته.