حسام كنفانيبالتوازي مع الحاجة إلى إحداث اختراق في ملف مفاوضات التسوية، عاد الحديث فجأةً عن ملف المصالحة الفلسطينية. الملف ميّت عمليّاً، لا رجاء منه بفعل حال العناد غير المفهوم بين طرفي الصراع الداخلي الفلسطيني. عناد لا يوحي إلا برغبات متبادلة في عدم إبرام هذا الاتفاق، رغم التصريحات الشكلية والنفاق الإعلامي عن «الحاجة إلى وحدة الصف» و«طي ملفّ الخلافات»، وما إلى ذلك من عبارات رنّانة لا تسمن ولا تغني من جوع. عبارات باهرة تخفي خلفها حسابات وأجندات لا مصلحة لها، على المدى القريب والبعيد، في تغيير الواقع القائم.
«حماس» تتلطّى وراء ملاحظاتها للتمنّع عن توقيع الورقة المصرية. عبارة «الملاحظات» راجت كثيراً في قاموس الحركة الإسلامية منذ أشهر، وحملها معه خالد مشعل إلى العواصم العربية التي زارها كـ«رئيس دولة». ما كان لمشعل أن يلقى هذا الاستقبال لولا الحكم «الحمساوي» لغزة. حكم لن يكون من السهل التنازل عنه لمصلحة عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع.
هنا تكمن المعضلة، القضية ليست مرتبطة حصراً بالملاحظات على الورقة المصرية، أو تعديلات أدخلت عليها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، ولا سيما أن أطرافاً في الحركة داخل غزّة كانوا قد أكّدوا التوجّه نحو التوقيع بعد تلقّيهم الورقة، قبل أن يبتكر القادة في دمشق ذريعة «الملاحظات».
قد تكون فكرة إحداث تعديلات في صياغة الورقة المصريّة حقيقيّة، ولا شك في أنّ هناك فخاخاً منصوبة في الثنايا، غير أنّ «حماس» تدرك أن التطبيق لن يكون بعيداً عن أعينها، وقلب الطاولة مجدّداً، كما حدث بعد اتفاق مكة، ليس صعباً.
وحتى حين فضّلت الحركة أخيراً الكشف عن هذه الملاحظات، أعلنتها في سياق جدول مرفق بتفسيرها الخاص لبعض البنود أو العبارات، التي قد تحمل أكثر من تفسير.
أما «فتح»، فترفع راية توقيعها «الورقة المصرية» للتهرّب من أي نقاش جديد مع «حماس»، على اعتبار أنها «أدّت قسطها للعلى»، وليست في وارد تقديم المزيد من «التنازلات». عبارة استُخدمت كثيراً في مسار المفاوضات الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية. حينها لم تكن «التنازلات» صعبة كثيراً على سلطة رام الله، ولا تزال كذلك، إذ لا يمكن التعويل كثيراً على تمترس محمود عبّاس وراء شرط تجميد الاستيطان، باعتباره استثناءً لا قاعدة.
علامَ يكون التنازل ولمن؟ الإجابة عن مثل هذا السؤال لا تحتاج إلى الكثير من الشرح. بالنسبة إلى حركة «فتح»، المستفردة بمنظمة التحرير منذ تأسيسها، لا يمكن أن تستسيغ مزاحمة فلسطيني آخر على الزعامة، سواء كان هذا الآخر إسلاميّاً أو علمانيّاً. الأمر لا علاقة له بـ«حماس» بحد ذاته، رغم التاريخ القديم في الصراع بين الطرفين، الذي يعود إلى ما قبل الحسم العسكري أو الانتخابات النيابية. صراع بدأ مع نشأة «حماس» في الانتفاضة الأولى، ومنافستها لـ«فتح» على الساحة الفلسطينية، وتبلور بعد أوسلو وتأسيس السلطة، في حملة الاعتقالات الكبيرة التي شملت رموز الحركة الإسلاميّة، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ياسين.
«فتح»، على غرار «حماس»، تخشى خسارة السلطة الماديّة والمعنويّة. ولا شك في أن الكثير من كوادرها، إن لم يكونوا جميعاً، قد تنفّسوا الصعداء لدى رفض «حماس» توقيع الورقة المصرية. فالأرضية الفتحاويّة، بمعظم تياراتها، ليست مهيّأة لمصالحة الحركة الإسلاميّة، حتى وإن كانت مختلفة مع قيادة السلطة على بعض تفاصيل ملف إنهاء الانقسام. أصوات قليلة من «فتح» لا تزال تصدح بحتمية إنهاء هذا الملف المخزي، ولكن مع عدم «الانبطاح» أمام «حماس». أما الباقون، فهم لا يتوانون عن صبّ الزيت على النار. لنتذكّر مثلاً تصريحات عزّام الأحمد قبل شهر تقريباً، التي دعا فيها إلى انتفاضة شعبية على «حماس» في قطاع غزّة لإسقاط حكمها. تصريح غريب جداً لقيادي في حزب السلطة التي تؤمن بضرورة قيام انتفاضة في وجه إسرائيل واستيطانها، على اعتبار أنه «يكفي الشعب الفلسطيني ما تحمّله» على حد تعبير عبّاس نفسه. أبو مازن لم يكلّف نفسه عناء التلويح بانتفاضة على الاحتلال، لكن الأمر مختلف مع «حماس»، التي يبدو أنها باتت تعدّ التهديد الحقيقي والوجودي لـ«فتح».
بين الطرفين، تأتي القاهرة، «المحتكر» الرسمي للملف. القاهرة أيضاً تصد الباب في وجه أي محاولات لتقريب وجهات النظر. وترفع ضمنيّاً شعار «إما عن طريقي وإلّا فلا». وعلى هذا الأساس لا يجوز التعويل كثيراً على أي جهود تصالحيّة، سواء كانت سعوديّة أو كويتيّة أو تركيّة.
على هذه الأرضية تجري محاولات إنهاء الانقسام. ووفق هذه المفاهيم يمكن تصوّر أي مصالحة فلسطينية ستنتج. مصالحة على الورق، قد تشتدّ الحاجة إليها في حال عودة مياه المفاوضات إلى مجاريها. وقد تنفتح أبواب القاهرة مجدّداً لاستقبال خالد مشعل، إذا جاءت كلمة السرّ الأميركيّة في لحظة ما من مسار التسوية. قد تتبدل المواقف العلنية «لغاية في نفس يعقوب»، لكن ما هو مبيّت لا يزال، على الأقل إلى الآن، من الصعب إصلاحه أو مصالحته.