وائل عبد الفتاحلا فرق بين الجمهورية و«شبه الجمهورية» في الحروب الداخلية بامتداد العالم العربي. اليمن ملعب لصراع على إلغاء كل ما بعد الإمام البدر. وليبيا تعيش ٤٠ سنة من «فوضى الدولة» وتنتظر ترتيبات التوريث بطريقة أسهل من مصر أو اليمن أو حتى سوريا. أما منظمات تحرير فلسطين، بكل موديلاتها، فقد وصلت إلى حل واحد: تأجيل الانتخابات واستمرار الوضع العبثي في تقاسم السلطة على ما هو عليه. مصر قائدة ورائدة في ذلك السباق الخفيّ للعودة إلى «ما قبل الدولة».
رجوع مصر أنيق، بلا معارك أهلية ظاهرة. كلها احتقانات تحول القبطي إلى أزمة بعد ٢٠٠ سنة من قيام الدولة الحديثة. لكن لا يزال الحاكم يشعر بأنه الوالي محمد علي، لكن بدون طموحه أو مشروعه الكبير.
هكذا لا صوت يعلو على صوت إلغاء الدولة لنفسها والعودة إلى عصر تكوينات القبيلة والإمبراطورية. المعارضة تنافس في العودة، تزايد عليها بكل ما تمتلك من شحنات عاطفية تحرك الجماهير المشتاقة إلى التغيير باتجاه السير عكس التاريخ.
حتى في المثل العليا، لم تكن تركيا بحداثتها نموذجاً. أصبحت كذلك عندما داعبت أو أخرجت أحلامها الإمبراطورية من الصندوق العثماني.
هكذا بايعت جماعة الإخوان المسلمين مرشدها على طريقة أيام الخلافة الإسلامية. والنظام الذي يعدّ الجماعة العدو الأول والأقوى، أقام استعراضاً لمبايعة الرئيس بطريقته الخاصة.
وبينما كانت السيول تجتاح مدن سيناء والصعيد وتقتل السكان وتدمّر المنشآت، كانت القناة الفضائية المصرية تعيد بث لقاء الرئيس مبارك مع «شعب» كفر الشيخ (إحدى المدن على دلتا النيل).
شعب مختار بعناية الحزب الحاكم ليجدّد بيعة الخلود للرئيس الذي حقق أرقاماً قياسية في البقاء على المقعد الفخم. «الشعب» بايع وهتف وشكر، وعلى الهامش قدم مطالب بسيطة استجاب لها الرئيس بإشارات إلى وزراء حكومته.
الرئيس ألغى الدولة كلها عندما اشتكى «شعبه» من قانون الضريبة العقارية الذي حاربت حكومته من إجل إقراره في مجلس الشعب. قال الرئيس ببساطة: «لم أحسم موقفي بعد». صفق الشعب. واختفت مؤسسات الدولة بإشارة من إصبع الرئيس.
استعراض الرئيس لا ينتمي إلى دولة حديثة، بل إلى عقلية تجعل الرئيس فوق السلطات كلها، أو هو مصدر كل السلطات.
الشعب يائس، منزوٍ، ينتظر ما ستسفر عنه «مسرحيات» السلطة. يريدون الاستفادة من المسافة التي يصنعها الرئيس ويعمل فيها كما حدث عندما رفع العلاوة ٣٠ في المئة في أعقاب إضرابات المحلة ٢٠٠٦، بينما كانت الحكومة تريد رفعها إلى ١٥ في المئة فقط.
الزيادة أعجبت الناس، لكن الأسعار ارتفعت مع الزيادة. العلاوة علّمتهم أنه لا يهمّ النهاية السعيدة للمسرحية، المهم أن تجد العشاء بعد أن تعود.
الرئيس يريد أن يقول إنه نصير الشعب، بينما الحكومة عدوّته. والشعب يعرف أكثر من السابق أن الحكومة حكومة الرئيس والقرارات قرارات الرئيس، وما يقال عن المسافة بين الرئيس والحكومة هو محاولة لإبعاد الرئيس عن الخطايا ليشربها الوزراء والمسؤولون.
الوزراء هم ممسحة خطايا الأنظمة. يقفون في استعراضات الرئيس و«شعبه» أقرب إلى الحاشية منهم إلى شخصيات سياسية.
هذه استعراضات هوية ديموقراطية أصيلة تراعي التقاليد المحلية وثقافة «ما قبل الدولة»: السمع والطاعة. الرئيس ملهم والسياسات ليست إلا أصداء توجيهات الرئيس.
تكتمل الثقافة الديموقراطية بمقولات رائجة مثل «الرئيس كويّس، والحاشية هي اللي بايظة». وهي فكرة دفعت مصر ثمنها غالياً وقيلت عن كل الرؤساء والملوك بلا استثناء، من فاروق الأول إلى مبارك الأول. كلهم طيبون والحاشية ظالمة وفاسدة. ولم يسأل أحد نفسه لماذا يختار الرئيس الطيب حاشية فاسدة؟
ولا أحد سأل ما هو الفرق بين الجماعة والنظام في ثقافة المبايعة والسمع والطاعة؟ ما الفرق بين الرئيس والمرشد؟
الجماعة فقط أكثر اتساقاً وأخلاقية مع كيان «ما قبل الدولة». وهذا ما يمنحها ميزة ديموقراطية عن النظام.
الدكتور مصطفى الفقي، القريب من كواليس الحكم بحكم عمله سكرتير المعلومات في الرئاسة، أثار الأسبوع الماضي ضجة عندما قال إن اختيار الرئيس يخضع لموافقة أميركا.
اعتراف أو كشف لمستور يعرفه الجميع. لم يفتح أسئلة هامة، لكنه فتح باب النميمة. الشكل السياسي للمعارضة في كيان «ما قبل الدولة». النميمة هي الرد المتاح من القاهرة إلى طرابلس. ولا يثير أحد إلغاء الدولة، لكنهم يبحثون عن فضيحة (كأن كلام الفقي فضيحة جديدة)، أو كأن مقاومة نظام الجماهيرية هي نشر صور حفل خاص قدمت فيه نجمة البوب بيونسيه استعراضاتها لضيوف المعتصم ابن القذافي، الذي دفع مليون استرليني ثمناً لليلة الواحدة.
الدولة ألغت نفسها من زمن، والآن المعارضة تنافسها بكل ما تمتلك من عاطفة ساخنة.