حسان الزينسواء اختلف المرء مع المرجع الشيعي السيّد محمد حسين فضل الله، سياسياً ودينياً، أو اتفق معه، لا يمكنه إلّا احترام هذا المفكّر الإصلاحي، الذي يبحث عن نقاط اتفاق وتلاقٍ مع الآخر، ولا سيما الشريك، في الوطن أو في الدين. بل إن هذا السيّد اختلف في السنوات القليلة الماضية مع مَن يُفترض أنّه يتّفق معهم دينياً، أو بالأحرى هم مَن اختلفوا معه، بعدما كان المرجع الروحي لهم. وأسباب الخلاف وعناوينه كثيرة، رغم أنها تبدو «صغيرة» ومرجعها الفكر والاجتهاد.
وبالرغم من ذلك، ما زال السيّد فضل الله مزعجاً للبعض، إلى درجة تمنّي الموت له (إسراع مواقع إنترنت لبنانيّة إلى نشر خبر وفاته من دون تدقيق، ثم سحبه). إنها الدرجة الأقصى والأقسى في علاقة اللبنانيين في ما بينهم. أن يغدو موت إنسان مثل السيّد فضل الله مدعاةَ تهليل إن لم تكن مدعاة فرح بالنسبة إلى البعض، ويهرع إلى نشر خبره من دون أدنى مهنيّة إعلاميّة، فهذا أسوأ أشكال العلاقات. ونشر هذا الخبر، الذي يمكن المرء أن يتغاضى عنه ويهمله، يضمر رغبة في موت ما يمثّله فضل الله ومَن يمثّل. وفي أفضل الحالات، ومع أسباب تخفيفيّة، هو تشفٍّ وشماتة، وكأن الموت مناسبة لذلك أو هو أمر معيب، بينما يفترض، أخلاقياً، عكس ذلك ومواساة «أهل الفقيد».
صحيح أن السيّد فضل الله ليس السيّد موسى الصدر، رفيق المطرانين غريغوار حداد وجورج خضر، والذي وقف أعزل وشبه وحيد ضد الحرب، إلا أنه، أي فضل الله، ليس متطرّفاً ومنغلقاً، وليس ممَّن يؤسّسون لحرب. بل على عكس ذلك، ولا سيما في السنوات الماضية، التي شهدت افتراقاً مرجعياً عن حزب الله وإيران، تراه منفتحاً دينياً، قبل أن يكون سياسياً، على الجميع، وإن اختلف هنا أو هناك، في هذا الموضوع وتحت ذاك العنوان، مع هذا أو ذاك من السياسيّين والدينيين. ولا يغيب عن المرء وهو يشاهد ويسمع رجال الدين، سواء أكانوا من الشيعة أم من غيرهم، أن يجد السيّد فضل الله أفضل أو من الأفضل، سياسياً ودينياً، حتى ولو كانت المسافة تتقلّص منذ حرب تموز 2006 بينه وبين حزب الله.
ما يحصل، وفي خلفية خبر مثل إشاعة وفاة السيد فضل الله، هو أن اللبنانيين باتوا لا يعرفون بعضهم بعضاً، ولا يريدون ذلك، وإنما يريد كلٌّ منهم موت الآخر، بما في ذلك الآخر المنفتح، بل هو تحديداً وقبل المنغلق الذي يبرر وجوده التعصب والطائفيّة والحروب. ذاك ما يجعل كل فريق ـــــ مذهب يأخذ الآخرين بالجملة، إلى حدٍّ لا تُرى معه الخصوصيات الشخصية والفروق الفكريّة، ولا تُسمع الأصوات الاجتماعيّة. أحسب ذلك وأنا لا أرى في السيّد فضل الله إلّا عالم دين شيعياً، يقف في منطقة وسطى بين التقليدية والحداثة، ومهموم بقضايا وعناوين شيعيّة، دينيّة فقهية واجتماعية. لستُ من أتباعه أو أتباع أي جهة دينية وسياسية أخرى، لكن لا يمكنني إلّا أن أحزن مع «خبر» من هذا النوع. ومع نشر شائعة وفاة السيد فضل الله الحزن مضاعف، أولاً على إنسان من هذا النوع يمكنني أن أحاوره وأختلف معه، وأجده منفتحاً وقلقاً ومهجوساً بالعمل لتقليص مساحات الاختلاف وتوتّرها بين الناس؛ وأحزن ثانياً على مَن يهلّل لهذا الخبر كأنه مصدر سعادته. ضيق ممزوج بالسؤال: أيّ حزن طائفي سيلقى إنسانٌ بلا هوية دينية ومذهبية عند موته؟ وقد بات في لبنان خبر موت المنفتح (بمعزل عن نسبة الانفتاح وممارسته) سببَ بهجة عند البعض، لمجرّد أنه من الآخر وطائفته! هذا والسيد فضل الله، من سنوات، قلَّ أن ساجل الآخر، كما في السياسة كذلك في الدين، بل إنه، من سنوات، يساجل «أهل بيته» أكثر مما يفعل مع الآخرين، الذين يبذل الجهد البحثي للتقرب منهم. وربما يلام السيد فضل الله على أنه لم يتحرك سياسياً بالمقدار ذاته الذي يخطوه في الفكر، تاركاً الساحة السياسية للقوى البارزة حالياً في البيئات الشيعية. فهو من سنوات، وهي نفسها سنوات اختلافه مع الأقرباء، يركّز شغله على تمتين مرجعيته الدينيّة، في الفكر الشيعي وإدارة شؤون أتباعه دينياً واجتماعياً. وفي هذا المجال، سقى نبتة الانفتاح والتجديد عند الشيعة، وأعاد النظر في الكثير من «ثوابتهم» وطرح النقيض الصادم لهم أحياناً، إضافةً إلى تأكيده على ضرورة مأسسة العمل الديني والاجتماعي. وبالرغم من ذلك، يطلب منه أكثر، وينتظر منه رفع الصوت أكثر وتظهير انفتاحه وتجديده وقبوله الآخر وملاقاته.
ليس السيّد فضل الله، كعالِم دين، مقبولاً من اللبنانيين كافّة، وهو مرجع ديني شيعي. وأيّ رجل دين، أو رجل سياسة وحتى رجل علم، مقبول لدى اللبنانيين كافة؟ المطران غريغوار حداد العلماني كذلك؟ كلا. من دون أن يعني ذلك أن علاقات اللبنانيين برجال الدين دينيّة، هي علاقات مذهبية. ومثلها علاقات رجال الدين باللبنانيين. لهذا، لا يبدو موت أي رجل دين نبذاً للطائفية، بل تأكيد لها وتعميم لثقافتها لتشمل الحزن والفرح بالموت أو بالحياة. أهذه ثقافة الحياة؟ أثقافة الحياة تفرح بموت الآخر؟ وأنا أعرف أن خبر وفاة رجال دين آخرين، ورجال سياسة وميليشيات ومذاهب آخرين، يُفرح كثيرين ولن يترددوا في نشره، ولو شائعة، من أجل إرضاء أنفسهم أولاً ونكاية بالآخر ثانياً.
لقد باتت تمنيات موت الآخر سياسة.
شائعة وفاة السيّد فضل الله، التي حوّلتها تلك المواقع لأسباب مجهولة، خبراً ينشر من دون تدقيق، هو خبر وفاة أمور كثيرة... إلّا الآخر لا يموت، يموت مع الذات وربما بعدها.