عصام العريان *بينما أقف على فرشة الجرائد صباح الاثنين، أتصفح العناوين عقب صلاة الفجر، إذا بحديث يتناثر عن تظاهرة ليلية أمام السفارة الفرنسية فى القاهرة استمرت من العاشرة مساءً حتى الثالثة قبل الفجر، وأنهم ما زالوا معتصمين وأغلقوا الطريق، وأن المتظاهرين هم من الأجانب جميعاً رجالاً ونساءً وشباباً من جنسيات متعددة، غالبيتهم فرنسيون. وكانت معظم الهتافات للشعب الفلسطيني ولغزة وأهل غزة الذين يعيشون حصاراً قاتلاً منذ 3 سنوات، وتشارك فيه مصر الآن بقوة ببناء جدار فولاذي تحت الأرض لمنع تهريب الغذاء والدواء والحاجات الأساسية.
سألت أحدهم: هل استخدم البوليس العنف والقوة أو ألقى القبض على بعض المتظاهرين؟
فتبسم ضاحكاً، وقال: هل يقدر على ذلك؟ إنهم أجانب!
وتذكرت الحماية التى كان يضفيها الاحتلال البريطاني على الرعايا الأجانب في مصر، الذين تمتعوا بحريات واسعة وكانت لهم محاكم خاصة قبل إلغائها. وتذكرت أكثر تاريخاً أبعد، عندما تذرع البريطانيون بحادثة اعتداء على «مالطي» بالإسكندرية فتقدمت قواتهم وأساطيلهم لاحتلال مصر الذي دام سبعين عاماً. والظاهر أنه لم يرحل بالكامل عام 1954 أو حتى عام 1956، بل حلّ مكانه احتلال أجنبي من لون آخر ونوع جديد: مرة سوفياتي ومرة أميركي، حيث ترابط كتيبة كاملة من المهندسين الأميركيين لتنفيذ الجدار الفولاذي العازل، وتمر كتائب أخرى دورياً لتفقد الأمور على الجانب المصري من الحدود مع فلسطين، ونسمع عن زيارات دورية لبرلمانيين من دول متعددة تفتش على الحدود لتطمئن إلى قيام مصر بمهماتها المتفق عليها، وتنفذ الاتفاقية الاستراتيجية التي وقعتها تسيبي ليفني مع كوندليزا رايس قبل مغادرة الأخيرة وزارة الخارجية، وفي آخر يوم عمل لها. يومها قالت مصر إنها ليست طرفاً في الاتفاقية وغير ملزمة بها، والظاهر أن ذلك كان كلاماً فى الهواء، وأن مصر لا تستطيع اليوم أن تقول: لا.
ورحت أعيد تذكر ما قرأته في الصحف وتابعته على الفضائيات، فتبين لي أن هناك قافلتين قدمتا من مختلف أنحاء العالم للتضامن مع غزة في ذكرى الحرب التي مرت عليها سنة، وقتلت 1400 شهيد، منهم أكثر من 300 طفل، ودمرت القطاع بالكامل واستخدمت الأسلحة المحرّمة دولياً كالفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية وغيرها.
جاؤوا من البر والبحر والجو، واحتشدوا في القاهرة أو تسللوا فرادى إلى العريش أو على الحدود يريدون الوصول عبر رفح المغلق إلى غزة لإعلان تضامنهم مع صمود المقاومة في وجه الاحتلال، ليعلنوا أن هناك إنسانية ما زالت باقية، وقلوباً حيّة تتألم من أجل الإنسان لأنه إنسان، بغض النظر عن معتقداته أو موقفه السياسي.
حضروا من أكثر 50 دولة، يمثلون حوالى ربع سكان العالم، لا يتحدّون مصر ولا سيادتها ولا يهددون أمنها القومي، بل يتحدون العدوان والهمجية الصهيونية.
يتظاهرون أمام السفارة الصهيونية في لندن وكأنهم يؤكدون أن القرار ليس في القاهرة بل في تل أبيب
ليست هذه المرة الأولى، بل هذه قافلة (شريان الحياة 3) وسبقتها قافلتان، يرأسها النائب الجريء البريطاني، جورج غالاوي الذي تحدى في بلاده رأي حزبه «العمال» ورئيس الوزراء «توني بلير»، واحتفظ بمقعده رغم خروجه من الحزب وترشحه مستقلاً، ثم أسس حزب «الاحترام» ليظل محتفظاً بمقعده، ومعه منظمة «تحيا فلسطين» المنظم الرئيسي للقافلة.
ها هو غالاوي يتلقى جواباً عن سؤال طرحه عليّ في لندن عندما التقينا في برنامج «قناديل في الظلام» الذي يقدمه محيي الدين اللاذقاني الكاتب المعروف، على قناة (ANN)، حيث سألني على الهواء وبين الفواصل: لماذا لا تتحدون أيها المصريون والسياسيون هذا النظام المستبد؟ هو الآن أمام المحاولة التى لا أشك بأنها ستنجح، لكن فليتأمل قدر المعاناة التي يلقاها مع النظام القمعي الذي لا يستطيع اعتقاله ولا ضربه ولا سحله على الأرض، ولا تلفيق قضية تزوير له، ويضع فقط العراقيل في وجهه هو وزملاؤه.
لا أشك بأن قافلة «شريان الحياة 3» ستصل إلى غزة، كما وصلت قافلتان من قبل، وكما وصلت قافلة أميال من الابتسامات، ولكن بعد لأي، وجهد جهيد تبذله وساطة تركية محمومة. أمّا هؤلاء الذين تظاهروا في القاهرة أمام سفاراتهم، فلهم شأن آخر، ليس معهم إعلام كاف إلا (BBC)، ولا يتحدون النظام كما فعل غالاوي، بل بذلوا الكثير من الوقت للتفاوض الهادئ مع النظام في مصر وممثليه الدبلوماسيين في الخارج، وممثليه الشعبيين في الداخل، وعندما وصلوا إلى طريق مسدود اضطروا اضطراراً للتظاهر في قلب القاهرة أو التسلل فرادى إلى العريش كما نقلت الصحف.
ينادون «الحرية لغزة»، والظاهر أنهم يجب أن ينادوا أولاً بـ«الحرية لمصر»، وإذا منعهم النظام من الوصول إلى غزة، فسيعودون إلى بلادهم لينضم إليهم العشرات والمئات والآلاف ليتظاهروا أمام السفارات المصرية، ينددون بالقمع والمنع والعنت، وعندها لن يجد أزلام النظام الإعلاميون حجة بأن هناك من يسعى لتشويه صورة مصر ودور مصر، لأنهم هم الذين قدموا الدليل الناصع الذي لا يقبل الشك، والبرهان القوي على تواطؤ مصر في حصار غزة ومنع المساعدات الإنسانية عن شعبها.
اليوم يتظاهرون أمام السفارة الصهيونية في لندن يطالبون بمرور قافلة شريان الحياة، ويا له من عار كأنهم يؤكدون أن القرار ليس في القاهرة بل في تل أبيب، هل وصلنا إلى هذا القاع؟!
ها هو النظام المصري أمام تنظيم دولي حقيقي جديد. والغريب أنه ليس على رأسه د. عبد المنعم أبو الفتوح ولا يضم أحداً من الإخوان المسلمين.
وها هو النظام المصري يواجه تظاهرة عجيبة للنشطاء الفرنسيين والإيطاليين والأميركيين وقليل من الهنود، في قلب القاهرة، ويغلقون أحد أهم شوارعها ويعتصمون من أجل المرور إلى غزة! ولم ألحظ في التظاهرة لا د. حمدي حسن نائب الإخوان ولا د. محمد البلتاجي الأمين العام لكتلة الإخوان، ولا حتى جورج إسحق أو عبد الحليم قنديل.
يقف النظام اليوم، وقوات بوليسه وأدوات قمعه عاجزة عن التعامل مع هذه الظاهرة الإنسانية. فإذا أغلق الحدود البرية والبحرية، فكيف يقوم بفرز القادمين في الطائرات وليس لديه قوائم بأسماء سكان العالم الذين تحرك مشاعرهم وقلوبهم إنسانية عظيمة ورحمة يقدمها الله في قلوب العباد، وقد خلت من قلوب حكامنا الرحمة وافتقدوا الإنسانية.
يا له من موقف عجيب: هل يقدر النظام المصري على قمع أحرار العالم؟
لقد وضع النظام رجال الخارجية أمام موقف عصيب، فقد استمعت إلى حديث السفير حسام زكي باسم الخارجية المصرية يتكلم بعصبية ولغة غير دبلوماسية إطلاقاً، على عكس العهد به، يتهم هؤلاء المتضامنين بأنهم تسللوا إلى مصر بتأشيرات سياحية لا لممارسة نشاط سياسي، وكأن هناك الآن تأشيرات سياسية للتظاهر أو لزيارة المحاصرين في غزة. ويتهمهم بأنهم وضعوا السفير الفرنسي بالقاهرة في وضع حرج، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ويصمم بقوة على أن السلطات المصرية لن تسمح بمرور هؤلاء المتضامنين مع أهل غزة. إلا أنه تدارك الأمر بقوله إنهم رفعوا مذكرة إلى السيد الرئيس، في إشارة إلى السلطة العليا التي يمكن أن تجب كل السلطات، وهذا يدل على أن التضامن مع غزة وأهلها ضد العدو الصهيوني بات أمر أمن قومي يحدده الرئيس بنفسه، لا استراتيجية ثابتة درجت عليها مصر طوال أكثر من ستين عاماً، حاربت فيها 4 حروب أو أكثر من أجل فلسطين.
* عضو مكتب الإرشاد
في جماعة الإخوان المسلمين بمصر