ما حدث في الجامعة الأنطونيّة كان مهمّاً جدّاً، وكان خطيراً جدّاً: وهو ينبئ بما هو آتٍ. واللافت أن الردود المُستنكرة للاستشهاد ـــ مجرّد الاستشهاد ـــ بكلام ورد في مجلّة أكاديميّة غربيّة ـــ هبطت من كلّ حدب وصوب. اتفق سليم الحص وسعد الحريري على الاستنكار، وهبّ طارق متري ـــ كعادته ـــ للذود عن شرف السلالة الحاكمة. ولم تخفت الضجّة إلا بعد زيارة مُذلّة لرئاسة الجامعة الأنطونيّة ولرئاسة الرهبانيّات الأنطونيّة لسعد الحريري
أسعد أبو خليل *
الحريّة الفكريّة والأكاديميّة في خطر في لبنان. وهي تتعرّض للهجوم والاعتداء من الفريق الذي يمسي ويصبح متقيّئاً شعارات الحريّة والليبراليّة والفولتيريّة ـــــ مع أن هذا الفريق هو وهّابي حتى العظم. ليبرالي إلى أن يذهب إلى الجنادريّة، أو إلى أن يقف بالصف منتظراً دوره لمصافحة الأمير خالد بن سلطان في مكاتب «الحياة» في لندن، أو لمصافحة أولاد الأمير سلمان في مكاتب «الشرق الأوسط». هم يدعون إلى الحريّة على طريقة منظمة «سكايز» الهزليّة التي لا تجد خرقاً لحريّة الصحافة إلا في سوريا، والتي أعادت تعريف جغرافيا الشرق الأوسط فقط كي لا تضطرّ للتطرّق إلى خروق حقوق الإنسان الفظيعة في دول النفط العربي في الخليج. هم ليبراليّون ساكتون على تهديد البطريركيّة المارونيّة بفرض عقوبة «الحرم الكبير» على من ينتقد البطريرك. سكت كل هؤلاء على التهويل بـ«الحرم الكبير».
هم في موضوع الحريّة على منوال الـ«أوريان ـــ لو جور» التي لم تجد أظرف من «جاد المالح» في العالم كلّه رغم صهيونيّته ودفاعه عن جيش العدوّ، مع أنها تريد من الدولة أن تتدخّل لمراقبة أي إنتاج غربي إذا كان غير متوافق مع المصلحة الدعائيّة للكنيسة. وأنصار نادر وأحمد الحريري في حاشية هاني حمّود لا يتورّعون عن طلب تدخّل المجلس الكاثوليكي للإعلام (مجلس طوائفي للإعلام؟ أليس من تناقض؟) لإسكات من يرفع الصوت دفاعاً عن فولتير أو روسو أو بورديو. وواحد من كتبة نشرة عائلة الحريري أرغى وأزبد وشتم فقط لأن الرفيق رائد شرف أجاد في وصف «مجتمع البلاط» الحريري وتحليله. استعصى عليه فهم بورديو (وهو أنفق ست سنوات بالتمام والكمال في إكمال كتاب واحد لهنري كوربان)، فثار في البلاط الحريري. وهؤلاء يمتهنون الشتم البذيء قبل أن يتهموا الخصوم به. حازم صاغيّة يتهم كل من يعارض السنيورة وجعجع بأنهم «انتهازيون» و«منافقون» و«كذابون». هم لا يشتمون. هم ضحايا. هل كان الفنان رفيق شرف يتحدّث عنهم عندما قال في حقبة ليست غابرة: «من قال إن الشتم ليس أرقى موقف ثقافي في زماننا» («النهار»، 10 أيلول، 1982)؟ حريّة التعبير عندهم بائنة للعيان، ولا لبس فيها. تستطيع أن تراها وضوح الشمس في إعلامهم السعودي ـــــ الحريري. هي حريّة الرأي الواحد فقط: هل هناك تمايز ـــــ حتى في الأسلوب والتعبير والمواضيع ـــــ في ما يُنشر من «مقالات» على موقع «ناوحريري»؟
الفريق الليبرالي ليبرالي حتّى يذهب إلى الجنادريّة أو يقف بالصفّ لمصافحة خالد بن سلطان
أعترف بأنني لم أسمع بباسكال لحّود قبل المعمعة في المؤتمر في الجامعة الأنطونيّة. أعترف بأنني لم أقرأ المقالة ـــــ الزوبعة إلا بعد إثارة الموضوع. وأعترف بأن المقالة لا ترتقي إلى مستوى الدراسات العليمة بشؤون الشرق الأوسط. والمؤلّفان يدرّسان إدارة الأعمال في جامعتيْن منفصلتيْن، ومن الواضح ألا خلفيّة لهما في دراسة الشرق الأوسط، وأن معرفتهما بأوضاع لبنان أقلّ من سطحيّة. والمراجع المُدرجة في المقالة خبط عشواء (أو «خبيصة» كما يُقال بالعاميّة): إذ إن المؤلّفين لا يميّزان في نوعيّة المراجع ومستواها، كما أنهما لا يلمّان باللغة العربيّة. والمقالة لم تأتِ بجديد وافتقرت إلى معلومات كان يمكن أن تكون بالمتناول لمن هو ضليع بالكتابات الأكاديميّة وحتى الصحافيّة عن لبنان، حتى الإنكليزيّة. فجمع الكاتبان ما هبّ ودبّ من مقالات متفرّقة، من الإنترنت ومن الصحافة اللبنانيّة المُترجمة، ومن الكتابات العامّة عن الفساد، ولم ينسيا أن يستشهدا بابن خلدون، مثل كل أكاديمي غربي يريد أن يظهر مظهر العارف بخبايا الشرق الأوسط. أكثر من ذلك، فإن الكاتبين لم يتعرّضا إلا إلى القليل من حجم الفساد الذي رافق حكم رفيق الحريري. إن المقالة كان يمكن أن تكون أقسى بكثير في تناولها الفساد الذي صاحب دخول الحريري إلى المعترك السياسي بما يناقض أسس الديموقراطيّة، لأنه اعتمد على أركان ثلاثة: الفساد المالي (وهناك أنواع مختلفة منه)، الاعتماد على التدخّل الخارجي لتقوية الموضع، واستعمال سلاح الطائفيّة والمذهبيّة لتعزيز الموقع الطائفي في الحكملكن الأفظع لم يكن في المقالة بحدّ ذاتها. بل في الظروف والاستعراضات والمواقف التي أحاطت بها أو رافقتها أو تلتها. أين تبدأ؟ من الاعتذار المُذل لباسكال لحود نفسها؟ من اتفاق سليم الحص وسعد الحريري على الاستنكار والاستفظاع؟ وهل يجوز في بلد يزعم الديموقراطية (أو الحريّة، كما يميّز سليم الحص) أن يقوم أهل السياسة بالتدخل في أقوال مؤتمر أكاديمي في جامعة مُرخّصة؟ أو في الطلب من إدارة جامعة بالإدانة، أو قيام رئيس مجلس الوزراء بالمطالبة بمحو «الإساءة»؟ ثم هناك تمّام سلام. ماذا تقول في وزير الثقافة السابق ما لم يُقل؟ هل تعود إلى ما قبل لقائه واتفاقه (البريء من الهوى والغرض طبعاً، طبعاً) مع سعد الحريري عندما كانت مواقفه لا تختلف في شيء عن مواقف فايز شكر؟ ثم متى كان تمام سلام حجّة في الأمور الأكاديميّة؟ أما طارق متري، فتلك مسألة أخرى. يجب أن تعود إلى ما قبل حرب تمّوز وقبل أن يكتشف طارق متري حب الحياة لتقرأ ماذا كان يقول عن المقاومة وعن سوريا. وعليك بعدئذ أن تسأل طارق متري عن سبب التحوّل المُفاجئ. هل كان السبب الذي أبطل العجب كتاباً مُقنعاً (من تأليف سعد أو نادر الحريري مثلاً؟) أو هل كان التحوّل من وزير إميل لحّود إلى وزير هاني حمّود تحوّلاً فلسفياً حدث تحت ظلال الزيزفون؟ أم ماذا؟ ثم اختار وزير الحريّات الإعلاميّة على الطراز الحريري أن يقرّع أمام الإعلام أكاديميّة فقط لأنها استشهدت بمقالة أكاديميّة تضمّنت نقداً خفيفاً لرفيق الحريري وإسهامه في الفساد في لبنان؟ اتّهمها بـ«الخفّة». الخفة، يا طارق متري؟ وهل هناك خفّة أخف من نقلتك من كنف إميل لحّود إلى كنف هاني حمّود؟ وتحدّثت عن الرصانة الأكاديميّة. ومن يحدّدها يا طارق متري؟ ولو عرفت شيئاً عن طبيعة العمل وعن الحريّة الأكاديميّة لعلمت أنها لا تخضع لمعيار واحد، وأنها تخضع فقط لمعايير يتفق عليها الأكاديميّون والأكاديميّات أنفسهم (وأنفسهن) من دون أي تدخّل ـــــ أو تطفّل ـــــ من سياسيّين حتى لو كانوا من حملة الشهادات ومن حملة المذكّرات ـــــ الأوامر الصادرة عن مكتب هاني حمّود. ثم يا طارق متري: الكلام في مواضيع الحريّات يحتاج إلى مصداقيّة، وهي غير متوافرة عند صاحب مشروع إحداث منصب الرقيب الأعلى على الإعلام في لبنان.
الطريف عند فريق الحريري في لبنان أنه يستسهل إطلاق وصف «الشموليّة» على أعدائه. والشموليّة عندهم هي في معارضة المشيئة السعوديّة، وهذا ينطبق على معيارهم للديموقراطيّة التي تعني التوافق مع المشيئة الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة وعدم «تقديم الذرائع لإسرائيل» ـــــ أي الاستسلام الكامل أمام إسرائيل. وهؤلاء الذين لم يسمعوا بحنة أرندت أو بكارل فريدريك يكرّرون وصفهم لحزب الله بـ«الشموليّة». يستطيع الحزب لو شاء أن يردّ عليهم كما ردّ العظيم روبسبيير في خطاب له أمام الجمعية الوطنيّة في الثامن من «ثرميدور» في السنة الثانية (26 تموز من عام 1794) على من اتهمه بالطغيان بالقول: «لو كنتُ طاغية لكنتم تتمرّغون تحت قدميّ».
لكن الشموليّة تنطبق بحق على مشروع الحريريّة في لبنان منذ تولّى رفيق الحريري رئاسة الحكومة في لبنان. والشموليّة كمصطلح سُكّ في العشرينيات في إيطاليا للدلالة على الحركة الفاشيّة، لكن دراساتها الجادّة بدأت في ما بعد. حنة ارندت درست الموضوع في كتابها «أصول التوتاليتاريّة» وإن كان عالم السياسة في جامعة هارفرد، كارل فريدريك، هو الذي أدرج المصطلح في منهج أكاديمي مستقل في سياق الحرب الباردة. والموضوع تعرّض للدراسة الأكاديميّة على يد العالم الألماني ـــــ الأميركي، كارل فريدريك، في المؤتمر الذي عقده عام 1953 في أكاديميّة الفنون والعلوم الأميركيّة. نشر المداولات في كتاب، ثم عاد ونشر مع تلميذه زبغنيو برجنسكي كتاب «الديكتاتوريّة الشموليّة والتسلّط»، الذي مثّل المرجع الأكاديمي عن الموضوع. اعتمد المؤلفان على عناصر محدّدة يكتمل بوجودها، معاً، النظام التوتاليتاري: 1) أيديولوجيّة رسميّة تغطّي كل جوانب الحياة الإنسانيّة، والتي تُفرَض فرضاً على المواطن والمواطنة وتفترض الاعتناق التام ـــــ لكن تيقّن ذلك مستحيل. 2) وجود حزب رسمي واحد تحت قيادة شخص واحد (تعرّض هذا البند للانتقاد والتعديل إذ إن عدداً من الخبراء في شأن الاتحاد السوفياتي رأى أن نموذجاً من الحكم الجماعي ساد في حقبة ما بعد ستالين، وقد وعى فريدريك الأمر عندما أصدر الطبعة الثانية من الكتاب في الستينيات) ويقوم الحزب بدور كهنوت الأيديولوجيا الرسميّة. 3) إقامة نظام بوليسي إرهابي يعتمد على التكنولوجيا الحديثة من أجل التجسس والمراقبة واستخدام التعذيب والقتل عقاباً. 4) السيطرة التامة من الزعيم والحزب على وسائل الإعلام. 5) احتكار السيطرة على القوات المسلحة. 6) السيطرة المركزيّة على الاقتصاد.
طبعاً، تعرّض المنهج لانتقاد، وخصوصاً في استخدام المعايير، أو في تطبيقها بالأحرى، وخاصة أن جين كيركباتريك (سفيرة رونالد ريغان في الأمم المتحدة) ألفت كتاب «الديكتاتوريّات والمعايير المزدوجة» التي قبلت فيه بالمعايير المزدوجة حمايةً للأنظمة الديكتاتوريّة المُوالية للمشيئة الأميركيّة. أما حنّة أرندت فإن نظريّتها في دراسة التوتاليتاريّة تركّز أكثر ما تركّز على الهيمنة والسيطرة الأيديولوجيّة. قد يقول قائل (أو قائلة) إن الموضوع خارج سياق الهيمنة الحريريّة. وهذا صحيح فقط بالنسبة إلى فشل المؤسّسة الحريريّة السياسيّة في تطبيق رؤيتها للدولة والمجتمع في لبنان. لكن نستطيع أن نستشف الرؤية الشموليّة في مشروع الحريري منذ تبوأَ الحريري رئاسة الوزراء، وكان مطلبه الأول من راعيه السوري ـــــ كدنا ننسى أن الراعي الثاني للحريري كان النظام السوري بأجهزة استخباراته ـــــ هو الحصول على الحق الإمبراطوري في إصدار المراسيم الاشتراعيّة. أي إن رفيق الحريري أراد أن يركّز في يديه السلطتيْن الاشتراعيّة والتنفيّذية، كما أنه أصرّ أيضاً على التسلّط على الجهاز القضائي من خلال وزارة العدل (بالإضافة إلى شرائه السلطة الرابعة). ونستطيع أن نقيس الطموحات الحريريّة (في عهد رفيق وفي عهد من نصَّبه النظام السعودي مكانه) بميزان سمات التوتاليتاريّة فنقول: إن رفيق الحريري أراد نشر أيديولوجيّة شموليّة من حيث الإصرار على السيطرة على كما مرافق الدولة والمجتمع، بالإضافة إلى إعطاء رأي رسمي في كل جوانب الحياة. فللمؤسّسة الحريريّة رأي في الفن المُعتمد والغناء المُعتمد والدين والمذهب المُعتمد والجماليّات المُعتمدة. حتى الألوان، فللحريريّة رأي فيها يسري على العامة. ويصح قول فريدريك وبزنسكي في إصرار الأيديولوجيا المُسيطرة على الاعتناق التام. وليس شعار «زي ما هيّي» إلا النموذج. أي إن تيار الحريري (المستقبل لاحقاً) لم يكن يسعى وراء التأييد الانتخابي، بل وراء التأييد الانتخابي التام والمطلق. وقد نجح في ذلك أيما نجاح من حيث القدرة على منع التشطيب إلى درجة قلّ نظيرها في الانتخابات النيابيّة، حتى عندما خاض «مستقبلي» سابق، مثل مصباح الأحدب، الانتخابات بدون مباركة الزعيم الحريري. والاعتناق التام يعني أيضاً أن محبّة المناصرين لآل الحريري ليست كافية، بل إن المحبّة يجب أن تكون تامّة. والتفجّع على رفيق الحريري لا يمكن أن يكون عاديّاً: بل أن يفوق تفجّع الخنساء. والحضور في كل احتفالات التيّار ومناسباته هي واجبة دوماً، والتخلّف قد يعرّض المسؤول إلى محاسبة أو حبس مكافآت. أما البند الثاني، فهو ساطع في حقيقته. كان رفيق الحريري يسيّر كل شؤون تيّاره بنفسه، بالتنسيق مع النظاميْن السعودي والسوري، وقد حرص طيلة سنوات حكمه على إرضائهما (تظن جوقة الحريري، مثل كتابات حسن صبرا عنه، أن الكلام عن انتقاد للنظام السوري بالسرّ والهمس من جانب رفيق الحريري يزيد في هالته بدلاً من إنقاصها). ويقول نائب في كتلة الحريري إن اجتماعات كتلة نوابه كانت صوَريّة: يأتي الحريري لدقيقة من أجل أخذ الصور، ثم يغيب. أما خَلَفه فلا قدرة ولا طاقة له على تسيير الأمور: لهذا فإن النظام السعودي (راعيه الأوحد بالاتفاق مع راعي عمليّة «السلام» الأميركي) يُقرّر بالنيابة عنه، فيما يشارك في صنع القرار فريق عمل وذلك بسبب عجز «القائد» الصوري وضعفه. لكن منهج التوتاليتاريّة لا يتنافى مع القيادة الجماعيّة مع أن قيادة الحريريّة ليست جماعيّة بمعنى الاشتراك الجماعي في صنع القرار. ولكن من المؤكد أنه ليس هناك رجل واحد يتخذ القرار، وهذا ساعد وليد جنبلاط في سنوات الغشاوة ـــــ أو سنوات ما بعد الغشاوة، لم أعد أذكر ـــــ على لعب دور كبير بالتنسيق مع الأمير مقرن وعزيزهم «جيف».
جهدت الحريريّة للسيطرة على كلّ وسائل الإعلام ودمّرت الإعلام الرسمي لعدم إمكان الطواعية
وقد حاول الحريري منذ وصوله إلى السلطة السيطرة على أجهزة الأمن والاستخبارات مستعيناً بالحليف السوري، إضافة إلى دفق الأموال غير الخاضع للرقابة في بلد فاسد مثل لبنان. وجهاز أو فرع المعلومات حصل (دون المرور بالدولة) على دعم مالي وتقني غربي وعربي لتسهيل السيطرة. لكن طموحات العائلة الحريريّة تكسّرت، مثل طموحات بشير الجميّل الإسرائيليّة، على صخرة الانقسام الطائفي والسياسي الذي يمنع فئة أو جهة واحدة من فرض سيطرة كليّة، رغم كثرة المحاولات، كما أن هذا العامل هو الذي منع تكرار تجربة سيطرة الديكتاتوريّة في لبنان على غرار الدول المجاورة. وفي فترة سعد الحريري كان المُعد من جانب السعوديّة وأميركا أن يحتكر جهاز المعلومات عمل الاستخبارات والتجسّس في الدولة، ولكن لم يكن لهم ما أرادوا.
أما في وسائل الإعلام، فتبرز النزعة الشموليّة بوضوح. ليس هناك من رأي آخر في التسلطيّة الحريريّة. وقد برز ذلك حتى في مشروع الحريري لمؤتمر الطائف الذي جاء فيه: «بحكم مسؤوليّتها عن الأمن من الضروري ألا تسمح الدولة اللبنانيّة القادرة بأي تشويش إعلامي ضد الدول العربيّة الشقيقة وخاصة سوريا...» (جورج بكاسيني، «أسرار الطائف»، ص. 76). من مِن صحف لبنان لم تتلوّث بمال الحريري؟ معظم الصحف تمتّعت في وقت ما، أو لا تزال تتمتّع، بالدعم الحريري، وذلك لأن رفيق الحريري ومن أتى بعده، لا يريد أن تبرز وجهات نظر أخرى، أو انتقادات للمسار الحريري وتحالفاته. جهدت الحريريّة للسيطرة على كل وسائل الإعلام دون استثناء، كما أنها دمّرت الإعلام الرسمي لعدم إمكان الطواعية. والإصرار الحريري بالتنسيق مع الإعلام السعودي على السيطرة الكليّة على كل وسائل التعبير دليل إضافي على الشموليّة الإعلاميّة. وهي تلجأ اليوم إلى عزو كل موقف عربي (فردي أو تنظيمي) معارض للمشيئة السعوديّة ـــــ الإسرائيليّة إلى مخطّط فارسي. كما أن وسائل الإعلام الحريريّة تخدم المخطّط السعودي ـــــ الإسرائيلي: لم تلاحظ وسائل الإعلام اللبنانيّة، مثلاً، أن فارس خشّان (الإعلامي الحريري ـــــ السابق؟ ـــــ) زها على موقعه هذا الأسبوع أنه يرفض كل الاتهامات القضائيّة ضد عملاء إسرائيل في لبنان، ويناهز عددهم الثمانين. موقف بريء هو هذاأما السيطرة على القوّات المسلحة فقد بدأها الحريري مبكّراً عبر تمويل خاص منه لقطاعات في الجيش. وهذا التمويل يمثّل مخالفة دستوريّة في أي بلد من العالم، وخصوصاً أن القوات المسلحة يجب ألا تكون واقعة تحت تأثير رأس المال، وإلا فإن أصحاب المليارات في لبنان يمكن أن يشكلوا ألوية خاصّة بهم، تأتمر بإمرتهم دون حسيب ولا رقيب. مرّة أخرى، لم تنجح الحريريّة في السيطرة على القوات المسلحة، وأدى الخلاف بين إميل لحّود ورفيق الحريري إلى تحويل الاهتمام إلى قوى الأمن الداخلي. وأخيراً، فإن الحريريّة سعت وتسعى إلى السيطرة على الاقتصاد في لبنان. لكن هناك من يقول إن الحريريّة تؤمن بالاقتصاد الحرّ، وهذا غير صحيح. لا تؤمن الحريريّة بتنافس رأس المال الحرّ، بل بتوجيه الاقتصاد وفق مصالح ماليّة عائليّة خاصّة.
الحريريّة تحوّلت بصريح العبارة إلى أكثر من حالة شموليّة. هي دين. هاني حمّود يقول في حديث إذاعي إن رفيق الحريري «حالة لا تتكرّر». يعني الأنبياء يتكرّرون ورفيق الحريري لا يتكرّر. الزعماء التاريخيّون يتكرّرون، لكن رفيق الحريري لا يتكرّر. وتبدو مظاهر تحويل الحريريّة إلى دين في أكثر من مظهر: من طقوس زيارة الضريح (وتحويله إلى مزار من تخطيط مُهندسي عبادة الشخصيّة في بعث صدّام أو في كوريا الشماليّة) إلى نفحة تحويل «البطل» إلى مُخلّص سيعود من الآخرة (كما جاء في قصيدة للشاعر الملهم جورج بكاسيني عندما وصف الحريري بأنه بطل «راجع عضهر حصان»). يمكن أن نتوقّع في سنوات قليلة ظهور البكّائين المحترفين والمتفجّعين بالأجرة على شاشات التلفزة للادعاء أن الحريري حقّق معجزات وقام بأفعال خارقة في حياته. قد يُقال إنه شفى المرضى وأحيا الأموات. لمَ لا؟ إذا كانوا يزعمون أن الذي كان يعمل جاهداً للقضاء على المقاومة هو نفسه مقاوم وأنه «شرعن» المقاومة (وكأن المقاومة تكسب شرعيّة بغير أفعالها هي، من دون منّة أو قرارات أو كنف السنيورة). إذا كانوا يزعمون أن حليف الاستخبارات السوريّة في لبنان كان رمزاً للسيادة. لمَ لا.
هذا لا يعني أن لبنان يقترب من حكم الشموليّة الحريريّة، لكن التحذير ينفع. لو تسنّى الحكم لهؤلاء، لسلّموا المفاتيح إلى الأمير مقرن، ولجعلوا من لبنان إمارة على شاكلة الإمارات النفطيّة، وخصوصاً أنهم نصّبوا لأنفسهم سلالة حاكمة. لكن خطط السيطرة الكليّة تبوء بالفشل، وتولّد حركات معارضة قاسية. والحاكم الجديد، بدلاً من أن يصبح مثالاً عربيّاً قادراً في الحكم، تحوّل قبل أن ينال الثقة إلى «مزحة» على الإنترنت. إنه لبنان.
ملاحظة ـــــ يمكن فؤاد عبد الباسط السنيورة أن يقرأ المقالة بـ«اللغا اللبنانيّي» تسهيلاً للفهم.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)