سعد الله مزرعاني *يستعيد فريق سياسي لبناني، بما يشبه «الكز» (النسخ) مفردات مرحلة سابقة من الصراع في لبنان وتعابيرها ومصطلحاتها. المخضرمون لا يجدون صعوبة في تكرار ما شبّوا عليه. والجيل الجديد يستسهل النقل، إذ إنّ الابتكار دائمًا أصعب، ويحتاج إلى إعمال لا إهمال.
ما يُستعاد هو، ببساطة، إسقاط ما كان يُتّهَم به «الفلسطيني» على لبناني من فريق مناوئ وخصم. لا يجد «الشيخ» و«الحكيم»، وقبلهما البطريرك صفير، ما يفترض التمييز بين «الغريب» وابن البلد. هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون، فالمسألة أخطر. نعم، أخطر وإلى أبعد الحدود. فهل هناك أكثر تطرّفًا وغلوًّا وافتئاتًا على الحقيقة والمصلحة الوطنية، من إنكار دور المقاومة في تحرير الأرض وفي استعادة سيادة الدولة عليها ولو بشروط استمرار المقاومة حتى تحرير ما بقي من الأرض اللبنانية التي ما زالت رازحة تحت الاحتلال؟!
ثنائية الدولة والمقاومة تطرح ها هنا، مرّة جديدة، وبطريقة لا تستند في مبرّراتها إلا إلى المنطق الشكلي فحسب: تناقض ما هو شرعي مع ما هو شعبي، وتعارض سلاح المقاومة مع سلاح الجيش، وتضاد وجود المقاومة مع بناء الدولة.
يتجاهل هذا المنطق تجاهلاً غير منطقي، وقائع ومعطيات ملموسة، قديمة وراهنة، في الوضع اللبناني. وهو في غلوّه وفئويته وتطرّفه يتحوّل منطقًا مرَضيًا: لأنّه يبحث عن السيادة في غير مكانها، وعن الاستقرار بمعزل عن أدواته وشروطه، وعن بناء الدولة دون الاعتراف بفعل التحرير في وجودها من أساسه.
ثنائية الدولة والمقاومة هي الاشتقاق الصحيح للتعاون الذي كان لا بدّ منه، لمواجهة عدوّ يملك تفوّقًا حاسمًا في مجال الحرب التقليدية، أي الحرب التي يمكن أن تنشب بين الجيوش. هذا أمر اختُبر، وهو ليس مجرّد استنتاج نظري. لقد احتُلّت عاصمة لبنان وأجزاء واسعة من بلدنا. واستمرّ الاحتلال لمناطق واسعة من لبنان لمدّة اثنين وعشرين عامًا. ويستمرّ الاحتلال الآن لبعض أرضنا في مزارع وتلال شبعا وكفرشوبا.
وكما اختُبِر الاحتلال في استراتيجية العدو الصهيوني وسياساته حيال بلدنا، اختُبرت المقاومة. وكما كان الاحتلال عدوانيًا ومدمّرًا وهمجيًّا ومكلفًا، كانت المقاومة فعّالة وقادرة على فرض الانسحاب غير المشروط على العدو بعد تكبيده الكثير من الخسائر المادية والمعنوية.
تكامل جهد الجيش النظامي في فيتنام الشمالية مع جهد حركة «الفيتكونغ» الشعبية في فيتنام الجنوبية
وفق اختبارات ومعادلات الصراع الذي عاناه شعبنا وبلدنا بسبب العدوان والاغتصاب الصهيوني، حضرت المقاومة حين حصل العدوان وحين غابت الدولة طوعًا أو قسرًا أو قصورًا، عن القيام بدورها وبواجبها. طرح ذلك، ولا شك، مسألة علاقة المقاومة الشعبية بالسلطة. وهذا الأمر، في التجربة اللبنانية، ذو خصوصيات متعدّدة، فضلاً عمّا هو عام وشبه مطلق في تجارب عديدة، بعضها ما زال ماثلاً في الأذهان وفي تجارب التاريخ. ففي التجربة السوفياتية تكامل الشعبي مع النظامي في مرحلتي الدفاع عن الثورة في وجه التدخّل الأجنبي، ثم في مرحلة مواجهة الاجتياح النازي في الحرب العالمية الثانية. وفي التجربة الفيتنامية تكامل جهد الجيش النظامي في فيتنام الشمالية مع جهد حركة «الفيتكونغ» الشعبية في فيتنام الجنوبية. وكلتا التجربتين، السوفياتية والفيتنامية، صنعتا إنجازات وانتصارات تاريخية مذهلة.
في التجربتين المذكورتين أُنشئت المقاومة بقرار من السلطة الشرعية (في التجربة السوفياتية) أو بالتكامل بين السلطة الرسمية والمقاومة الشعبية (كما في التجربة الفيتنامية). لكنّ الأمور لا تسير بالضرورة على هذا المنوال، في كلّ الظروف والتجارب. فقد تنشأ المقاومة بعد انهيار السلطة، أو خيانة الفريق الحاكم (كما في النموذج الفرنسي الذي انتفض عليه الجنرال شارل ديغول). كما قد لا تنشأ المقاومة أبدًا، أو أن يكون نشوؤها غير مستوف شروط الانتصار فيقع البلد والشعب المعني تحت مهانة المحتل وذلّه لسنين أو لعقود أو لقرون...
وفي الدخول أكثر في التجربة اللبنانية، يتّضح أنّ ما هو عام في ضرورة نشوء المقاومة لمواجهة الاحتلال، ينطبق بشدّة على ظروف تجربتنا ومعاناة شعبنا مع العدوّ الإسرائيلي. ويُسجَّل لقوى من شعبنا، من اتجاهات متعدّدة ومتباينة، أنّها أحرزت إنجازات وانتصارات مدهشة وغير مسبوقة في الصراع العربي ــــ الإسرائيلي ضدّ العدوّ الصهيوني المحتل. حصل ذلك في مراحل متعدّدة ومتلاحقة ومتصلة. وحصل ذلك في مجرى صراع داخلي وحرب أهلية ذات أسباب خارجية أيضاً. وحصل ذلك في مرحلتَي انهيار السلطة وتعطّل مؤسسات الدولة وشللها، وكذلك في مرحلة محاولة إعادة بناء السلطة والمؤسسات، وعبر شكل من أشكال «التناغم» بين السلطة الرسمية والمقاومة الشعبية. ولقد صادف أنّه في كلّ المراحل، ورغم اختلاف المعطيات والعلاقات، استطاعت المقاومة بشقّيها الوطني والإسلامي أن تحرز الثمين والنوعي من النجاحات والانتصارات.
في مجرى هذه العملية الممتدّة والمستمرّة، يجب أيضًا ملاحظة ما كنّا قد أشرنا إليه في البداية، من أنّ المقاومة والتحرّر عاملان أساسيان في استعادة السيادة الوطنية أو في تعزيز هذه السيادة. هذا من حيث المبدأ ومن حيث الوقائع الملموسة أيضًا. لكن مع ذلك، لا يجوز إهمال «الخصوصيات» اللبنانية هنا أيضًا. والإهمال قد يأخذ شكلين: الأوّل، واقع عدم حصول ترجمة طبيعية لانتصارات المقاومة في توازنات السلطة، بحيث ظلّت المقاومة أكبر بكثير في فعلها وحجمها، من دورها وحضورها في سلطة القرار الرسمي. والثاني اندماج المقاومة في شقها الإسلامي، من حيث شاءت أم لم تشأ، في منظومة الانقسام الداخلي المتجسّدة في آليات عمل المؤسسات الناجمة بدورها، عن النظام الطائفي اللبناني. هذان الأمران هما في أساس الشق الداخلي من الاعتراض من فريق سياسي لبناني على دور المقاومة وسلاحها وجهوزيتها حتى في صيغتها الدفاعية الراهنة. وهذا الاعتراض يتغذّى، كما هو معروف، من الخارج (أي خارج في مرحلة التوترات الكبرى!)، كما يستدرج التدخلات الخارجية بغرض البقاء أو الاستقواء أو الغلبة أو الاستخدام...
لا بدّ من بقاء المقاومة، ولا غنى عن إنهاض الدولة. هذه عملية ذات طابع دفاعي مزدوج. أوّلها ضدّ العدو الإسرائيلي الذي يجب أن تتوحّد ضدّه الجهود الشعبية والرسمية. وثانيها، أي إنهاض الدولة، في وجه الدويلات الطائفية والمذهبية التي تستمرّ في النموّ على حساب الدولة ووحدتها ومؤسساتها، وحتى على حساب سيادتها، وعلى نحو متصاعد ومتفاقم الحجم والخطورة.
يتأكّد في امتداد ما تقدّم أنّ قوى المقاومة مطالبة أكثر من سواها، بتصحيح الاعوجاج، بوصفها صاحبة قضية تتعدّى في تأثيرها وأسبابها الوضع اللبناني. يجب ألا يعني ذلك، كما يفعل البعض، التقليل من أهمية لبنان، كبلد وكيان، بل تعزيز الإنجازات اللبنانية، والحفاظ عليها، ووضعها في المكان الصحيح، محليًا وعربيًا، في خدمة التحرير والاستقلال والحرية من جهة، وفي خدمة التخلّص من عوامل التفتيت والفرقة والانقسام التي يستخدمها الأعداء على أوسع نطاق، من جهة أخرى.
إنّ بعض الخطوات الإصلاحية باتت ضرورية إذاً، من أجل تحرير مسيرة التحرير من إعاقات تستفيد منها قوى اجتماعية طفيلية داخلية، وتستخدمها قوى متربّصة خارجية، في مشاريع السيطرة والنهب والاستغلال.
بعض ما يُطرح من عناوين إصلاحية وبعض ما أُنجز في مجلس الوزراء، هو خطوة في الاتجاه الصحيح. وهذا أمر يجب أن يأخذ أيضًا طريقه، وتمثّلاً بالتجربة اللبنانية، إلى المدى العربي والإسلامي الأوسع!
* كاتب وسياسي لبناني